Culture Magazine Monday  26/03/2007 G Issue 192
عدد خاص
الأثنين 7 ,ربيع الاول 1428   العدد  192
 
غيابها
إبراهيم الحسين

 

 

غيابها ليس أكثر من بقائك وحيدا، ليس أكثر من مكوث قدح الشاي في يدك طويلا، إصغاؤك إلى قطرة الماء التي تسقط، قفز خطوط السجاد إلى عينيك كما لو أن يدا خطّتْها للتوّ؛ فبدتْ أكثر بياضا، ذهابك في التفاتةٍ طويلة تَنْتَبِهُ إلى مبالغتك بها متأخرا ما يجعلك تدير وجهك إلى جهةٍ معاكسة - فقط - لتكون عادلا.

أنت لا تفكر فيها على الإطلاق، بل على العكس من ذلك تماما، فالفراغ الذي أحدثَهُ يقينُ عدم وجودها، كان كافيا لأخذ انتباهك من يدِّ كلِّ ما سواه، كافيا لأن تفكّر فقط أن الهواء الذي يمرّ لا يحمل رائحتها، أن عينك ترى كل شيءٍ فيما عداها، أنّ عينك تسقط على قاع الشيء وتجده خاليا منها.

غيابها لا يؤثّر فيك أبدا، حتى وإنْ كنتَ تمضي من حجرةٍ إلى أخرى دون أن تدري سببا لذلك، أو تشرب شايا أكثر من المعتاد، حتى وإنْ كانت سجائرك تنفد أسرع مما اعتدتَ أن تفعل، فذلك لا يعني أن غيابَ امرأةٍ قد أثّرَ فيك، أو خرج بالأمور عن طبيعتها.

ليس في وسعك القول إن غيابَها يشغلك، أو أنك تكترث لهذا الغياب. صحيحٌ إنك ترغب لو أنها قريبة منك، وتودّ لو تتحدّثان في أمورٍ وإن كانت تافهة، أو يَعْمُقُ صمتُكما حتى لتسمعَ صوتَ تنفّسِها.

غيابها لا يشغلك ولا يمكن أن يكون كذلك، كل ما في الأمر أنك لا تسمع صوتها، أنّ وجهها لم يعد مرئيا، أن يدك التي تمدّها لا تلمس غير غيابِها، وأنك تدرك عمق العبث بفكرة الشروع بمناداتها. تدرك أن غياب امرأةٍ لا يُعَدّ شاغلا للذي يؤمن مثلك بأن غيابَها يسيرٌ جدا، وأنه ليس أكثر من أن امرأةً غابتْ ولم تنسَ أن تأخذ معها صوتَها وصمتَها، رائحتها، ضحكتها، اضطرابَها وأشياءَ أخرى؛ تركتْ المكانَ عاريا ولم تدع لك حتى مجرّدَ قدرتك على التفكير فيها، لم تدع لك إمكانية أن تنشغلَ بها أو تكترث.

غيابها لن يكون أكثر من تفاقم وحدتك، تتأمل مكانا خاليا لا تدري ما تفعل به.

غيابها، أو سعيُكَ في المكان؛ تحسب، أو تملأ نفسك ذاتها بوهم الالتفاف حول ظرفِ غيبتها، تروح تفتح النوافذ استجلابا للهواء بعد أن اقتحمتْ مياهُ غيبتها رئتيك، فلا أحد يتحدث إليك ولا تتحدّث إلى أحد، ولا ترغب، لا تريد، أو لا تحسن التصرّفَ في المساء الخالي الذي يملأ يديك.

كلّ ما هناك أن الوقت يمرّ تحت عينيك، كما كان قبلَ غيابها، وأن ذلك الغياب لا يُعدّ عقبة تعترض طريقَه، وأن بشرتها ليستْ في مَطَال اليد، أن صوتها لا يقرع أذنك وأنك قلِقٌ قليلا حيال أمور غامضة لا تتعلّق بغيبتها التي تزمع فصلها عن جسدك، تفعل ذلك كأمرٍ بسيطٍ وغير مُقْلِقٍ، كأنك تنضو ثيابك التي تعلّقها فتتأرجح قليلا - فيما تبتعد أنت - ثم تهجع.

كلّ ما هناك أنّ وقتا قد مرَّ - يمكن أن يُعدّ طويلا - دون أن تقع عليها العين، أنها لفّتْكَ في خرقةِ صمتِك، ومضتْ.

تريد النهوضَ ولا تقوى عليه، لأنّ غيابا كاملا يضغط على كل جسدك، يهدم كل رغبة في الحركة لديك، يقطع طريق النهوض.

تنامُ وليس هناك ما يؤرقك أو تفكّر فيه.. كل ما هناك أنك نمتَ في مكانٍ هي في مكانٍ غيره، تتوسّد يقينَ أن عينها لن تسقط عليك طوال هذا النوم ولو بشكلٍ عابر، تتمسّك بالحياة وتستيقظ فتعرف أنك نمتَ في مكان هي في مكانٍ غيره وأنّ عينها لم تسقط عليك، وأذنها لم تأخذ غطيطَك.

كل ما هناك أنك بين غرفٍ خالية لستَ معنيا بها ولا بالضوء إذْ ينهلّ من النوافذ ويتهالك منتظرا في الممرات، يذبله عجزُه عن العثور عليها؛ فيهوي بعمقٍ في غيابِها.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة