Culture Magazine Monday  26/03/2007 G Issue 192
عدد خاص
الأثنين 7 ,ربيع الاول 1428   العدد  192
 
مغامرة الكتابة
وتشكلات الصور الشعرية

 

 

تتميز التجربة الشعرية الحديثة في المملكة بخصوصيتها، ومذاقها ذي النكهة الخاصة وذلك في تعاطيها الفني، وفي تناغمها مع قضايا وممكنات الواقع المعيش، وما يكتنفه من تحولات عمقتها الثورة المعلوماتية، التي يحياها إنسان ذلك العصر يعايشه من تغيرات وقفزات اجتماعية وثقافية ومن ثم فإن شعرية النصوص تنفتح على أشكال منوعة من آليات التشكيل الفني، الذي تشع منه مذاقات مميزة، لخطابات شعرية تجمع بين أصولية الفن وحداثية التجربة، والصورة الشعرية بطابعها الانزياحي، تعد واحدة من تلك الآليات التي تسهم في تعميق شعرية النص، فيوظف الشعراء الصورة، كآلية فنية تحقق قدراً من المغامرة الإبداعية، التي تمثل انزياحاً عن المألوف والمعهود في ذاكرتنا التراثية إذ تهدف الصورة الشعرية إلى التجاوز والاختلاف وتحطيم خطية النموذج الصوري لتطرح بدلاً منه نموذجاً صورياً مغايراً ينأى بالنص الشعري عن الانغلاقية، ويحرره من قيود الاستاتيكية، ليفتح للنص آفاقاً دلالية جديدة، ويجعله منشغلاًَ بديناميكية خاصة، تحقق له اتساع الرؤيا وتعددية التأويل، ففي قصيدة (لا أقل ولا أكثر) يأتي العنوان متوافقاً على المستوى الكمي مع مساحة النص الذي يتشكل من صورة جزئية متواترة يقول:
يدركونَ بأنا خُلِقْنا
ببعضِ ملامحِهِمْ
التشابهُ فخُ الكنايةْ
والبساطةُ أغنيةٌ..
والشاعر يلجأ إلى تكثيف الحدث الشعري الذي يتولد مع انبثاق القصيدة، عبر الصياغة المركزية (يدركون) وهي صياغة فاقدة المرجعية تشير (لأنا جماعية) غائبة تمارس سلطتها من بعيد، عبر صراعها مع (أنا الفرد) الدالة على (أنا الجماعة): (بأنا خلقنا) وتأتي البنية التعبيرية في السطر الشعري الثاني (ببعض ملامحهم) لتمثل مفصل الصراع بينهما، وتتجسم حالة التكثيف الشعري، التي تنسل فيها جملة من الدوال، التي تبرز عبر الاقتصاد اللغوي، فيصبح تكثيف الحدث إشارة إلى تكثيف الرؤية الشعرية، التي يكون لها تأثيرها على توظيف الأداة الشعرية، بصورة مقتصدة ونتيجة لذلك تشظت الصورة الكلية إلى صور جزئية، من خلال التفتيت الذي يصيب المشهد الشعري ويحوله إلى ثلاث مشاهد شعرية جزئية تفصل بينهما علامات فصل عددية، تقوم بتجزئة القصيدة ليمثل كل مشهد جزءاً من الرؤية الكلية التي يطرحها النص الشعري وتتميز هذه المشاهد بالتكثيف، الذي يجعل الشاعر يبلور رؤاه الفكرية، ويدمجها في مشهد شعري محدد الأسطر فالمشهد الشعري الأول يتكون من أربعة أسطر شعرية، يتعالق فيه السطر الشعري الأول بالسطر الشعري الثاني ليشكلا جملة شعرية واحدة، شطرت إلى نصفين تم توزيعهما على سطرين، ويمكن تجميعهما عبر الجملة التعبيرية (يدركون بأنّا خلقنا/ ببعض ملامحهم) ليفرز السطران الشعريان علاقة ارتباط تتصل فيها المعاني من خلال حرف الربط (الباء) في لفظ (ببعض) ثم تبرز فجأة آلية الفجوة في السطرين الشعريين التاليين، حين لا تجمعهما علاقة مباشرة بالسطرين السابقين، سوى توهم القارئ بعملية وجود علاقة بين السطرين وبين دال (التشابه) وهي علاقة ما تفتأ أن تتحطم من خلال علاقة الانزياح، التي تجمع طرفي الصورة (التشابه فخ الكناية) ليوحي التعبير بدلالات غامضة، تولدها عملية الوهم الشعري الذي تتنبه فيه (الأنا) الغائبة والمتخفية خلف الصياغة (يدركون) إلى (المعرفة) لتصبح عملية (التشابه) (ثبوتها أو انتفائها) هي المفتتح الذي جعل (أنا الغياب) تمارس سلطتها على (الأنا النصوصية) بما في ذلك من وهم التناص بين مكونات (الحالة الإنسانية) وبين مكونات (الكناية البلاغية) التي تصبح فيها عملية تمويه التشابه بين (الدال ومدلوله) ممثله لفخ القراءة.
بينما تتسع الفجوة بين الأسطر الشعرية، الثلاثة والسطر الشعري الرابع، بما يكتنزه الأخير من دلالة تشير للبساطة، التي يشبهها الشاعر بالأغنية، وبحضوره يتم تهميش الفكرة المركزية، التي تأسست عليها الصورة الشعرية، لتتحول من مستواها الغامض في الأسطر الثلاثة السابقة - التي تفرز فكرة فلسفية غامضة لم يتريث النص للإفصاح عنها - إلى مستوى بسيط تتبنى فيه الذات الشاعرة فعل الغناء، ليصبح فعلاً دالاً يمارس سلطته، ليفتح مجالاً لنتغنى (بالبساطة) أو لتصبح (البساطة) ذاتها هي الرمز الذي نقاوم به تصحر الفكر والإدراك وبما يشير إليه دال (أغنية) من فيوضات حسية ووجدانية، وبذا تمتزج أفكار الشاعر بمشاعره ووجدانه، لتشكل صورة فنية مولدة لرؤيته الكلية ولها بعدها الإيقاعي والانفعالي، القادر على مناوشة الوهم الشعري وقهره.
في قصيدة (الأرض أجمل في الأغاني) لجاسم الصحيح تعبر انزياحات الصورة التشكيلية عن أزمة الذات الشاعرة ومكابداتها في الواقع المعيش، وتتشكل القصيدة من مجموعة من الصور الجزئية التي تشكل الصورة الشعرية الكبرى، كما أنها تبلور وتختصر موضوع القصيدة والمحور الذي تدور حوله وهو ضياع (الحلم) في مقابل (الجفاف والتجاعيد) يقول:
(في عصرِنا هذا -
المقفَّى بالحديدِ الصُّلبِ
والموزونِ بالأسمنت..
لا لغة تترجمُ حالةَ الدنيا سوى لغة المباني!) ص4
يختفي الشاعر وراء الصورة الشعرية، ويبدو وكأنه معلم أو حكيم، يقدم للمتلقي خلاصة تجربته في الحياة، والصورة في محتواها الأيديولوجي تعري الزائف لتكشف عن الحقيقة وتفصح عما يوتر الذات، وتكشف عن مكابداتها وعذاباتها من خلال المجاز الشعري، الذي يبدو فيه (العصر) مثل القصيدة (في عصرنا هذا/ المقفى بالحديد والصلب).
وتتوازى أعمدة (الحديد الصلب) مع (الحروف الهجائية) التي تمثل قافية للقصيدة، لتتوازى بذلك الوظيفة الأدائية للحديد مع الوظيفة الإيقاعية للحروف، ويحل (الحديد) محل حروف القافية ويصبح (الأسمنت) هو (الأسباب والأوتاد)، (السكنات والحركات) التي تشكل نواة البحر العروضي، ويتم ذلك عبر جملة اعتراضية محصورة بين جملتين تتولد بينهما علاقات الارتباط البنائي والدلالي، ويمكن تشكيلهما عبر جملة شعرية طويلة (في عصرنا هذا لا لغة تترجم حالة الدنيا سوى لغة المباني) ولكن الشاعر يشطرها بجملة اعتراضية تمهد للجملة الأساس (المقفى بالحديد والموزون بالأسمنت) وعملية التحول المتوالدة عن الحركة المنبثقة من الجملة الثابتة إلى الجملة (المعترضة)، ثم استكمال الجملة (الثابتة) ترتبط بحالة التغني التي تتولد عن التنغيم والترنيم، التي تشير إلى استعذاب الذات لآلامها ومواجعها.
وهذا الإيقاع المفروز يتناغم مع مشاعر المتلقي وأحاسيسه، ويفتش في وعيه عن المواجع النائمة الهادئة، يثيرها ويهيجها، وهذه الإيقاعية توقظ ذاكرة المتلقي وتنشطها وتجعلها في حالة استدعاء لذكرياتها ومواجعها التي تتداعى على المتلقي في لحظة القراءة منسجمة مع تلك الأحداث غير المحكية، التي تكتنزها الصورة الشعرية وبذلك تتماس أحداث وذكريات منوعة متغايرة باختلاف المتلقين، في حين تبقى الصورة المشهدية ثابتة مكتنزة لطاقتها التي تظل يقظة متوهجة وتتوالد المتعة الجمالية نتيجة المضامين التي يفرزها الخطاب النصي، وتجعل المتلقي متفاعلاً معها منفعلاً بها، والصورة المشهدية هنا تتأسس على لغة تداولية مثل (الحديد - الصلب - الأسمنت - المباني) وهي لغة مسحوبة من مجال بعيد عن المجال الشعري، وهي لغة جافة - في حال نزعها من سياقاتها - لكنها تكتسب شعريتها من خلال الزج بها في نطاق شعري، فتصبح معبقة بالأحاسيس التي تشير إلى جفاف الواقع وتصحر الحلم.
وعلى الرغم من حضور التشكيل المجازي.. إلا أنه تشكيل يفرز قدراً من الجفاء بين الإنسان وذاته، وبينه وبين واقعه المعيش، وتأتي الدلالة مكتنزة لبعدين أحدهما جمالي والآخر قبيح، يتناميان عبر بنية المفارقة، حين يصنع الشاعر من عصرنا - على المستوى الوهم الشعري - قصيدة ولكنها قصيدة خرسانية مشكلة من (الأسمنت والحديد الصلب) ومن ثم يضيع الحلم وتتحول لغة الحب ولغة التحنان إلى لغة مبان أسمنتية، (لا لغة تترجم حالة الدنيا سوى لغة المباني)، فالصورة المجازية تتفجر منها طاقات اللغة الخلاقة التي أضفى عليها السياق شعرية خاصة، فجعلها مشعة بطاقتها الإيحائية لتعمق الشعور بالفكرة وفي المعنونة (قصائد) لعيد الحجيلي تتغيب القصيدة المتجذرة الدلالة، وتتوزع الدفقة الشعورية على عدة مشاهد أو صور تشبه البرقيات الشعرية، التي يضم الشاعر بعضها إلى بعض، ويزج بها في صندوق الرسائل الواردة، كرسائل قصيرة، معنونة بعناوين (شاعر وطني - نظرة - هيولى - نعي - نداء - شحوب) وهي صور شعرية تحمل دفقات فكرية ووجدانية، تشبه الومضة التي تبترق ابتراقات سريعة، لتسلم كل ابتراقة إلى ابتراقة تالية لها تتميز بلون جديد، وتتسم هذه الصور بالانسيابية التي تجعل المعاني تتدفق منها كما تتسم بالشفافية التي تنم عن الحركة الوجدانية، فتصبح هذه الصور المتلاحقة تعبيراً عن حركة الداخل يقول:
(نظرة)
رمقته
- والمدى ساج -
كريح
وتولت
وهو كالغصن الجريح
نجد هذه الرسالة البريدية تعتمد التكثيف اللغوي والتشكيل الصورة مقياساً لجودتها، فتغيب التفاصيل وتختزل المسافات الشعرية، بين الحدث (رمقته) والحدث الآخر (وتولت) وما بينهما تكتنز مساحات الغياب كثيراً من التفاصيل المستترة، وتتميز اللغة الصورية هنا بالإيجاز والكثافة مما يجعلها تمثل باقتصادها إثارة للمتلقي وتجعله أسيراً للطاقة الإيحائية التي تفرزها المكونات اللغوية للصورة، وتأتي الجملة الاعتراضية (المدى ساج) لتدل على محذوف يمتد بطول المدى ويشير إلى أحداث عارضة محصورة بين فعلي الصورة (رمقته) و(تولت) وتتغيب التفاصيل، إلا أن الصورة البريدية تعتمد الاختزال الشديد، كما تبرز بنية المجاز علاقات جديدة بين مفردات الصورة (الرجل - المرأة) وهي علاقات ما كانت بمتولدة في أصلها الاعتيادي لو أن المجاز محدد المرجعية، وإنما يتجاوز المجاز بهذه الآلية - حدوده إلى رسم وضعيات جديدة، تولد التوتر الدلالي الذي ينبع من علاقات الارتباط بين الدوال، إذ نجد نشاط المجاز (كريح) يتعمق تأثيره ويتعدد في الصورة من خلال علاقات التعالق التوتري التي تتولد نتيجة عدم محدودية عودة المجاز على مرجعيه محددة فقد يعود في أحد مردوداته على الجملة الاعتراضية (والمدى ساج) لتصبح الجملة (رمقته والمدى ساج كريح) أو على دال (رمقته) الذي يجعل مرجعية المجاز عائدة إلى الفاعل الغائب (المرأة)، ومع تعدد القراءات يتعدد التأويل وإن كان للشرطتين اللتين تحصران الجملة الاعتراضية بينهما دور في تحديد الدلالة الترجيحية وحصر التأويل في عودة المجاز على (المرأة).
وحرف الواو يشير إلى السرعة الشديدة التي تتوافق مع الدوال (رمقته - كريح) كما تتوافق مع النمط الدلالي للقصيدة الومضة، كذلك حين تكون الصياغة (وتولت) متعددة المرجعية فقد تعود مرجعيتها على المرأة التي رمقت الشاعر ثم تولت وقد يعود فعل (التولي) على (الريح) التي تعود بدورها على (المرأة)، كما قد تعود في واحدة من مرجعياتها على (المدى) في الجملة الاعتراضية وذلك بفضل المرجعية الاحتمالية للدال (كريح) ومن ثم فإن القراءة الجمالية تفترض توقعات معينة تولدها عملية التلقي التأويلي، كما نلحظ تواري ضمير المتكلم إذ ينفصل الشاعر عن ذاته معبراً عنها بضمير الغياب المسبوق بالرابط (الواو): (وهو) الذي يشير إلى حالة التفاعل السلبي مع (المرأة) وعملية سيطرة ضمير الغياب تشير إلى انفصال الذات عن رموزها الداخلية (الأنا) لتفسح المجال لحضور الذات المنشطرة إلى (ذات أخرى): (هو) ويتم إفساح المجال لحضورها حضوراً دلالياً، معبراً عن حركة الوعي، الذي يبرز من خلال حضور الضمير ليكشف عما يلحظه الشاعر على نفسه من الخارج، وما يتخفى وراءه من مشاعر التأسي والفقد، التي يعانيها الشاعر كنتيجة لفعلي الحدث (رمقته - تولت) متجنباً الصراع أو التمرد، مستسلماً لسلطة المجاز (وهو كالغصن الجريح) الذي يفصح عن المعاني الخفية التي أدت إلى تطور الحدث وصولاً إلى هذه النهاية المأساوية، ومن ثم فإن هذه القصيدة الإلكترونية، تتشكل عبر بنية الانزياح وتفرز توجعاتها عبر حالة البوح النفسي التي تستدعي من خلالها الذات الشاعرة ذكريات مؤلمة، تتوجع بها وتعكس توجعاتها على المتلقي، فتستدرجه هو الآخر لتتماهى انكساراته مع انكساراتها، وتصبح الصورة الشعرية رمزاً لانكسارات الذات الإنسانية بصفة عامة كما يتميز نمط الكتابة الشعرية في نصوص (حامد بن عقيل) بتمرده على آليات التشكيل الشعري الاعتيادي، ومشاكسته لآليات كتابية جديدة وذلك من خلال عدول النص الشعري عن النمطية، وميله إلى تشكيل سياق شعري تتمكن منه بنية الانزياحات على المستوى الأدائي، وتسهم هذه الانزياحات في تشكيل الصورة الشعرية ولا سيما إذا كانت توظف تقنية المجاز.. يقول في قصيدة (ترابك أرز):
(أنا يا أبي كالحياةِ
كبيروت..
حين مادت يدٌ في يدي
عاد بعضي لأرضيَ؛ ما أبشعَ الأرضَ)
تتولد بنية الانزياحات في الصورة، لتمثل وهجاً نصياً ودلالياً وتتمكن آلية الانزياحات من بنية العنوان (ترابك أرز) الذي يتناص مع رواية (ترابها زعفران) لإدوار الخراط بتميزها المكاني ورائحة ترابها الزعفراني كما أن إضافة دال (ترابك) إلى (أرز) يشير إلى الخصوبة،إذ لا فالأرز لا ينبت إلا في أرض خصبة مشبعة بالماء الوفير فتستدعي إلى الذهن صورة (وادي النيل) بالإضافة إلى المفارقة بين اللون الأسود للأرض واللون الأبيض للأرز، كما يوحي دال (أرز) بالوفرة والخير، وتصبح (كاف) الخطاب مجهولة التوجه والعلاقة الانزياحية للتركيب (ترابك أرز) تشير إلى الثراء الذي تتمتع به الأرض، فيشبه الشاعر ترابها بالأرز.
ومع التحول القرائي من الهمزة المضمومة في أول كلمة (أرز) إلى الهمزة المفتوحة (أرز) تتبدل الدلالة لتشير إلى الجمال والبهاء الذي تضفيه أشجار الأرز على الطبيعة اللبنانية الجميلة، وقد يتحول التركيب المجازي (ترابك أرز) ليصبح كالتحية التي يقابلها التركيب المجازي التداولي (صباحك لبن) وذلك على المستوى التقابلي الذي يحل فيه دال (صباحك) محل دال (ترابك) ويحتل فيه دال (لبن) محل دال (أرز) وهذه الدلالات المنوعة التي يكتنزها العنوان تضفي بفيوضاتها على النص الشعري، وتتوزع على الصور الجزئية التي يتشكل منها، ومن ثم يصبح العنوان هو الصورة المركزية التي يفتتح بها المتلقي آفاق الرؤية النصية فتتنوع دلالة العنوان وتتحول من مستواها المباشرة إلى دلالة جديدة، تربط بينه وبين الصورة الشعرية وبمحاولة ربط دلالات العنوان بالصورة الشعرية السابقة تتولد الفجوة الدلالية بينهما، وتتحول العلاقة إلى مجال تشاكلي يتعالق فيه العنوان بالصورة المجازية، من خلال وشائج تشاكلية تتراوغ فيها الدلالات العنوانية مع بؤر الدلالة التي تفرزها الصورة.
وتتمدد هذه العلاقة بدءاً من السطر الشعري الأول الذي يبرز عبر بنية التشبيه، في الأسلوب الخبري الذي يقصد إلى الإعلام (أنا يأبي كالحياة) إذ تلعب كاف التشبيه دوراً مفصلياً لتنتقل الصورة من الجزئي (أنا/ الإنسان) إلى الشمولي (الحياة) ثم يحضر وجه الشبه بينهما بنشاط ازدواجي للدال (كبيروت) في علاقة مزجية تجمع بين الدالين (كبير + جبروت) وتتداخل دلالتهما وتتحد في بؤرة لغوية واحدة تشير إلى امتزاج خصائص (الذات) بخصائص (الحياة) وتعمق اتصالهما عبر بنية التشبيه (كالحياة)، فإذا امتزجت خصائص (الذات) مع خصائص (الحياة) يصبح (الأرز) رمزاً (للخصوبة) ورمزاً للميلاد، وتصبح (كاف) الخطاب في (ترابك) موجهة مرة (للحياة) ومرة (للذات) فيكون رمزاً للميلاد وتتحول العلاقة بين (العنوان) و(الصورة) المتشكلة إلى علاقة (مشكلاتة) لا تتحدد هويتها على المستوى المباشر الذي ألفه المتلقي، الذي يطاوع فيه العنوان معاني النص ودلالته، منذ القراءة الأولى ولأن الذات تتوحد بالحياة، وتتواشج المنظومة الإنسانية والحياتية مع المنظومة الكونية (حين مادت يد في يدي) يتحقق انسجام الإنسان واتساقه مع مكونات الوجود، لتبرز شمولية التصور، الذي يشير إلى خلق الذات من الطين وعودتها إليه (عاد بعضي لأرضي) فتتحول الذات إلى نبته تنبت من الأرض وتعود إليها ولكنها الأرض الجدباء المنفرة التي تجعل الشاعر يستبشعها عبر التعبير الصادم للمتلقي (ما أبشع الأرض) فهل ما زال ترابها (أرز)؟ أم تحول إلى شيء بشع؟! أم أن الأرض أصيبت بالقحط والجدب وأصبحت ترمز للغربة؟ فصار ترابها نباتاً متقيحاً ينفر منه الشاعر؟!
وهكذا يظل العنوان متبدلاً متغايراً ومتنامياً بتنامي النص، يشاكس صوره وتعبيراته ويتحول إلى غواية قرائية تراوغ التحليل المباشر يمثل بوابة الدخول لمفاصل النص ونافذته الشبقة سواء أكانت هذه النافذة مراوغة مستعصية أم مطاوعة جلية ومن ثم فالعنوان متعالق بأبنية النص تعالقاً سيميائياً وتصبح عملية تنامي القراءة النصية هي الكفيلة بتأويل المشاكسات العنوانية.
أما في قصيدة نرفانا لحسن السبع فإن اللغة تلعب بانزياحاتها دوراً متمايزاً في تشكيل شعرية النص، والخروج به من مألوفيته إلى تشكيل صوري تتمكن منه بنية الانزياحات التي تفرز أول ما تفرز في الأبنية اللغوية والصياغات التركيبية للخطاب الشعري يقول:
أجملُ لقطةٍ تتخطف الأبصارَ
نِرفانا..
وأجرأ لحظةٍ في دفترِ الأعمارِ
نرفانا..
أريق العمرَ
كلَّ العمرِ كي أحظى بطلعتها
فقد أدمنتُ هذا الحسنَ
منذ براءةِ الأظفار
تتحرر اللغة من دلالتها المباشرة، لتصبح لغة إيحائية تومئ وترمز بدءاً من العنوان، الذي ينتمي إلى اسم علم مؤنث (نرفانا) وتتحول اللغة - إبان تشكيلها الصورة الشعرية - من بعدها البراجماتي إلى العدول للغة أكثر مشاكسة ترمز إلى (المرأة/ الحب/ المطر/ النهر/ الوطن/ الشمس/ الحلم) وهي لغة تمارس تدللها على النص الشعري، وتصبح فارزة لشعريتها، مشكلة لجماليتها، معبرة عن حالات الذات الإنسانية الداخلية والخارجية ويتحقق الحضور الجماعي للصورة عبر تواتر الجمل الشعرية، التي تستهل (بالخبر) بينما يتأخر فيها (المبتدأ) عن مستهل السطر الشعري ليحتل سطراً شعرياً كاملاً، تنشط فيه دلالته ويشير للمركز العاطفي والوجداني، الذي يختص به اسم العلم (نرفانا) عند الشاعر.
ويتقدم المشبه به (أجمل لقطة تتخطف الأبصار) على المشبه (نرفانا) ويحضر أسلوب التشبيه حضوراً انزياحات متكرراً، ليمثل متوازيات أسلوبية بارزة في تشكيل الصورة الشعرية، تؤدي وظيفة بنائية،بجوار وظيفتها الدلالية، إذ يسلم ذلك إلى غياب المشبه غياباً حقيقياً، وحضوره على المستوى التكراري للدال (نرفانا) وتجنح الصورة إلى أن تتشكل من (المشبه) الواحد (والمشبه به) المتعدد ليربط (المشبه) بصور تتماثل معه من خلال العلاقات المجازية، ومن ثم فإن التشبيه يدفع الأبنية النصية ويجعلها تنحرف باتجاه انتقاء الصيغ الاسمية، التي تتوافق في علاقاتها مع المشبه به: (أجمل لقطه)، (أجرأ لحظة) مع تغاير في أنماط التشكيل الصوري، ففي السطر الشعري الأول يتمثل الانزياح في تشبيه (نرفانا) بشيء حسي، حين يشبهها (باللقطة الفوتوغرافية) أو (المشهد التشكيلي) الذي يتخطف الأبصار بينما في السطر الشعري الثاني يتمظهر الانزياح الصوري عبر التجريدي فالشاعر مشغول بحالته الخاصة (نرفانا) ويربط بينهما وبين نظرته لوجوده الزمني نظرة تجريدية، ويقيم علاقات تشابه بينها وبين الأفكار المجردة الموجودة في واقعه المعيش فتصبح (نرفانا) (أجرأ لحظة في دفتر الأعمار) ومن ثم يشكل الشاعر رؤاه ويصيغ أفكاره من خلالها، فيبدو المشبه به وكأنه فكرة ذهنية مجردة تبلورها الصورة المجازية، التي تجمع في سياقها بين حلم الشاعر (بالمرأة/ الرمز) وبين عناصر الوجود الملموسة (أجمل لقطة) وبين عناصر الحياة المعيشة (أجرأ لحظة) فيصيغ صورته من خلال تشكيلات (حسية) وأخرى (تجريدية) يشبه المرأة بها فتشاهد من خلال الصورة المجازية، ويكون ذلك التشكيل المجازي المباشر مقدمة لتشكيل مجازي جديد ينسل من التشكيل الأول، ويربط العناصر البنائية للصورة المتنامية بعلاقات غرائبية، لا تشير إلى روابط اتصالية مباشرة بينهما إذ يشبه العمر بالماء المراق (أريق العمر) فالمجاز هنا لا يفرز دلالته المباشرة، التي تتولد عادة نتيجة علاقات التشابه بين عنصري الصورة، وإنما تتمدد وتتسع المسافة بين عنصري الصورة وبذا يحضر التشبيه بدلالته غير المباشرة، والتي تعكس مكابدة الذات الإنسانية وصولاً للحظة وصال يحظى فيها الشاعر بطلعة المحبوبة، عبر التعبير الشعري الذي يكرر فيه عملية الإراقة مرة بتكرار دال (العمر) ومرة أخرى عن طريق استخدام التوكيد المعنوي (كل) في التعبير الشعري (أريق العمر كل العمر كي أحظى بطلعتها) وتصبح اللغة الصورية مشاكسة تتمرد على قانون معياريتها، وتجنح إلى ارتياد أفق الشعرية، من خلال تصوير شعري، يتخذ من المجاز تكئة تتمدد عليها الصورة الشعرية وكما أن اللغة قادرة على نقل مكنونات الداخل.
تصبح أيضاً معبرة عما يعتمل في الذهن من أفكار، فيفصح الشاعر عن مبررات الجموح العاطفي الذي أدى إلى تشكيل الصورة السابقة عبر البنية التعبيرية ذات التشكيل المجازي المعهود في تراثيتنا البلاغية (فقد أدمنت هذا الحسن منذ براءة الأظفار) وبذا تكون اللغة جامعة بين (الوجداني) الذي تفرزه العاطفة وبين(المنطقي) الذي يفرزه العقل، وتسوق هذا المزيج من خلال قوة المجاز وطاقته الخلاقة، التي تضفي حيويتها على الصور الجزئية التي تتشكل منها الصورة الشعرية الكبرى.
وفي قصيدة (حيناً من الحب) لحسن الصلهبي تسهم تقنية الانزياح في تدعيم آلية التشكيل الصوري، التي يتبلور من خلالها المغزى الإيحائي الذي ينمو عبر تشاكل الصورة مع الحقول المعرفية في البنية النصية الكبرى، وهذا التشاكل هو الذي يحدد نشاط الصورة في النص الشعري، وبالتالي يهيمن على تصنيع الدلالة تصنيعاً جزئياً وكلياً يقول:
أورقتُ حُبَّكِ ،
ألقيتُ تينَ جنوني
على عشبكِ النرجسيّ الجميلْ.
وأوشكتُ أنْ أتساقطَ كُلّي
على رملك القمريِّ الصقيلْ.
تتشكل الصورة مكتنزة لمستوياتها الانزياحية، إذ أصبحت الذات الشاعرة نتيجة لحميمية العلاقة بالمرأة شجرة تورق بدلاً من الأوراق (حباً): (أورقت حبك) والصورة هنا مموهة قد يشير فيها لفظ (أورقت) إلى شدة خصوبة الشجرة التي تعود في مردوداتها إلى ذات الشاعر فتتكاثر أوراقها الخضراء، هذا إذا تمت هذه العملية في وقت الربيع، فيكون ذلك إشارة إلى الميلاد الجديد بينما تكون دلالة عملية (الأوراق) مفضية إلى الجدب، حينما يتم ذلك في فصل الخريف حيث تتساقط أوراق الأشجار الصفراء، ونجد هذه الصورة المجازية تمارس هيمنتها في تشكيل الصورة الجزئية الأخرى في النص الشعري، إذ تتكرر هذه الصورة المجازية في القصيدة وتحتل بداية ثلاثة صور شعرية وفي كل مرة تتكرر فيها هذه اللازمة الصورية تصبح لها وظيفة أدائية وتعبيرية مغايرة ترتبط بتطور المستوى الدرامي المنوط بالصورة الجديدة المتشكلة، فتتمتع الصورة بالاتساع الدلالي، إذ تتزحزح اللغة الصورية عن دلالتها الحقيقية إلى دلالات مجازية متعددة وتتسع معانيها.
وبذا تصبح هذه الصورة المجازية - نتيجة ارتداء ثياب الاستعارة - متحولة إلى فعل أسطوري، وتجعل الذات تتغير من طبيعتها الإنسانية إلى طبيعة كونية، وتتمدد الصورة من حال (الإوراق) إلى حال الإثمار (ألقيت تين جنوني) بما يضفيه دال (جنوني) من حالات انتشاء وفرحة، وبما يشير إليه دال (تين) من الإثمار وهي صورة تعكس الحالات الوجدانية للذات الشاعرة فتتمدد الصورة ليسقط التين على عشب المرأة (على عشبك النرجسي الجميل)، وتحضر المرأة حضوراً رمزياً يشير للخصب والنماء حين يشبهها الشاعر (بالعشب) وتمثل الصورة غواية لا يستطيع الشاعر الفكاك من حبائلها إذ إنه إبان تفكيره في المرأة تظل صورة الخصوبة والميلاد مسيطرة على وعيه فتحول العالم الشعري إلى عالم مورق مثمر معشوشب، وتبقى الصورة ممثلة لفعل الضغط النفسي على وعي الشاعر فيظل يفكر في موضوعه من خلال الصورة التي تشكلها المخيلة، ويستمر تدفقها وتناميها (وأوشكت أن أتساقط كلي) وهي تشير إلى البهجة التي ظلت تمارس وطأتها على مخيلة الذات الشاعرة ويبدو وأن صورة المرأة ذات وجهين، أحدهما عشبي يلقي عليه الشاعر تين جنونه والآخر (رملي) حين يوشك أن يتساقط كله (على رملك القمري الصقيل) وبذا تصبح صورة المرأة جامعة بين خصوبة العالم وبين (بداوته) ويتم ذلك عبر بنية الانزياحات التي تولد إيقاعاً على المستوى الصوري والدلالي، وتجعل بنية التحولات ممارسة لنشاطها الفعال إبان ما تقوم به الصورة من عملية تأنيث الجانب الذكوري ، حين يتحول (الرجل) إلى (شجرة) مورقة ويتم تذكير الجانب الأنثوي من الصورة حين تصبح المرأة مرة (عشباً) ومرة (رملاً) بما يتم استدعاؤه من دلالات أسطورية تولدت بفعل الانزياح الصوري، ويشير إلى ذلك العالم البدائي الذي تصنعه علاقة (القمر) ب(الأرض) في الأساطير القديمة، وهو ما يفرز آلية التفكير بالصورة إبان تشكيل العمل الشعري.
وفي قصيدة: (يتضور في جسد آخر) لعبد الرحمن الشهري يتوزع النمط الكتابي على مستويين: المستوى الأول شعرية التعبير، والمستوى الثاني شعرية التقرير الذي تتأسس عليه القصائد القصيرة المعنونة بعناوين (منسي - عادة - عاشق - دخان - مقبرة) وتصبح كل قصيدة ممثلة لومضه شعرية تبترق في دورتها القرائية مسلمة إلى الصورة الشعرية التي تليها، ليتم تبادل الأدوار مع الصور الشعرية التالية، وتتمتع كل صورة بما تفرزه من حزم ضوئية، تبترق كل حزكة بلون ضوئي يمّيزها عن غيرها وهكذا اكتمال المشهد الشعري الكلي من صوره جزئية متتالية يقول:
ليس له حكاية يرويها
ولا سيرة يُلهم بها الآخرين
ولا يملك سوى كتلة من اللحم
قد تستوقف النحّات
وقد لا تثير فيه سوى الحسرةِ
على مصير الجسد الممتلئ
والعاجز عن القيام بردّة فعل؛
حتى ولو كانت إيماءة بسيطة
بإحدى العينين
تتشكل الصورة عبر مستواها البسيط لكنه مستوى (لا اعتيادي) في الشعرية، فالشاعر ينقله إلى مستوى دلالي يضفي عليه بشعريته، فتصبح التقريرية مشتهية لشعريتها وتعبر الصورة عن الذات الإنسانية المغروسة في نسق واقعها الحياتي، والمتمردة عليه، في محاولة لإعادة صياغة عالمها عن طريق (المعرفة) التي تكمن في استكشاف العلاقات القائمة بين وجوده وبين الشعور بالعجز والانسحاق أمام الزمن، مستخدماً أسلوب الحكي الشعري، الذي يعتمد على شعرية (التقرير) التي يتمرد فيها الشاعر على حضور (الأنا) بصورة مركزية، فيتحدث عن ذاته من خلال ضمير الغائب وكأن الذات تنشطر إلى نصفين أحدهما غائب محكي عنه والآخر هو الراصد الحاكي، حين ينفي أن تكون له حكاية (ليس له حكاية يرويها) يكون هذا السطر الشعري مفتتحاً لحضور شعرية النثري، وطغيانها وهي شعرية صادمة للأعراف والقيم الشعرية التراثية، وتتأسس الصورة الشعرية، على إحداث تغيرات عنيفة في آليتها، تقوم على تقنية موت (الأبوة) أو النموذج التراثي مما يشتت الذاكرة التراثية للمتلقي فيما يتلقاه، ويجعلها تتذبذب بين الشعرية والنثرية اللذين ينميان حركة التمدد في الصورة الشعرية التي تحررت من غنائيتها وانفعالها وأصبحت تعبر عن فعل شعري هادئ قائم على استكشاف ذاته المهمشة (ولا سيرة يلهم بها الآخرين) ومن ثم استكشاف عالمها المحيط والوقوف على طلل الجسد البالي (ولا يملك سوى كتلة من فحم) راصداً هذا الجسد في تحولاته (قد تستوقف النحات) ليرسم من خلال الحس التجريدي عالمه المهمش، الذي يتماثل مع عوالم إنسانية أخرى كعالم (النحات) الذي لم يثر فيه جسد الذات الحاكية سوى الحسرة (وقد لا يثير فيه سوى الحسرة) لتصبح القضية الفردية بمثابة رمزاً للذوات الإنسانية الأخرى (على مصير الجسد الممتلئ) ومن ثم حلت وجهة نظره الذاتية - المتمثلة في إشكالية وجوده المادي - محل الرؤيا الشعرية وشعور الذات بالانسحاق والاهتراء أمام حركة الزمن الطاغي، فأخذ الشاعر يقيم العالم ويعاينه من خلال نفسه وذلك بالربط بين الصور المتشابهة التي تجمع (الذات) ب(الآخر) وإقامة عملية تعادل بينهما، ليتحقق اشتراكهما في مسار واحد، وانسجامهما معاً، وتتم إزاحة الرؤية المركزية عن (الجسد الضخم).
ويبدو الشاعر كفيلسوف عارف وتبرز (وجهة النظر) كآلية من آليات تشكيل قصيدة النثر ليردف فعل (الحسرة) بالعلة (العجز) في التعبير (والعاجز عن القيام بردة فعل) وما يتبعها من إمعان في الشعور بالعجز (حتى ولو كانت إيماءة بسيطة بإحدى العينين) ومن ثم تشكلت القصيدة من خلال آليات التجريد الشعري حيث العادي والمألوف يتم شعرنته بإدخاله في صورة تطرح حساً طازجاً يحمل رؤية الذات للعالم، من خلال تراكيب تعبيرية متجددة في معانيها وفيما تكتنزه من استفسارات ومواجهات بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان وعالمه من أجل اكتشاف الذات والعالم أما قصيدة (اللعبة) لمسفر الغامدي فيتم تصنيع الصورة الكلية بتمردها على قانون جاهزيتها الشعرية لتنتج شعرية مغامرة للشعرية النمطية، التي تنبني عليها القصيدة التراثية، وما وضعت لها من أوزان وقواف، لتصبح قوالب جاهزة، يفترض أن يقوم الشاعر بتعبئتها ، بينما نجد الصورة في قصيدة النثر تبتكر شعريتها عبر قانونها الخاص يقول الشاعر:
لعبته أن يذهبَ إلى الصحراء.. أن يخترعَ نهرا يطوِّقه بالعشب والأشجار، ويوزعَ المقاعدَ على ضفتيهِ، ثم يأتي بالعشاق من كل أنحاء العالم... يقول لهم:
تُرى: ماذا سيقولُ لهم؟!
تنهض القصيدة على مبدأ (الهرم ثم البناء) الذي يتطاول القصيدة كلها وتنشغل مجموعة الصور الشعرية بهدم مستوى تراثي قار، واستبداله بمستوى نثري جديد، كما تنبني الصورة على آلية الاختلاف والمفارقة.
تلك الصورة التي تتيح للشاعر الانزياح عن العوالم الواقعية، إلى عالم الحلم، الذي يجد فيه ملاذه وتكون (اللعبة) هي الوسيط الذي يهيئ للشاعر عملية الانتقال إلى هذا العالم وويتنامى حس تحويلي فني يتجاوز من خلاله الشاعر حدود الممكن والمألوف.
وكما تتم إزاحة المستوى الفكري عن الواقعي للوهمي، تتخلق الإزاحة الصورية عبر الإزاحة من التجريدي إلى الحسي، وكما يتحرر الشاعر من ثقل المادة ومن قيود الممكن تتحرر الصورة الشعرية من المفاهيم النمطية للغة فيأتي دال (لعبته) ليحل محل دال (حلمه) المغيب كتابياً عن التعبير (لعبته أن يذهب إلى الصحراء) وكأن الحلم المفتقد تحول إلى لعبة تدخل في نطاق التجريب، الذي يتحرر فيه الشاعر من واقعه المعيش متطلعاً إلى واقع أكثر بدائية، ليرسم عالماً جديداً يسيطر عليه مفهوم التحول، كما تسيطر بنية الاقتصاد اللغوي إذ تشير النقاط الثلاثة التي تلحق الجملة التعبيرية الأولى إلى أحداث وتفاصيل محذوفة تعمل في المسافة الكائنة بين ذهابه للصحراء وبين اختراعه للنهر وذلك باتكاء الصورة على التشكيل الأسطوري (أن يخترع نهراً يطوقه بالعشب والأشجار) (ويوزع المقاعد على ضفتيه) وتبرز العناصر الإنسانية في تعالقها بالعناصر الكونية المخترعة (ثم يأتي بالعشاق من كل أنحاء العالم) والتشكيل الأسطوري هنا يجعل النص يتصنع عبر حركة الحياة (نهراً - العشب - الأشجار) والموت (الصحراء) ويستجلب (الأشخاص/ الحياة) ويوزعهم في المناطق القابلة لاستقطاب حركتهم ويبث فيهم الحركة فتصبح الصورة عالماً لا حلمياً فقط ولكنها عالم بيئي واجتماعي، يتوازى مع عالم الواقع مع فارق أن عالم الفن عالم قائم بذاته، يرسم له الشاعر كينونته ويحرك مفرداته وشخوصه محدداً أقدارهم الفنية ويلعب التشكيل البصري دوره في تشكيل انزياحات الصورة فتأتي النقاط الثلاثة بعد دال (العالم) لتشير إلى مسافة زمنية يختصرها الشاعر، ويختصر معها التفاصيل والأحداث التي تتمم تشكيل الصورة الأسطورية، وتكتنز ما حدث بين الشاعر والعشاق الذين أتى بهم من كل أنحاء العالم حتى اللحظة التي يجتمع بهم ثم يطفو دور الذاكرة التي يتكئ عليها فعل القول المنسي، ويبدو أن الذاكرة في مرحلة زمنية (ما) من مراحل (معايشة اللحظة الحلمية) تمت إزاحتها باتجاه الحلم ليتحول الشاعر من (المتخيل) إلى الواقعي ومن الحسي إلى التجريدي، ومن ثم فقدت المعلومات المختزنة في الذاكرة، وتغيبت حركة العقل الواعي، ويبدو أن ذلك حدث نتيجة حركة خفية طغت فيها مواجع الذات الإنسانية، وبترت عملية إنتاج الصورة الأسطورية، وجعلت الذاكرة عاجزة عما تقوم به من عملية استرجاع مقنن للأبعاد الفكرية ويتم فقدان لغة (الكلام) لتحل محلها لغة (الصمت) التي تشير إليها النقاط الطباعية المحتلة لسطر طباعي كامل، تتعدد دلالته بتعدد القراءات، ويكون لهذا المحذوف قدرة على الوجود وقدرة على التأثير في المتلقي، قد تتوازى مع الطاقة التي يكتنزها المطبوع، وبذا تعتمد الصورة مبدأ الإزاحة التي تهيئ المتلقي، للتحليق في آفاق الصورة والتفاعل مع مستوياتها الحاضرة والغائبة ثم تسيطر لحظة إفاقة للوعي تتم بها عملية اختتام الصورة (ترى: ماذا سيقول لهم؟).
بما يوحي بأن هناك أبعاداً أيديولوجية غائبة في مقابل الذات الشاعر التي ترغب في أن تعيد تصنيع الصورة الأسطورية، بما يتوافق مع متغيرات الحاضر ليطرح الشاعر على الصورة رؤاه المستقبلية
وتنتهي الصورة بعلامة استفهام مردوفة بعلامة تعجب، لتثير المتلقي وتحرك خياله، وتجعله مشاركاً في استحضار فعل القول المنسي ومن ثم فإن هاتين العلامتين اللالغويتين تحلان محل كلام محذوف يتم اختصاره وتقليصه في هذه الإشارات الدالة، لإعادة إنتاجية الصورة التي تحررها آلية الإزاحة اللغوية من بعدها الساكن إلى بعد ديناميكي.
أما عبد الله ثابت في قصيدته يشكل الصورة عبر شعرية اليومي والعادي ضمن حالة الهذيان الشعري التي تواتيه كنوبة ليليه فتتدفق حركة اللاوعي وتنسكب اللغة منطلقة من قيودها متحررة من ضوابط (أرستقراطيتها) فتختال بتداوليتها التي ترغمها على ممارسة (برستيجها) الشعري يقول:
قلبي المحكوم بالرفض في زنزانته الروحانية،
يصعد بلكونته كي يرى الشارع الممتد من اليمين إلى اليسار،
الشارع بسياراته الملوّنة،
وأبواقها الأجنبية،
بإشارة المرور الغبية جداً،
بالشرطي الذي يمسك صفارته،
كما كان يمسك بسيجارة... البارحة،
الشارع.. بمحلات الخضار والفاكهة ومكتب العقار الزجاجي،
تبرز الصورة هنا من خلال تراكيب تشع بفيوضات الصوفية (قلبي المحكوم بالرفض في زنزانته الروحانية) وهو تعبير يوحي بالعزلة والوحدة، كما يوحي بحضور الروح الإنسانية حضوراً شفافاً، ممزوجاً بدفق روحاني، ينسرب بين مفاصل الصورة الشعرية، ويحول الوعي الذاتي إلى وسيلة (للمعرفة) ويتوازى دال (الرفض) مع دوال (السجن - بالموت بالقهر) ومن ثم تنطلق الذات بالصورة إلى تشكيل يمتزج فيه الحسي بالذهني الذي تتحرر فيه الروح (يصعد بلكونته كي يرى الشاعر الممتد من اليمين إلى اليسار) وتشير عملية الصعود إلى ترفع الذات عن عناصر القتامة وهروبها من عزلتها لتستكشف عالمها، فيفجعها الواقع الخارجي نتيجة حالة الصدام المستمرة بينهما، والتي يتمخض عنها تعميق الشعور بالفقد الذي يطغى على لاوعي الشاعر، ويشكل رؤاه فتأتي كابوسية متطبعة بتلك الطوابع النفسية للذات الإنسانية والتي تعبر عنها آلية الوصف المكاني لمفردات الشارع، التي تصبح ممثله لحالة القمع والتوتر وحافلة بمستويات تطلع الذات لوجودها المأمول.
وتتطبع اللغة بالطوابع الواقعية، التي تربط المتلقي بمفردات واقعه المعيش، (الشارع بسيارته الملونة وأبواقها الأجنبية، بإشارات المرور الغيبية جداً بالشرطي الذي يمسك صفارته، كما كان يمسك بسيجارة... البارحة)، لتصبح هذه اللغة في حد ذاتها عنصراً يمارس القمع على الذات الشاعرة، من خلال ما تطرحه هذه اللغة من دلالات خفية وظاهرة ومن ثم يسكن هاجس التصحر العاطفي أفق (القصيدة/ الصورة).
وإذا كان دال (بلكونتي) يعد الزاوية التي يرى منها الشاعر واقعه فإن الشارع المزدحم بالضجيج والمتناقضات يتذمر من واقعه ويتطلع فيه(الحارس) إلى الحلم الذي يمثل آلية من آليات التمثيل الخيالي في النص الشعري (الشارع بخطوات الماشين والحارس يتململ من وقفته الطويلة ويحلم لو كان كلباً) فالحلم يضفي على النص الشعري بعداً ديناميكياً، نتيجة ما يطرحه الحلم من تعددية التأويل، وتحويله إلى نص مفتوح، متنوع الدلالات والاحتمالات التي تحيل الحارس بطابعه (الإنساني) حين يستفزه الضجيج والصخب إلى (كلب) ذي طابع حيواني.
وعن طريق بنية الاحتمالات يمكن أن يفضي دال (الشارع) إلى (الشاعر) بفضل علاقات التجنيس القائمة على المستوى البنائي للدالين، مع افتراض حركة تبديل بين حرفي (العين) و(الراء) وانشغال كل منهما بهموم الآخر، فتصبح أعباء (الشارع) هي ذاتها عناصر التوتر والقمع التي تمارس سلطتها على (الشاعر) ويتفق (الاثنان) في توجعاتهما وتطلعاتهما ومن ثم فإن الحلم الذي تتشكل من خلاله الصورة يمثل شفرة متعددة الاحتمالات، كما يمثل حافزاً من الحوافز التي تدفع لنمو حركة الحدث في السياق الصوري، فالخوف والتوتر الذي أصاب الذات الشاعرة حين تطلعت لرؤية الشارع الذي - يرمز أيضاً للحياة بأكملها - شكل انتكاسة حلمية ولدت رد فعل مناهض يسعى إلى جعل الذات الشاعرة تتخذ موقفاً مضاداً (قلبي.. قلبي.. على حد بلكونته يتصفح الزحام كي يميز حياته) وتستيقظ حركة العقل الواعي ليستطيع الشاعر رؤية حياته، وتمييزها.
كما تنهض الصورة الشعرية في قصيدة (منصة) (لمحمد حبيبي) على مبدأ المفارقة بين إرادتين وزمنين ورؤيتين إحداهما واقعية والأخرى حلمية يتشكلان عبر صورة شعرية تنقسم إلى ثلاثة مشاهد وترتبط الرؤية الحلمية بإرادة الذات في المشهد الشعري الأول:
بمحض إرادتنا
ارتقينا المنصة
للكنبين
لنهو : عريساً وعروسة..
فالحلم يجعل الصورة متذبذبة بين زمنين أحدهما واقعي معيش، والآخر حلمي متخيل مما يجعل المتلقي متنقلاً بين عالم اليقظة وعالم الحلم، وتتناص الآلية الشعرية مع آلية السرد القصصي، الذي يبلور التطلعات الحلمية المرتبطة بزمن الطفولة، وسعى الذات الشاعرة إلى استعادته عن طريق الحلم الذي يضفي على النص بعداً ديناميكياً نتيجة ما يطرحه النص الحلمي من تعددية التأويل، وتحويله إلى نص مفتوح متعدد القراءات والدلالات، إذ يناهض (زمن الطفولة) (جدب الواقع) كما تناهض (آلية الحلم) (كابوسية الواقع) الذي تصبح فيه إرادة الذات مغتصبة بفعل إرادة الآخرين:
بغير إرادتنا أنزلونا
وقالوا لنا:
- هيه
- أنتما
- ياصبي
- ياصبية
- عيب
ويكون هذا المشهد مفتتحاً للصدمة الحلمية، التي تنتقل بالحلم من منطق الحضور المتخيل - والذي يسعى للتحقق من خلال فعل طفولي - إلى منطق الحضور الواقعي في المشهد الشعري.
والذات الشاعرة تستبطن حركة اللاوعي مستجيبة لها، جامعةً بي نهما وبين حركة الفعل الواعي، في المشهد الشعري الثاني، الذي تسيطر فيه إرادة الآخرين على إرادة الذات وتقهرها :
بمحض إرادتهم
صعّدونا المنصة..
نلهو:
عريساً وعروسة..
وقالوا لنا:
- هيه
- أنتما:
زوج وزوجة!!
ويمثل الحلم حافزاً من الحوافز التي تدفع لنمو حركة الحدث الشعري، ومن ثم تتنامى الصورة التي تعتمد في تطورها على آلية القفز الزمني، لتفجعنا الحقيقة حين يصبح (العريس والعروسة) جثتين وبفعل نفس الذات الغاصبة التي تمارس فعل القهر المستمر، على إرادة الذات المغتصبة:
ارتطمنا
بقرب المنصة حين قديماً صعدنا
كما رتبوا
جثتين
ومن ثم ينكسر الحلم بفعل آليات البطش والقهر التي تمارس فعلها على الذات ليتصارع، الواقعي مع الحلمي ويقهره، ويجعل الحلم يفرز مستويات صادمة للترقب والانتظار الحلمي ويتكئ التشكيل الصوري في قصيدة (ديمقراطية الأمم) لزينب غاصب على مستوى تعبيري تناهض فيه (الأنوثة) المستوى الاحتكاري للفحولة وما تستأثر به من موضوعات (أيديولوجية) ظل الرجل يستقطب حركة الكتابة فيها لزمن طويل فبرز شعر (الفحولة) على حساب الشعر الأنثوي ثم تقلدت المرأة جزءاً من مكانة الرجل من حيث كونه المحارب والمدافع عن القبيلة، ومن ثم أصبح منوطاً بالمرأة أن تقتسم معه القضية وتعبر عنها تعبيراً مجازياً ساخراً.
فالمجاز يحمل رؤية شعرية تناهض الصوت الذكوري، الذي يوهم تقدمه على المرأة تهميشاً لدورها، وحصره في قضايا الذات والأمومة والعاطفة، فيأتي التشكيل الصوري في شعر المرأة ليعبر عن اتصال أيديولوجي بين المرأة وبين الأنساق الثقافية، لذا فإن التشكيل الصوري يستمد قيميته من الواقع الجديد الذي تحياه المرأة ويدفعها للتعبير عن رؤاها وأفكارها في جميع المنظومات الفكرية والاجتماعية، فجاءت القصيدة جريئة في تناولها بدءاً من العنوان وانتهاء بالخاتمة ومروراً بما يتشكل بينهما من مضامين شعرية، وأصبحت الألفاظ المؤنثة هي المهيمنة على نسق الصورة النسوية التي توظفها الشاعرة للتعبير عن رؤاها الفكرية، من دون أن تتخلى عن الحس العاطفي الذي تتميز به المرأة، فنجد عاطفتها جياشة تضفي على الصورة بدفقها الشعوري، فتجعلها تتألم وتؤلم حين تسقط على الصورة مواجعها:
(سحقوا ما بين أيديهم وأرجلهم)
شيوخاً ورجالاً
ونساءً وطفولة
وهي كتابة تحقق المتعة الفنية، حتى ولو كانت متعة التألم والتأسي، التي تفجرها اللغة وما تجترحه من مشاعر، وما تكشفه من خبئ يفجع ويصدم ويضع الملتقي (كبديل للذات المقهورة) أمام الجاني الحقيقي: الذي يقهر ويسحق متباهياً بذلك:
وتباهي بالفجيعة
رأسهم
ضاحكاً يري..
ديمقراطية الأمم
وتبرز المفارقة الساخرة التي تضمر فيها اللغة الشيء وضده من خلال آلية التحول، التي تتخفى فيها المشاعر المرهفة والأحاسيس الناعمة وراء الصورة المجترحة ومن ثم جاءت هذه الكتابة النسوية غير معزولة عن كتابات الرجل لتنهض بالدور الإصطلاحي:
استنيري يا بلاد
استنيري يا بلاد
ويصبح فعل الاستنارة راصداً لحالة التفاعل بين الأنوثة والرجولة، من مفهوم أنثوي رقيق وشفاف مما يوحي بالتحنان والتودد، ومن ثم استطاعت الصورة الشعرية في الأدب النسوي أن تعبر عن القضايا والأيديولوجية في الواقع المعيش عبر صور جزئية تشكل الصورة الكلية المتنامية على آلية الحكي الشعري.
والصورة الشعرية في قصيدة (عبس النخيل) لعلي الأمير تؤدي وظائف فنية ودلالية، إذ تشير إلى زخرفة النص وتزيينه، بانحرافه عن القول المعياري باتجاه القول الصوري، الذي يمتزج فيه (الذهني) (بالحسي) (خلف الأسى الناري خبا صاحبي) إذ تضفي هذه الصورة على الخطاب الشعري طيفاً من تعدد مستويات الدلالة وتنوعها، واتساع أبعادها، سيما وأنها تستجلب حالات إنسانية وكونية وتمزجهما معاً (نعناع ضحكته).
وصورة قلبه
وحدائق الأشجان عاليه الهوى
في تفاعلاتهما مع الذات الإنسانية التي يشير إليها الضمير (نا) في تغافلنا:
(كانت تغافلتا نجوم الليل)
وهذا التفاعل قائم على أساس المشابهة بين حالات الذات الإنسانية، وبين المكونات التعبيرية للصورة التي تتيح قدراً أشمل وأعم من خلال ما تطرحه من دلالات، سيما في حال اندماجهما، فتصبح نجوم الليل عنصراً مهيمناً (حين تحط خاشعة على كتفيه.. تقبس طهرها)
ويتم هدم هذا العالم الجميل، ليحل محله عالم كابوسي، يمهد له الشاعر بمقدمة تعمق الحس المأساوي (وأمام أعيننا وسمت قلوبنا) وتعمق الدلالة الصورية - في مستواها الفني - الحالات الإنسانية والأجواء النفسية للذات الفاعلة التي تستقطب حركة الصورة لصالحها فتضفي عليها فيوضات من أحزانها وأوجاعها.
ويتعمق البعد المأساوي (تصير أبعد من أسى أيلول ضحكة صاحبي).
ومن ثم يتشكل الإيقاع الدلالي للصورة عبر بنية المفارقة الصادمة التي تجمع بين (الأسى والضحكة) إذ استطاع الشاعر أن يستقطب في مستهل الصورة، حركة الوجود ليضفي عليه مسحة من أحزانه، ثم تسيطر آلية التذكر فتتسرب الذكرى معبرة عن بعض التفاصيل التي يستدعيها الشاعر من ذكرياته القديمة (كانت تغافلنا - تحط خاشعة) مع أحداث فجائية موازية للحدث القديم وما حية له (يفتضه شفق الأصيل) فتمنح هذه الأحداث الصورة الشعرية طابعاً له خصوصيته، بما تكتنزه من التداعيات، وبما تتيحه من استحضار أكثر من بؤرة تذكرية في المشهد الشعري، فتتعدد تفاصيل الحدث ولكن في صورة موجزة وسريعة. وتسيطر حركة الزمن، لتصبح حركة طاغية مدمرة في علاقاتها بالذاتين (الغائبة) المحكي عنها (والحاضرة) الحاكية وبذا ترسم الصورة عالماً فنياً من صفات (التراتبية) ويتحرر من سطوة (المكان) ليتيح المجال لسيطرة دورة الزمن، التي تتمكن من طمر فيوضات الحدث الذي تفرزه الحكايات المتخفية خلف ظلال الصورة، ومن ثم يتشكل الإيقاع الدلالي لها.


 

د. أسماء أبو بكر أستاذة الأدب والنقد بكلية التربية للبنات بالمدينة المنورة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة