الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th July,2004 العدد : 69

الأثنين 9 ,جمادى الثانية 1425

التوظيف الشعري (8)

* د. سلطان سعد القحطاني
تحدثنا فيما سبق عن هموم الشاعر الذاتية، لكن في الآونة الأخيرة نجده قد تجاوز الذاتية إلى الشكوى الجماعية، فلم يعد يعبر عن نفسه بقدر ما يعبر عن همومه، مقرونة بهموم الآخرين، فالمأساة واحدة، عند شعراء الجيل الواحد، وليس الشاعر بمعزل عن الآخرين، ويكاد معنى الشكوى أن يكون مشتركاً بين الجميع، فالنجوى الداخلية واحدة، مع اختلاف في التعبير الشعري وتوظيف المفردة اللغوية، ولم تكن الشكوى من الدهر وصروفه، وفراق الأحبة، وما شابه ذلك بالظاهرة التي تعبر عن مضمون الشكوى، بقدر ما هي شكوى الجوى واللوعة والإحباط، فالزمن زمن طموح لم يعرفه من سبقهم من الشعراء، ولذا جاءت الشكوى ذاتية معبرة عن طموحات وئدت قبل اكتمالها يقول معيض البخيتان:
فقد همت حتى الضياع الذي
ولدت بصحرائه الخاوية
أجول على قصة دامية
وأصحو على آهة باكية
وسوط القفار يلاحقني
يشرط أقدامي الحافية
فهذه القصيدة وغيرها للشاعر تعبر أصدق تعبير عن الحياة التي ظهر عليها، والآمال التي كان يرسم لها اللوحات الجميلة، فلم يتحقق منها ما يرضي طموحه، فلم يزل في القفار يبحث عن أمله الضائع، وتبقى الشكوى قصيدة والقصيدة شكوى، والألم يبرح كل ديوان من دواوين الشعراء، بل يحوز على معظم الصفحات، بل أكثر من ذلك، فبعض الدواوين يتحول كله إلى شكوى، على أنماط متعددة، حتى إن الجسد عند البعض لم يبق منه إلا الغبار، كما هو عند محمد عبدالرحمن الحفظي، في ديوانه الذي عنونه بهذا المعنى، يقول في إحدى قصائده:
مساوؤك موغل ألما
ونبضك ينزف الحلما
وما يبقى ستشعله
يد أخرى تضج دما
وفوق العين أسئلة
غدت من عزفها سقما
وفوق العين ما ذرفت
لئلا تنكأ الألما
ولم يكن هذا الشاعر من أكثر الموعظين في الشكوى، لكن من الذين أبدوا تباريحهم بكل صراحة في مواجهة الواقع المؤلم، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، كما ذكرنا من قبل، وهو من المكثرين في إصدار الدواوين الشعرية، بمفرده أو مع آخرين، ومن قصائده في الشكوى، قوله:
كم ارتوى الإيغال بين الثرى
والهم.. يشرى والبكا يعزف
مزقت تشويحي على وصله
ودرت خلف السفح أستعطف
تلوكني أسراب وجهي دماً
تشربه الأيام والأحرف
ولم يكن الحفظي في شكواه بالبائح المباشر، فالكلمات تختزن خلفها من المعاني الشيء الكثير، كقوله (ودرت خلف السفح أستعطف) فمثل توظيف هذه العبارة يعطي القصيدة بعداً معنوياً في داخل اللغة، كما يجسد هذا المعنى محمد الجلواح في قصيدته (شكوى) ذات عنوان بائن معبر عن القصيدة قبل قراءتها، وهو عنوان مسكون بما في داخله من المعاني، لا يغني عن قراءة النص والتمعن فيه، يقول:
شكوت همومي للحروف أبثها
معاناتي الحبلى، وهجر سباتي
أرى في عيوني ما يؤرق مضجعي
ويجعل ضوء الشمس كالظلمات
أرى جل قومي : لايريدون موطنا
لظلي ولا حتى صدى لسماتي
أعيش غريباً حاملاً فوق غربتي
جروحاً بمثل الرمل والحصوات
والجلواح يوظف مفردات ظاهرة المعنى في شكواه من جفاء بعض قومه، ويجعل من هذا التوظيف أداة للوم والعتاب، وما يعانيه من هذا الجفاء، مثل قوله (أعيش غريباً حاملاً فوق غربتي جروحاً بمثل الرمل والحصوات) أي ليس لها عدد، فقد وظف هذه القصيدة في الشكوى من ظلم ذوي القربى، الذين اشتكى منهم طرفة بن العبد قبله بعشرات القرون، فالشاعر لم يجد من يشتكي إليه غير حروف الشعر وجمل النثر، وقد عرفنا من قبل أن الشكوى سمة من سمات الشعراء، وهم أرق الناس مشاعراً، وقلنا: إن البعض منهم قد وسم الديوان بجمل الشكوى مثل (النبع الحزين)، فالشاعر أحمد اللهيب يعنون ديوانه بهذا العنوان، ويملأه بالكثير من القصائد المتفقة مع العنوان، معنى ومبنى، فيقول في إحدى قصائده:
كنا رضعنا ضياء الشمس وهي ضحى
واليوم وا ألما يستمطر الوهم
واليوم نحبو وفي العينين بارقة
من السراب رؤاها الحزن والألم
واليوم لا أمل نرجوه مرتقباً
كؤوسنا علقم لو ماؤه شبم
وإذا كان الجلواح قد وظف القصيدة للشكوى الفردية، فإن اللهيب قد وظفها للشكوى الجمعية، وهي شكوى الذل والانكسار والهزائم العربية المتتالية، وهي الشكوى التي عبر عنها محمد جبر الحربي، وعبدالله الصيخان وسعد البواردي، وكل الشعراء العرب، يقول أحمد اللهيب:
ما في بقايا الكأس من أمل يعاوده الفؤاد
نضب الرحيق وخاطري ظمآن يبحث عن مداد
عن بسمة عن نظرة عن فرحة بين الوهاد
عن حبه، كيف استحال وعاد كالحلم المعاد؟
من يا ترى هذا الغريب؟
وأحمد اللهيب يكثر في شعره من الغربة والشكوى من الظروف العامة والخاصة، والوحدة في زمن كله هزيمة كبرى، فهو يبحث عن ملاذ لشاعر هزمته الحياة، وجعلته يعيش بلا مأوى، فالديار تنكره، والزمان يطارده، وهذا هو حال الأمة العربية كما يراها، وهذا ليس برأي اللهيب فقط في الحياة والذل، بل إن البعض قد وصل به الحال إلى القنوط، فعبدالواحد الصالح يتمنى لو يموت خيراً له من حياة الذل والهوان، ويفلسف ذلك إلى أن الدار الآخرة هي المقر، وهذا حقيقي.
الموت أولى بالحياة من الجوى
فالنار يا صاح بي التهبت
في ظاهري تحلو المباسم كلها
وبكامني تجد الرؤى انقلبت
ويقول في مكان آخر:
سرت في دربي كأني ثمل
فشجوني حطمت كل قواي
سرت في دنيا وما أعرفها
بيد أني سائر أطوي مناي
وعبدالواحد الصالح يكاد يكون متخصصاً في الشكوى والتبرم من الحياة وصروف الدهر، فلا تخلو قصيدة في ديوانه من الشكوى، إما من الحياة، وإما من أهلها، ولعل البعض من الشعراء السعوديين قد سبق الشعراء الذين تحدثنا عنهم بعقود من الزمن ليقول كلمته في الشكوى، لكنه يعبر من خلال معجم شعري ينكر فيه على الكثير التبرم والشكوى، ثم يوظف الشكوى في هذا الإنكار، لكنه يوظفها في مفردات جديدة قديمة، تلكم هي مفردات اللغة العربية القديمة في أسلوب شعري جديد، ظهر به الشاعر في بدايات الشعر الحر في الجزيرة العربية، يقول: عبدالرحمن المنصور (ولد 1340 1920م)، وهو من الشعراء الأوائل الذين نظموا هذا اللون من الشعر:
ضاق بي دربكم أيها الأصدقاء
وسئمت الدروب التي تسلكون
ودروب الحياة التي تعرفون
ودروب الرؤى الجائعات
ويقول المنصور من قصيدة أهداها إلى أحد أصدقائه، ولا أرى فيها هدية أكثر من كونها شكوى شخصية، قد يكون الشاعر قصد فيها ما قصده:
أنا ظمآن ولكن جرح القيد يديا
ومياه النهر حوالي عذبة ترنو إليا
يا ترى تسخر مني أم ترى تحنو إليا
لست أدري غير أني جرح القيد يديا
ولم تكن شكوى المنصور بالشكوى الفردية دائماً، بل إن أغلب شكواه تظهر بالصورة الجماعية:
أنعيش والمحراث والفأس الثليم!!
والأرض نزرعها ويحصدها الغريم؟؟
وكآبة خرساء..
تقصمنا على مر القرون!!
لا فرحة..
لا بهجة..
غير الكآبة والأنين!!
والأرض نزرعها ويحصدها الغريم!!
ولم تكن هذه النظرة الشاكية من المنصور موظفة في خدمة الشكوى لذاتها بقدر ما هي موظفة للمجتمع، فنظرة المنصور نظرة جماعية وليست نظرة فردية، ولكنها على أي حال شكوى، فقد وظف الشعر للشكوى، وليس الشكوى للشعر، وبما أنه مجدد، فقد وظف المفردة العربية في أسلوب جديد، كما وظفت نازك الملائكة وبدر شاكر السياب تلك المفردات في خدمة القصيدة العربية الجديدة، وقد اعترف له الباحثون بريادة هذا النمط من الشعر، مثل ابن إدريس، في كتاب (شعراء نجد المعاصرون) وعبدالكريم الحقيل في كتابه (شعراء العصر الحديث في جزيرة العرب، ج1) والدكتور مسعد العطوي في كتابه (الرمز في الشعر السعودي)، وبالرغم من ذلك لم نحظ بديوان يجمع بين دفتيه أشعار هذا الشاعر، كما فعل الكثير من الشعراء، ونحن بحاجة لكل إبداع، مهما كانت جودته، والمأساة تختلف هي الأخرى من مأساة إلى مأساة، فإضافة إلى مأساة العرب الكبرى (فلسطين) نجد مأساة الفلاح، في قصيدة عبدالرحمن المنصور، سالفة الذكر.
وهناك من أظهر الشكوى على شكل تحسر على الماضي وإزالة الأثر الذي يرى فيه الشاعر حياته الماضية، وبزوال الأثر يفقد الكثير مما كان يشعر به في شبابه، وإن كان هذا الشعور مجرد ذكرى لا تعيد له شيئاً، فإنها تسلية لما يذكره بماضيه، وليست فعلاً عملياً، يقول عبدالله بن إدريس، وهو يصف داره عندما أخذت الجرافة تقتلعها من أساسها وتزيل معالمها من الوجود:
يا دار ماذا دهاك اليوم يا دار
حتى تغشاك بعد الصفو أكدار
حتى تواريت من دنيا الوجود لنا
فزال منك تشاخيص وآثار
هذا (الدركتر) لا يبقي على مقة
فيما يعايش إما انداح تيار
كانت حياتك يا داري منزهة
عما يشين ولم تمسسك أو ضار
ذرفت دمعة محزون ومنفجع
لما غشاك من التحطيم عثيار
فقد تصور لي أنا بمقبرة
وأنت ميتنا يا أيها الدار
وعبدالله بن إدريس من الشعراء الذين يواكبون الحدث، سلباً وإيجاباً، وينفعل بحدوثه، وهذه القصيدة قالها حينما رأى داره القديمة تهدم من ضمن المنازل التي مرت بها الشوارع الحديثة ونزعت ملكياتها، وكذلك قصيدته في المسجد الجامع الكبير، عندما بكى مؤذنه (ابن ماجد) في آخر أذان لصلاة الفجر، وهو سيهدم في ذلك اليوم، استعداداً لبنائه من جديد، ضمن توسعة منطقة قصر الحكم في الرياض، وتحديثها، وقد شارك في المناسبات السعيدة بقصائد التهنئة، والمشاركة في افتتاح المشاريع، وغيرها، ولكن الشكوى تغلب عليه في الكثير من الأحيان، ومن الشعراء من كانت طموحاته فوق طاقته، وهذه سمة من سمات المبدعين والفنانين، فهم أشد الناس طمعاً في تحسين الحال في المستقبل والطموح إلى المعالي، وعبدالكريم الجهيمان من أعلام الفكر السعودي الأوائل، وله قصيدة ضمن ديوانه يذكر فيها شدة طموحه، وما قابله من خيبة الأمل التي جعلته يشتكي دهره والحظ العاثر، وعنوانها (أمل النفس) وهو عنوان يدل على مضمونها، يقول فيها:
نفسي تنازعني ما لست أرضاه
وتبتغي من مناط العز أعلاه
تريد جاها عريضاً يستظل به
ومركزاً شامخاً في الخلق مبناه
تريد إن أمرت أمرا يصيخ لها
بالسمع من قد أرادته بمعناه
والجهيمان في خطابه لنفسه لا يظهر الشكوى مباشرة، لكنه يضمنها معاني داخلية يقصد منها قول ما يريد قوله، وأن الدنيا لم تعطه ما يطمح إليه، ولأن الجهيمان كاتب اجتماعي، فقد وظف شعره في النواحي الاجتماعية، فمرة تكون هازلة ومرة تكون جادة، وبين جدة وهزلة نقطة هزلية ساخرة، ومنها قصيدة في المدير، ضمن الديوان، فقد صور المدير في صورة اسطورية، تقترب من توظيف الاسطورة في الشعر وليس العكس، وقد يكون الجهيمان على ما في شعره من النظم أقرب الشعراء من جيله للناحية الإبداعية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved