الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th July,2004 العدد : 69

الأثنين 9 ,جمادى الثانية 1425

الأميري.. هكذا كان مُعَلِّمًا

* عبدالعزيز بن صالح العسكر
في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات، وقبل حوالي خمس وعشرين سنة، رأيته فارس منبر يشدُّ انتباه سامعيه، وينثر درر شعره على مشاهديه.
وهكذا كانت رياض العلم والتأريخ والحضارة، ولقد شهدت تلك القاعة أجمل الأمسيات الثقافية والأدبية منذ شُيِّدَتْ وإلى الآن، بفضل الله وتوفيقه.
ولقد انطلقت من الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية مشاعل الهداية والنور، واستقبلت الرياض العلماء والأدباء وقادة الفكر والرأي ضيوفا على المهرجان الوطني للتراث والثقافة أو على الأندية الأدبية أو على الجامعات.. فعمرت الليالي الجميلة بالندوات والأمسيات الشعرية، ونَعِمَ الآلاف من أبناء المملكة وضيوفها بعَبَق الفكر الأصيل وروائع الأدب الجميل.. وكانت الأمسية التي حضرتُها واحدةً من مناسبات الرياض.
رأيت (عمر بهاء الدين الأميري) بين عدد من الشعراء، وكنت قد قرأت بعض قصائده المنشورة في الصحف وفي ديوانيه (مع الله) و(ألوان طيف)، ولكن صاحبنا صار فوق ما كنت أسمع؛ فإن ما كان يلقيه ليس شعرا فقط، بل هو شعر وتأريخ وتربية.. وهكذا هي السمة الغالبة على شعره.
إنّ أصحاب الرسالة في الحياة لا يكون شعرهم للتسلية أو الشهوة فقط، وليس كذلك العظماء والأئمة والمصلحون؛ بل إن الشاعر المسلم مطالب بأن يوظف شعره فيما يخدم مبادئه السامية، وما يعلي شأن أمته ويخدم تاريخها، ثم يكون للإمتاع والترويح نصيب لا يطغى على ما قبله.
والقارئ لشعر شاعرنا يجد تلك الحقيقة ماثلةً في شعره كله لا يخرج عنها قصيدة واحدة، وإذا ما عُدْنَا إلى ما قدمه في تلك الأمسية وجدنا الدرر التالية:
قال رحمه الله وقف شاب ماركسي وقال لي: يا أستاذ ما رأيك في قول بشار بن برد:
ابليسُ خيرٌ من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
ابليس من نار وآدم طينةٌ
والطين لا يسمو سموَّ النار
وكان ذلك وسط قاعة درس، والأميري هو الأستاذ فيها، وكان هدف الشاب الماركسي إحراج الأميري أمام الطلاب.. ولكن السؤال وُجِّه إلى من يملك الإجابة!!
وكان الجواب ارتجالا، ولندع لشاعرنا الحديث: يقول: قلت اسمع:
ابليس من نار وآدم طينةٌ
والنار لا تسمو سموَّ الطين
فالنار تفني ذاتها ومحيطها
والطين للإنبات والتكوين
فخفض الشاب رأسه خجلا، وصفقت القاعة سرورا بذلك الرد!!
إنها سرعة البديهة، وقوة الشاعرية.. صفتان مكنتا الأميري من الرد المُفحم على السائل.
وفي قصيدة من غرر شعره رسم لنا شخصيته الكبيرة وإنسانيته الكريمة، وعواطفه الرقيقة.. واستجابة لطلبات الحضور قدَّم الشاعر قصيدة (أب).
ولم ينس إيراد مناسبتها إذ قال:
(كنت في مصيف (قرنايل) في لبنان ومعي أطفالي وأسرتي، ولما فتحت المدارس أبوابها سافرت الأسرة كلها إلى (حلب) حيث المدارس ولوازمها، وبقيت وحدي فأحسست بوحشة وصمت ثقيل أملى عليَّ هذه القصيدة)..
وأنشد قصيدة تتميز بسهولة ألفاظها ووضوح معانيها، وفوق ذلك صدق العاطفة وقوتها.. فكانت القصيدة مشاهد لا ينفك بعضها عن بعض، نعيشها في بيوتنا، ولكن موهبة الشاعر صاغتها شعرا جميلا يملك اللب ويثير العواطف..
ومن تلك القصيدة:
أين الضجيج العذب والشغب
أين التدارس شابه اللَّعب؟
أين الطفولة في توقدها
أين الدُّمَى في الأرض والكتب
أين التشاكس دونما غرضٍ
أين التشاكي ما له سبب
أين التباكي والتضاحك في
وقتٍ معا والحزن والطرب
أين التسابق على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوق فطرتهم
نحوي، إذا رهبوا وإن رغبوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا
واليوم، ويح اليوم، قد ذهبوا
ذهبوا، أجل ذهبوا ومسكنهم
في القلب، ما شطُّوا، وما قربوا
إني أراهم أينما التفتت
نفسي، وقد سكنوا، وقد وثبوا
ويُعدِّد مشاهد وجودهم في البيت وآثار دراستهم ولعبهم وعبثهم في الأبواب والجدران، ثم يصور مشاعر الأبوة الحقة، وعواطف الأب المعلم القوي الرحيم في صورة إنسانية راقية فيقول:
دمعي الذي كتمته جلدًا
لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلباً بهم يجب
ألفيتني كالطفل عاطفةً
فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العُذَّال من رجلٍ
يبكي، ولو لم أبك فالعجب
هيهات ما كلُّ البكا خورٌ
إني، وبي عزم الرجال، أب
ولا أظن أن قارئا سيرى هذه الأبيات إلا وستحرك عنده عاطفة الأبوة وتشده إلى بنيه فيحس بأن من أجلِّ نعم الله تعالى علينا أن وهبنا الأولاد؛ وبقدر ما ينالنا من العناء في تربيتهم ورعايتهم ننعم بأنس براءتهم ونمتع نواظرنا بمشاهد لعبهم وذهابهم وإيابهم، ونكسب منهم نفعا يسيرا يقدمونه لنا.
ودرر شاعرنا في تلك الأمسية كثيرة، ولكن ما علق في الذهن وحفر في الذاكرة هو مفاجأة رمى بها أمام الجمهور إذ قال رحمه الله :
(أستأذنكم في قصيدة لا كالقصائد، من رجل لا كالرجال.. أستأذنكم في تقديم قصيدة حية، ستأتي إليكم لتقدم موهبتها التي ستكون درعاً للإسلام والإيمان في هذا البلد الأمين.. قصيدتي الأخيرة، عبدالرحمن صالح العشماوي فليتقدم وليتكلم ويسمعنا من نفح روحه).
لقد كانت مفاجأة لمن في القاعة جميعهم، فلم يكن اسم العشماوي مدرجا ضمن أعضاء الأمسية، ولم يكن وقتها يصل إلى مصاف أولئك الشعراء الكبار ومنهم حسان حتحوت رحمه الله ويوسف العظم وزاهر الألمعي.
ولم يملك مقدم الأمسية ولعلَّه الشيخ الألمعي إلا أن يستجيب لطلب الأميري؛ لأنه ضيف وأب كريم غمر الحضور بفضله وقدرته وسموّ شعره، فطلب مقدم الأمسية من العشماوي أن يتقدم لإلقاء قصيدته، فخرج العشماوي وألقى قصيدته التي عنوانها (حوار مع التأريخ) وقدم لها بقوله: أشكر الأستاذ الكبير والأب الروحي الحنون عمر بهاء الدين الأميري على تقديمه لي ولم يكن لي أن أقف بجانب أساتذة كبار، ولكني أقدر له طلبه وأقدم لكم هذه القصيدة، ثم بدأ القصيدة التي كان مطلعها:
على وجنة التأريخ مكنت قبلتي
وقلت له حدّث بأخبار أمتي
فأصغى وفي عينيه ثورة أدمع
أثارت دموع الحزن في حوض مقلتي
ومنها:
فلي من كتاب الله أعظم رائدٍ
ومن سنة العدنان أعظم قدوة
وكيف ينال اليأس قلبا موحدا
إلى الله يرنو مؤمنا كل لحظة
بدا فجر إيماني، وللشمس وثبة
على ظهره تمحو مآثر ظلمتي
وبعد:
فهذه صفحة مطوية من التأريخ أردتُ أن أشير فيها إلى عَلَم فذ، ومعلم كبير يستحق منا وقفات طويلة، ننهل فيها من معين أدبه وعلمه.. ولن يفيه حقه سطور كهذه.
فمن هو الأميري:
عمر بهاء الدين الأميري، رائد من رواد الأدب، ولد سنة 1918م في حلب بسوريا وعمل مدرسا ومحاميا في سوريا، وشارك في الدفاع عن القدس في جيش الإنقاذ خلال حرب 1948م، وعمل سفيرا لسوريا في باكستان وفي المملكة العربية السعودية، ثم دعي إلى المغرب أستاذا في دار الحديث الحسنية، واستمر فيها خمسة عشر عاما، وكان عضوا في رابطة الأدب الإسلامي وعضوا في المجمع العلمي العراقي ومجامع أخرى.
قال الشعر وبرع فيه منذ صغره، وأخرج عددا من الدواوين الشعرية منها:
1 مع الله.
2 ألوان طيف.
3 أب.
4 أمي.
5 الزحف المقدس.
6 من وحي فلسطين.
7 رياحين الجنة.
توفي في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض في 22 شوال 1412هـ بعد أن عاش حوالي ثلاثًا وسبعين سنة.. رحمه الله وغفر له.
ص.ب: 190 الدلم 11992
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved