الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th May,2003 العدد : 13

الأثنين 25 ,ربيع الاول 1424

ملحمة بدايات القشعمي
يوسف عبد الرحمن الذكير

قد يطالع المرء عشرات السير الذاتية في رحلة قراءات حياته، وقد يستمع الى ما يزيد عنها من فصول معاناة طفولة شيب وشباب ممن عاصرهم، ولكن قلما
تطرد قراءة فصول من سيرة ذاتية النوم من جفون قارىء شغوف، ليصاحب عقارب ساعات الليل، الى ما يقارب بزوغ الفجر وهو يطارد سطوراً تحرق
الأحداق وتؤجج الوجدان لتؤرق العيون مثلما تفعل صفحات (بدايات) القشعمي!!.. فهي دون مبالغة أو مجاملة أو تهويل ملحمة بكل معنى الكلمة..
ملحمة شخوصها ليسوا من خيال (هوميروس) عن خرافة أبطال يصارعون الأهوال كما في أبيات (الأوديسة)، أو اسطورة (الالياذة) عن حصان خشبي
عملاق، يختبىء في بطنه رجال، ليدخلهم حيلة داخل حصون بعدما فشل حصار طال عشر سنين في اقتحام أسوار مدينة (طروادة) المفقودة، بل هي ملحمة
واقعية، تدور أحداثها ما بين قرى وحواضر وكثبان نجدية، تروي بصدق وعفوية لا تكتسيها حلل حياة سياسي شهير، ولا ترتدي قمصان أدبيات أكاديمي
قدير، بل ولا حتى مفردات كاتب محترف خبير، بقدر ما يحكي بطلها بكلمات بعضها كاد يمحوه النسيان، الى درجة دفعت الكاتب لأن يخصص لها في
مؤخرة كتابه، فهرساً يشرح معانيها المعبرة عن شقاء حياة ومعاناة طفولة وصبا فتى نجدي، وما اكتنفها من قسوة وبؤس، يفوق دون مغالاة كل ما سطره
(فيكتور هوجو) في (البؤساء)!!.. بؤس دفع الكاتب السعودي المبدع (محمد العلي) بعدما عايش صفحات قسوته لأن يكتب متسائلاً بتعجب: "كيف نجا
هذا الإنسان (القشعمي) من العُقد؟.. كيف لم يصبح عدوانياً ناظراً الى الحياة والاحياء بعينين من جمر وشرر؟!" الاعجب ان القشعمي لم ينج من العقد
فحسب، بل ونثر ما بين مرارة صفحات سيرة صباه، فقرات متهكمة ساخرة لا تقل عن تهكم المتنبي في بيت شعره الساخر:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة سخرت من جهلها الأمم
فهو يروي عن أحد المرددين لتعاليم الدين الحنيف دونما فهم وفقه، أنه حينما ابتعث لاحدى الهجر ليعلم جهلة ساكنيها أصول العبادة، أنه قرأ من كتاب
(كشف الشبهات) عبارة تقول (يُسن الى الصلاة بسكينة ووقار) على مستمعيه من البسطاء من نسخة قديمة انطمست حروفها، فقال (يُسن الى الصلاة
بسكّينة وفار..) فما كان من أبناء الهجرة السذج إلا أن خرج الكثير منهم الى الصلاة بفأر مربوط بخيط الى سكّينة.. ليمتلئ المسجد بالمصلين البسطاء..
والفئران والسكاكين!! جهل مدقع يُضحك، وفقر موجع منهك، وسخرية ومرارة يتعاونان بحذق ومهارة، كحبل ووتد، على تثبيت وشد خيام اهتمام
القارىء الى مرابع صفحات (بدايات) القشعمي منذ بداياتها الأولى..
فأول مشهد يطالع القارىء، هو لطفل يافع تحرمه آلام ولادة والدته من إفطار لا يزيد عن بضع تمرات أو لقيمات من غبيب (عشاء بائت)، فيشغله الجوع
عن متابعة كتابة حروف هجائية على لوح مطلي بالجص، يمليها (مطوّع) يتقاسم وقته وانتباهه أصوات أطفال يرددون خلفه ما يقول، وصوت سانية بئر يئن
رشا (حبل) دلوها حول المجاله (بكرة خشبية على عارضة من جذع شجرة) ليسقي نخيلات وخضروات شحيحة، فإن سكت أحدها، رفع المطوّع عصاه إما
على ماشية بقر متكاسلة، أو على أطفال بشر متكسلة، وهو يهدر وينهر.. فما إن لاحظ شرود ذلك الصبي الهزيل، حتى أتاه رافعاً عصاه، ولكن قبل أن
تصل الى ظهره النحيل، صرخ الصبي بأعلى صوته: (يا مطوّع) فأوقف المطوع عصاه مستفسراً عما يريد، فما كان من الصبي الذكي إلا أن سأله بسذاجة
ماكرة (عسى النخل كله هالسنة حامل؟!.) لينقلب حنق المطوع الى ضحك يعفيه من عقابه.
طفل لا يلام إن اعتبر نفسه يتيم الأب، فهو لا يراه إلا مرة كل سنة أو سنتين، فأبوه البصير مزواج مطلاق له أكثر من زوجة في أكثر من مدينة وقرية، إذ
بلغ عدد من تزوج وطلق من النساء أكثر من اثنتي عشرة زوجة!.. يقضي معظم أيامه في الرياض حيث يتكسب من علمه بأصول الدين رزقه ومعاشه،
يحظى كلما عاد الى قريته باحترام وطاعة أهلها، لتنتاب الطفل موجة خاطفة من زهو، سرعان ماتضمحل عندما يرحل ليغرق في بحر من الإذلال، لا من
عمه في تحميله وزر كل أخطاء الرعي والسقي حتى وإن لم يكن له فيها ذنب، بل ومن أبناء عمه الذين لا يكتفون بالاستهزاء به وتعييره، بل بلغ حد ربطه
برقبة جحش كاد يقضي عليه، جراً بين قوائمه، ودهساً من حوافره حتى أغمي عليه..
طفل لا يعرف طعم اللحم إلا في عيد الأضحى، أو من بقايا وليمة تيس نادرة لضيف نافذ، فتراه يفرح إن داهمهم جراد واعد بأكلة دسمة يحتفظون بما يتبقى
من مكن (إناث الجراد) المملح لاكرام كبار الضيوف والزوار، ويتلهف على طبخه يخص (عظام وعصب) جمل يعود لهم به عمه كلما عاد من بيع حمولة
حملين من حطب الشتاء في رحلة تطول أكثر من اسبوع لأقرب بلدة.. طفل يهرب من مرأى أول سيارة في حياته، مختبئاً بين الكثبان، محذرا ابن عمه الذي
اقترب منها من ان تعضه، وتهرب به أمه عند سماع هدير ورؤية أضواء طائرة في السماء، لاعتقادها أنها ساحرة تمتهن خطف الأطفال.. ويسمع من جدته
حكاية عن أبيها الذي جرده الحنشل (اللصوص) من ثيابه وربطوه عارياً بالحبال، تمهيداً لطبخه وأكله، بعد أن أجبر الجوع البشر على أكل لحوم الحمير
والبشر، ولم ينقذه إلا ومضة بقايا إنسانية من حارسه الذي سأله عن أبنائه، فأرخى وثاقه، ليجري عارياً طوال الليل وبقية أصحابه (الحنشل) يطاردونه حتى
وصل مشارق بلدة حضرية!..
***
أما صباه، فتنحصر ذكراه، فيما لقي من أبيه من جفوة وقسوة، بعدما استدعاه للرياض، قسوة بلغت أن عضه من أذنه حتى أدماه لمجرد تلكئه في ذكر سبب
اهتراء كتاب متقادم، ونال من ضرب عصاه ما لا يعد ولا يحصى، كلما اخطأ في كلمة، أو نسي آية أثناء تسميعه لأبيه طوال السور.. وبلغ من جفاه أن
بخل عليه بشراء دفتر يكتب فيه ما يتعلم في مدرسته الابتدائية، فبدايات صباه تكاد تقتصر ذكراه على قسوة أو مرافقة أبيه الكفيف كمرشد ما بين البيت
والمسجد أو في زياراته لأصحابه وأسباب رزقه، أو لقضاء حاجاته ومتطلبات بيته وأهله.
ما تلك سوى لمحات خاطفة من بدايات سيرة (القشعمي) المكتنزة بثراء تراث يرسم له صورة تجسد الماضي القريب زمناً والبعيد معاشاً، بصراحة وجرأة لا
تخشى لومة لائم رغم ما قد تثير في النفوس من عتب أو غضب لكشف ظروف فاقة وفقر تدفع البشر لممارسات قد تبعث الاشمئزاز، وقسوة وظلم وجهل
وجوع وتزمت يثير العجب ويستثير خليطا من حزن وحنق وضحك مضمخ بأبشع شرور الجهالة والتعنت!!
فالقشعمي لا يستعير من الماضي خيوط ذكريات ينسج منها روايات تراثية بديعة شجية كما في كلاسيكيات إبراهيم الحميدان و(فيضه رعد) عبدالحفيظ
الشمري، ولا يتجول على شطآن خليج يرسم من الوان أمواجه قصة مؤثرة كما أبدع الراحل المعجل في (غربته الأولى) ولا يحلق بشاعرية الى قرى على
ذرى جبال تهامة مثلما حلّق أبو دهمان في (الحزام) بل يعرض بشجاعة لوحة تراثية نادرة، بلا رتوش ساحرة وزخارف مبهرة تمجد أسلافاً وتقاليد، أو ظلال
تحجب أو تموه ما كانت تعانيه نجد وأهلها من تخلف وجهل وتزمت.. لوحة ليست جديرة بالقراءة والدراسة فحسب، بل وتكتنز ثروة إيحاءات تجرد كل
من يدعي شحة نصوص صالحة لأعمال فنية من أعذار واهية، فكل فصل من فصول (بدايات) القشعمي دون مبالغة أو مغالاة، قد يشكل نواة إلهام لأدبيات
مسرحيات ومسلسلات ترسخ في أذهان أجيال اعتادت على رغد العيش وسعة الرزق ما عاناه آباؤهم حتى أمس القريب من شظف وحرمان وبؤس دونما
زخارف تبجيل أجوف أو تضخيم وتقديس وتعظيم، أمسى ديدن معظم المسلسلات التلفازية الحالية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved