الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 26th June,2006 العدد : 159

الأثنين 30 ,جمادى الاولى 1427

التقويض الفرويدي (5)
سعد البازعي

لا شك إذاً في انتماء فرويد الأوروبي كما توضحه كتاباته وكما يؤكده العديد من الباحثين مثل بيتر غي وغيره. لكن لا شك أيضاً في أن ذلك الانتماء لم يكن محصوراً في عقلانية التنوير أو في صرامة العلم. هذا من ناحية العلاقة بالثقافة الأوروبية، ليبقى السؤال عن علاقة فرويد بموروثه اليهودي ومدى تأثره به.
فهل صلة فرويد بتلك الثقافة أو بالتنوير وبغيره من تيارات الثقافة الأوروبية تحديداً تعني بالضرورة أن صلته بذلك الموروث لا تعدو أن تكون صلة ولادة وعلاقات اجتماعية؟
عبدالوهاب المسيري أحد الذين توقفوا وقفة عميقة وإن كانت مقتضبة إلى حد ما ضمن موسوعته حول اليهود واليهودية والصهيونية، وله رأي مركب ومهم حول هذا الانتماء.
فهو يبرز موقع فرويد ضمن التشكيل الحضاري العلماني الغربي، ويرى أن ذلك الموقع يفسر الكثير مما يسميه (المنظومة الفرويدية)، لكنه في الوقت نفسه لا يستبعد المؤثر اليهودي، كما يفعل بيتر غي، فهو يرى أولاً أن (فرويد ابن عصره، فرؤيته للكون حلولية واحدية مادية، علمانية شاملة، تدور حول فكرة الإنسان الطبيعي - المادي في جانبيه العقلاني واللاعقلاني..) لكنه من ناحية ثانية يطرح سؤال الانتماء اليهودي وأثره على ما يسميه المنظومة الفرويدية متوصلاً، بعد عرض بعض وجوه ذلك الانتماء، إلى أن (المنظومة الفرويدية قد تكون (يهودية) ظاهراً ولكنها في حقيقة الأمر منظومة علمانية شاملة)، ما يعني (أن عناصرها اليهودية الصميمة تشبه بنيوياً عناصر داخل المنظومة العلمانية الشاملة، بسبب الإطار الحلولي الكموني الذي يجمع بينهما).
ما يستثير التساؤل في قراءة المسيري، على ما فيها من عمق، هو بعدها الشمولي، أي انتظامها ضمن أطروحته الرئيسة والمعروفة في مجمل أعماله حول تكوين الحضارة الغربية بشكل عام، فمع أهمية تلك الأطروحة حول علمانية الحضارة الغربية وطبيعتها الكمونية المادية، وعلى الرغم من قدرة تلك الأطروحة على تفسير الكثير مما نجده لدى فرويد وغيره، فإن تعميم هذه الأطروحة، وهي أطروحة بنيوية شمولية بدورها، يؤدي إلى اختزال الكثير وتهميش العديد من التفاصيل والأبعاد الخاصة أو ذات الخصوصية التي تميز تجربة عن أخرى، وهذه مشكلة في كل الأطروحات التفسيرية الكبرى إذ تضغط على التفاصيل لتنسجم مع الإطار الأشمل فيغيب العديد مما يخرج عن التناسق النظري، ففي تحليل المسيري يختصر البعد اليهودي في ثلاثة عناصر:
الأول ما تقوله الباحثة الأمريكية سوزان هاندلمان في كتاب لها بعنوان (قتلة موسى)، حيث يظهر فرويد بوصفه أحد الذين تنتظمهم الهرمنيوطيقا المهرطقة المستمدة من التراث اليهودي؛ والثاني ما يقوله فرويد عن نفسه وما يوضح سيرة حياته وعلاقاته بمعاصريه من اليهود والصهاينة؛ والثالث هو البعد الصوفي وعلاقة فرويد بالقبالة.
هذه العناصر الثلاثة ليست الوحيدة طبعاً، لكنها من الأهمية حيث إن التدقيق فيها قادر على إبراز مدى تأثير الانتماء اليهودي وإيضاح أنه انتماء يصعب التقليل من أهميته ضمن مقولة تفسيرية أكثر شمولية كمقولة العلمانية الغربية.
فصحيح أن تلك المقولة لدى المسيري لا تلغي الحضور اليهودي لكنها تقلل من أهميته وخصوصيته وهي من ثم لا تساعدنا على فهم أفضل لذلك الحضور. نحن بحاجة إلى مقولة تستوعب ذلك الحضور بما يميزه عن غيره، دون أن تقبل بالضرورة بكل ما يقال حول التميز اليهودي، أو تقلل، في الوقت نفسه، من أهمية العلاقة التي تربط ذلك الحضور بالتشكيل الحضاري الغربي.
ولنتأمل بعض معالم ذلك الحضور، تقول موسوعة الثقافة اليهودية الحديثة إنه إبان الخمس سنوات الأولى من عمر التحليل النفسي، أي ما بين 1902 و1906 كان السبعة عشر عضواً الذين تكوَّنت منهم الحلقة التي تجمعت حول فرويد يهوداً (ممتلئي الإحساس بيهوديتهم، واحتفظوا، فوق ذلك، بالإحساس بتضامنهم كيهود وبوجود هدف يهودي يربطهم).
ذلك الإحساس لم يعنِ بالطبع التزاماً بالدين اليهودي، فعلى العكس من ذلك كان أولئك من الساخرين بالالتزام الديني وحين فكروا بالدين كان توجه البعض أن يتحول إلى المسيحية، فقد تحول ألفرد أدلر إلى البروتستانتية وأوتو رانك Rank إلى الكاثوليكية، وفي كلتا الحالتين لم يكن الاختيار سوى محاولة للتوافق الاجتماعي مع المحيط المسيحي ومن خلال مذهب شديد المرونة كالبروتستانتية، أو كان مؤقتاً، كما في حالة رانك الذي ما لبث أن عاد إلى اليهودية.
الإحساس باليهودية كان في واقع الأمر أقرب إلى ما وصفه الباحث ياروشالمي، كما مر بنا، أي إحساس نفسي، أو يهودية نفسية، وقد نضيف هنا صفة (الثقافية) إلى النفسية. ويعني ذلك أنه كان ثمة رابط من انتماء يهودي استمد من مصدر غير الدين، وحين نتأمل في ذلك المصدر سنجده في الشعور الجماعي بالاختلاف الثقافي المكرس لدى الجماعات اليهودية في أوروبا الذي عمّقه الانتماء العائلي والفئوي من خلال الشعور الداخلي بالت ميز، وهو شعور يهودي قديم ومعروف، مثلما عمقه مجتمع الأغيار المحيط، على نحو عكسي، من خلال معاداة السامية، مما يوضح حجم الارتباط اليهودي بين جماعة التحليل النفسي شعورهم بأن التحليل يمنحهم رسالة تؤكد تميزهم ودورهم على المستوى الإنساني.
تقول (موسوعة الثقافة اليهودية) إن أعضاء الجماعة عبروا عن مواقف متشابهة إزاء دور التحليل النفسي: (اعتقد رانك أن اليهود وحدهم قادرون على إيجاد (حل جذري) للاضطراب العصبي.
وشعر فتلز Wittles أن اليهود، (بالعاطفة السامية التي يحملونها بوصفهم مضطهدين)، ينبغي أن يقودوا الطريق إلى تحقيق العدالة للبشرية كلها.. وأكد فكتور توسك Tausk أن (تقدم التحليل النفسي) يقع على عاتق اليهود). ويفصل توسك رأيه بالتعبير عن قناعة شاركه فيها عدد من اليهود قبل الحرب العالمية الأولى تقول إن اليهود بوصفهم المنتمين إلى الشعوب التي يسكنون بين ظهرانيها لم (تدنسهم) القيم الأخلاقية المفلسة، لذا فإنهم يمثلون الأمل الحقيقي للبشرية.
هذا الشعور الجماعي يقودنا إلى سؤالين:
الأول حول تحيز المعرفة بشكل عام، والثاني حول تأثير الانتماء الإثني - الثقافي على التشكيل المعرفي والحضاري. والسؤالان، كما هو واضح،متداخلان، لكن عمومية الأول تقتضي فصله لأن ما يمكن أن يؤثر فيه من عوامل ليس محصوراً في الانتماء الإثني - الثقافي.
ولأن السؤال الأول سبق أن طرح في التقديم لهذا الكتاب (الذي تمثل هذه المقالات فصلاً من فصوله)، ولأن له مواضعه الخاصة التي تفصل فيه، فلابد هنا من الاكتفاء بتأكيد الأطروحة القائلة بأن المعرفة، سواء كانت علمية أم غير ذلك، متحيزة بطبيعتها، أي خاضعة لمؤثرات اجتماعية وتاريخية واقتصادية وفلسفية - أيديولوجية.
فليس هناك معرفة نقية صرفة، لأن ذلك يتنافى مع كونها معرفة إنسانية خاضعة لمحدودية تلك المعرفة (يمكن في هذا السياق مراجعة كتاب (إشكاليةالتحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد)، من تحرير عبد الوهاب المسيري). هذه الأطروحة الأساسية حول التحيز تزداد على المستويين الأول والثاني، أي العام والإثني معاً، حين ننظر في وضع التحليل النفسي وعلاقة الجماعة اليهودية به.
فقد طرح التحليل من قبل فرويد، في أكثر من موضع، بوصفه علماً وصدر المنتمون الآخرون إليه عن تلك القناعة سواء في النظرية أو التطبيق. لكن التحليل النفسي طرح أيضاً لدى فرويد وغيره بوصفه (فناً) إلى جانب صفات أخرى منها أنه (حركة) و(تقنية تحليلية)، إلى غير ذلك. بل إن فرويد، كما يذكرنا بيتر غي، سبق له أن هاجم فكرة البحث عن اليقين العلمي: (الأشخاص العاديون يطلبون من العلم نوعاً من اليقين الذي ليس بمقدوره أن يعطيه، نوعاً من القناعة الدينية. فليس غير العقول الحقيقية والنادرة يستطيع أن يتحمل الشك المرتبط بمعرفتنا).
ما تشير إليه هذه المواقف المختلفة إزاء طبيعة التحليل النفسي هو الصلة القوية بينه وبين الفرد أو الأفراد الذين أنتجوه، والحق أن موقف فرويد بهذا الخصوص لا يخلو من غرابة، ففي مستهل كتابه (تاريخ حركة التحليل النفسي) يقول بنص العبارة: إن (التحليل النفسي هو من صنعي)، ثم يعود بعد قليل ليشير إلى أنه سبق أن أعلن أن التحليل النفسي ليس من صنعه وأن المسؤول عن ذلك هو جوزيف بروير.
ثم ترد بعد ذلك تفاصيل توضح ما صنعه بروير بالمقارنة بما صنعه فرويد الذي يحرص أيضاً على إيضاح الموقف العام تجاه تلك الحركة وكيف يحصل بروير على المديح حين يكون التحليل محل الإعجاب، وفرويد على الذم حين يكون العكس.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved