الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th May,2003 العدد : 13

الأثنين 25 ,ربيع الاول 1424

أعراف
لا تأتوا اليوم.. تعالوا غداً!!
محمد جبر الحربي

من المؤلم حقاً أنْ تُبنى الثقافة على موضات، وصرعات، وترجمات عجِلة، ومراكز مشبوهةٍ أو ضعيفةٍ أو طارئة، وأمزجة متقلّبة، ومواقف متذبذبة، بعقولٍ
فاقدةٍ للمناعة، وقلوب فاقدة للشجاعة، ورؤى ضبابية غائمة، ليتّفق المشهد عن هشاشة القواعد والبنى، وليكتشف القصور أو يلتفت إليه بعد خرابِ الذوق
والذائقة، وذهاب القدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف، الأصيل والدخيل ولنكنْ قساة هنا الأدب وقلّة الأدب.
ولكلٍّ سبب. ومن ذلك التحوّل السريع للمجتمعات العربية نحو القيم الاستهلاكية دون المرور بالمراحل الإنتاجية، والتعلّق بالقشور، وكل ما هو لامع وخاوٍ
من نتاج المصانع، والعقول الغربية، دون الرجوع إلى الأسئلة، الاحتياجات، الوسائل، والفروقات.
وفي الغرب نفسه لا يتخلى المواطن عن سلعة ما لأن أخرى ظهرت على أحد الرفوف بديلة: حديثة أو مطورة. لا يستبدلُ عطراً بعطر، ولا يشترط أنْ
يكون موديل جواله 2002، وسيارته 2003، وحاسبه الشخصي 2004. ولا ملابسه أو ملابسها نتاج مصمم شاذ للخريف المقبل. ولكنه لا يمنع هذا
المخبول من طرح بضاعته أو تصوراته لأنه قادر على رفض موضة لا ملابس فيها سوى أن ترتدي قبّعة من قرون الماعز. فهل يعني هذا أن تتناطح النسوة؟!
من يشاهد الإعلام يرى أنه لا مانع عندنا!!
ومثل ذلك ينطبق على معظم الفنون فوجود جن تتقافز في "الراب"، لم يلغ موزارت، وباخ، وتشايكوفسكي. وظهور "الجنس" المُغنَّى، لا يعني أن تطفو
البشاعة على قنواتنا.
وبالخروج من هذه اللوثات إلى لوثة أدهى حين ينطبق ذلك على المنتج الثقافي والمعرفي فنرى اندفاعاً غريباً نحو المثل والأساليب الغربية والشاذة بادعاء أننا
ننشد ثقافة مغايرة، أو مواكبة، أو حديثة، أو نحو اللاشكل، أو اللامضمون لننتهي إلى اللاشيء. ولا أدري لماذا أتخيل وأنا أقرأ قصصاً تشبه الكوكا كولا،
وقصائد كالسفن أب، وروايات من الحجم العائلي لهذه المشروبات. ثم أعود فأتذكّر سرعة تبخُّرها وزوالها. وعندما تحترق الأوطان أيُعقل أن لا يكون في
عقل امرأةٍ سوى الجنس، ولا رجلٍ سوى الفحولة. أن تختصر صرخات الموت في نداء الأسرّة؟! وعندما تتباهى الثقافات لماذا يجب أن نكون النموذج المشوّه
لنتاجاتها ومقاييسها؟!
إن مقاييسها أصلاً مشكوك في خلفياتها، فعلى سبيل المثال حصد فيلم "صمت الحملان" لجودي فوستر، وأنتوني هوبكنز جوائز "أوسكار" وهو ساقطٌ قصةً
وإخراجاً، والفيلم برُمّته لا يستحق صالةً من الدرجة العاشرة!!
ولا مانع هنا من أن نعرّج على الرواية هذا الفن المُبتَلى: أفهل من الضروري أنه عندما تخرج رواية لماركيز أو "باركليز" يجب أن تكون فرضاً مدرسياً لطلاب
التعبير في "أكشاكنا" إنها عادة سيئة أن تصبح القراءات واحدة، والكتابات واحدة، والنقد واحداً، والذائقة الجمالية واحدة.
إن قيمةً أساسيةً لفعل الكتابة هي القدرة على البحث الذاتي عن مصادرها ومراجعها: فالموضة مرض، والتباهي بالقراءات والكتب مرض، والببغائية مرض،
وبعض الجوائز العالمية مرض، وأفضل عشرة كتب مرض، والرهان على ما لا نملك مرض.
إنني أقرأ عن الرواية والقصة في المملكة أكثر مما أملك في ذاكرتي وفهمي، وجهدي للفهم، وذاكرة المكتبات من إبداع يشار له بالبنان أو يرتقي ليصبح
عنوانا.
وكذلك الشعر.
فالرحمة الرحمة من هذا السيل من الروايات والشعر والكتابات الحرة والنقد الأعوج. ونحن هنا لا نتحدث عن أجيال شابة تحفر طريقها، إننا نتحدث عن
شيبٍ متشببين.
والرحمة الرحمة لنا نحن الفقراء ممن تجوز عليهم النفقة لتحسين مداركهم لفهم ما يجري، ودفاعاتهم أمام هذا الطوفان.
وإذا لم يمنعني حلمي وقلت إن هذا الذي أراه حول الرواية مثلاً "كلام فارغ" في معظمه ومضيعة للوقت. هل سأشنقُ غداً على أعمدة الساردين وسط
ساحةٍ، أقصد، فضاء الإبداع!!
وكيف يُقتلُ مقتولٌ بالحبّ والكمد والغيظ؟!
أين هو الإبداع الحارق النازف الصارخ الواضح الفاضح الكاشف؟!
أين هي اللغة ككل، وأين هي اللغة الخاصة؟!
وأين تلك الرائحة؟! أين ذاك الحضور المهيب الجليل؟!
أين هو الأسلوب؟! أين هو الأسلوب الرجل، الرجل الأسلوب؟!
أين هو إبداع الصمت الذي يبدو أن الأغلبية لا تجيده؟!
أين هي الأناة والمراجعة؟!
والله إني لأعتقد جازماً أن كثيراً مما نراه منشوراً يخرج إلى أعين القراء أسرع من الصواريخ. والمؤلم أن له فعلها.
فيا أيها الناس ليس من الضروري أن تخدشوا أعيننا كل يوم بما طال من العذاب لنقول لكم أنكم هنا، إنكم هنا. والله إنكم هنا، وملء أعيننا، وسنمنحكم
جوائز تقدير، ودروعاً مذهبة، وأقلام "باركر"، وأحذيةً رياضيةً لسباق المسافات الطويلة.
وسندبّج المدائح، والدراسات والبحوث عنكم، وسننتخبكم لعضوية كل منتدى. ولكن أخرجوا من يوميّاتنا قليلاً، ودعونا نشرب قهوة الصّباح على حبٍّ
وبسلام. ما قولكم أن نراكم كل أسبوع.. كل شهر.. كل عام متى ما غرفتم من البحر درّهُ ولآلئه. وليكن لكم عندما تأتون مواقف، ولغةً، وأدباً وحضوراً
مثمراً ومثيراً فما قولكم؟! يا أحبابنا لا تأتوا إلينا اليوم رمالاً من التكرار، وتعالوا إلينا جبالاً من الفرادة يكلِّلُها الغيم غداً.


mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved