الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th July,2004 العدد : 69

الأثنين 9 ,جمادى الثانية 1425

مساقات
السُّلَّم الشِّعْري لدى العرب (الحلقة الثالثة)

* د. عبد الله الفيفي
1
في المساقين السابقين جاء الحديث عن أربع درجات من ألقاب الشعراء، تمثل الفئة الأولى من فئات الألقاب الشعرية، وهي تلك التي تحمل شهادة بتميّز الشاعر في عموم شعره: (الفحل، النابغة، المحبّر، الشمّاخ). ثم ذكرنا أن لقب (الصنّاجة) هو أليق الألقاب بالدرجة الخامسة من تلك الفئة. فصاحبه (أعشى منفوحة) شاعر مطرب بشعره، أعجب بشعره العرب، وإن لم يجعلوه من أولئك الأربعة المقدّمين من فحول الشعراء. كما ناقشنا تلك المعايير التي كان العرب ينطلقون منها في تصنيف الشعراء وتلقيبهم، وأشرنا إلى أن تلك المعايير والأحكام والألقاب كانت ذات طبيعة ارتجالية، وإنْ كان هذا لا يقلّل من أهمية بحثها. وأن اللقب الواحد من تلك الألقاب التقييمية ليس حُكماً مستوعباً لكل خصائص الشاعر، وإنما هو التفاتةٌ إلى الأبرز من خصائص شعره. ومع هذا، فلقد غلبتْ دلالاتُ هذه الألقاب على آراء النقّاد وتصنيفهم لطبقات الشعراء. ثم قيل إن الشعراء الذين لم يشتهروا بألقابهم الشعرية يشاركون أقرانهم من الشعراء الملقّبين في اكتساب منازلهم من الشعر وطبقاتهم بين الشعراء، وفق المعايير التي مُنِحتْ على أساسها تلك الألقاب. كذلك مرّ أنه يبقى من الفئة الأولى، المتعلّقة بالبراعة الفنّية العامة، لقبان، أقلّ شأناً من الألقاب الخمسة السابقة، أولهما: لقب (مقّاس)، الذي مُنح ل(مسهر بن النعمان بن عمرو العائذي القرشي). وقيل في تفسير لقبه: إنه يَمْقُسُ الشعر كيف شاء، أي يقوله. وإنْ كان قد عُلّل لقبه ببيت من شعره، كالمعتاد. ويظهر من هذا اللقب أنه يشير إلى قلّة شعر هذا الشاعر، فهو شاعر مقلّ. وكأن كل مقلّ من الشعراء مقّاس. واللقب الآخر والأخير من هذه الفئة، لقب (الأفوه)، الذي أُنيط ب(صلاءة بن عمرو بن مالك الأوديّ، من سعد العشيرة من مذحج، ت. 570م). ويبدو لقب الأفوة صفة مرادفة «للمفوّه»، أي: الناطق ذو الكلام الحلو الرشيق. ولعله إنما اكتسب لقبه هذا للخطابية الحِكَمية التي يكتسي بها شعره. ومما يُنسب إليه من هذا تلك القصيدة الحكمية، التي منها البيت المتمثّل به:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
وهو من قدماء الشعراء في العصر الجاهلي، حتى قيل إنه أدرك المسيح عليه السلام. كما ذكر (البكري) في «سمط اللآلئ». ولذا نُسب إليه كما نُسب إلى المهلهل أنه أوّل من قصّد القصيد، قال (السيوطي، المزهر): «وهؤلاء النفر المدّعى لهم التقدّم في الشعر متقاربون».
وكان الأفوه سيّداً قائداً في قومه، حكيماً للعرب، يصدرون عن رأيه. فهذا لقب يحيل إذن على (خطابية الشعر)، على الرغم من أن هناك من حاول أن يلتمس علّة اللقب في صفة أسنان الرجل أو شفتيه، (كالإربلي، المذاكرة في ألقاب الشعراء; والرَّبَعي، نظام الغريب)!
2
أمّا الفئة الثانية من الألقاب التقييمية للشعراء، فتتعلّق ببراعة الشاعر في منحى من مناحي المعاني الشعرية. فاللقب هنا لا يحمل شهادة لتميّز الشاعر في عموم شعره، ولكن يحمل شهادة له بالتميّز في غرض أو وجه من أوجه المعاني الشعرية.
فمن تلك الألقاب: لقب (الكاهن). ذلك اللقب الذي أُطلق على (زهير بن جناب الكلبي، ت. 564م)، وقيل إن ذلك لسداد رأيه، وقد كان وجيه قومه وخطيبهم. ذكر ذلك (الجمحي، الطبقات; ابن قتيبة، الشعر والشعراء; والأصفهاني، الأغاني). وليعذرني القارئ في هذا التخفّف من تفاصيل التوثيق أحياناً، وهي موجودة، فما أريد أن أثقل المقالات بها، وما هذا المقام بمقام النشر العلمي، بمثاليته المطلوبة، هذا اللقب (الكاهن) يتركّز حول خاصية الحكمة وصواب الرأي والتكهّن بالمستقبل، لا سيما أن الرجل كان من المعمرّين، حتى زُعم أنه عاش أربع مئة سنة. وشعره مليء بالحكمة وضرب الأمثال، بوصفه شاعراً خطيباً حكيماً، ذا مكانة في قومه، وتوجيهٍ للرأي العام فيهم. وهو لقبٌ يسجّل علاقة الشعر القديمة بوظيفة الكاهن، إنْ حقيقة أو مجازاً، تلك العلاقة التي كانت وراء التباس «الشاعر» ب«الكاهن» في ما التبس على العرب من أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلّم والقرآن الكريم، واقعاً أو مراءً. ولقد كان العرب ينظرون إلى الشاعر هذه النظرة التقديسية، ويأخذون كلامه مأخذ الكهانة أو النبوّة.
وهذا اللقب الجاهلي يفسّر لنا لقب (المتنبي)، الذي كثُر اللغط حول دلالته، وقد ذهبتْ التأويلات فيه كل مذهب، وما هو على الأرجح إلا لقبٌ كلقب (الكاهن); لما كان ينحو إليه شعر المتنبي من صيغ حِكَميّة، تستنبط من التجارب حكمتها المساعفة في التنبؤ بمآلات الأحداث. وجميع الأقاويل الأخرى تبدو ملفّقة، لا تليق بالمتنبي، ولا دليل عليها من شعره أو من أخباره. وقصارى استدلال المستدلّين في تعليل لقبه: تأوّل إشاراته أو تشبيه مقامه في الناس وحاله في أمته بمقام المسيح بين اليهود، أو حال صالح في ثمود. ولا غرابة في أن يسمَّى الشاعر متنبّئاً أو كاهناً; فلقد كان العرب يعدّون الشاعر المفْلق بمثابة النبيّ في قومه، لا المتنبّئ أو الكاهن فحسب. (ينظر: الفارابي، إحصاء العلوم; وابن سينا، الشفاء (الطبيعيات: 6 النفس).
ومثل ذلك يصحّ أن يقال عن لقب إسلامي آخر هو لقب (ديك الجِنّ)، الذي اتُّخذ للشاعر الحمصي (عبدالسلام بن رغبان الكلبي، ت. 850م)، واختُلف في سببه. وممّا قيل فيه إنه لأطوار هذا الشاعر الغريبة. ولعله كما يذهب (الثعالبي، ثمار القلوب) إشارة إلى نجابته الشعرية وحذقه. فقد كان متلقّوه يصفون شعره بأنه في غاية الجودة، حسب (ابن خلّكان، وفيّات الأعيان). ولا عجب كذلك، فقد كان العرب في مختلف عصورهم يعتقدون أن للشاعر مصادر غيبية، يوحي إليه رئْيُها بما يقوله من عبقري الكلام وساحره. كما كانوا يؤمنون بأن الجنّ وراء كل غامض أو عجيب، مما لا تدركه عقولهم، وما أكثره، ومن ثم كان أكثرهم للجن عابدين.
تلك حكاية أخرى.. وللبحث صلة.
مقام:
ماذا جَنَى المتنبئُ، المحمومُ شعراً،
غيرَ خيلٍ إذ تكوسُ..
ويهطلُ المطرُ / الدماءُ؟!
أَ وَلَمْ تعلّمك السنونُ بأنّ عصرَ الحُلْمِ ولّى،
أنّ عاقبةَ المغامرةِ الشَّقاءُ؟
ستظلّ تغزلُ نهركَ الأبَدِيَّ
من دمع القبيلةِ،
ثم تهرقه فراشاتٍ ملوّنةً،
وترحلُ...
أيها اليَفَنُ المضاءُ!..
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved