الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th July,2004 العدد : 69

الأثنين 9 ,جمادى الثانية 1425

ليس هذا كل شيء!!
* أحمد علي آل مريع
الساعة الخشبية أعلى الجدار تشير إلىالثانية صباحاً، المكتب الوثير، يبدو ساكناً ما خلا نسمات عليلة تتسلل برقة متناهية عبر باب الشُّرفة المشرعة على الوادي، لتعبث بأطراف الأوراق المتكدِّسة على المنضدة. كان أبي وقتها مستنداً على حائط البلكونة مرسلاً بصره خلف الظلام المحيط بكل شيء حول بيتنا، وضوء خافت يضيء إحدى زوايا الفناء..
كنت للتو قد فرغت من تنظيم الحقيبة المدرسية لاختي الصغرى استعداداً ليوم جديد، كان الجو بديعاً، والمساء هادئاً إلا من نباح متقطع قادم من قلب الظلام خلف الوادي.
ظهر لي ان والدي لم يشعر بوجودي في الحجرة، مؤكداً أن فكرة خصبة تسيطر على تفكيره، فمفكر مثله لا يستغرق في هذا الصمت دون أن يصارع حلماً ما، هذا يؤكده القلم الرصاص المبري بعناية والأوراق المجموعة بحرص شديد.
اقتحمت باحترام خلوته في الشرفة دون ان انبس بحرف، رمقني بنظر خاطفة، ثم عاد فأرس بصره وراء المجهول، كل شيء ساكن من حولنا، حتى تلك المعركة غير المتكافئة بين ضوء المصباح الخافت وبين جيوش الظلام المتكالبة عليه كانت بدون اصوات.. أكره السكون السرمدي أشعر أنه يجعلني في مقابلة نفسي المحبطة.. هذه السنة الثانية لي بعد تخرجي من الجامعة؛ ولم اتسلم وظيفتي المستحقة، كانت هذه الفكرة الوحيدة المسيطرة عليّ طوال وقت الفراغ.. لم يقطع تسلسل أفكاري إلا صوت والدي يشق سكون المكان:
ياسمين: ألا يوحي لك هذا المشهد بشيء؟! وأشار بسبابته إلى جحافل الظلام وهي تتكالب على الفارس الوحيد بزاؤية الفناء الشرقية، واردف قائلاً: هناك عند المصباح!!
قلت متصنعة الحكمة: الامل.. الطموح..!! كنت أود أن أبدو مثالية، ظننته يحدثني عن معاناتي، ويزفّ لي شيئاً من الطمأنينة لاعود إلى سكينتي.. كان ما يفكر به أبعد بكثير من حدسي المتسرع، واصل والدي:
الجهل والظلم والباطل مهما تكالبت على الحق لن تستطيع قتله، قد تحاصره.. قد تضيق عليه.. قد تعزله عما حوله.. لكن سلطان الحق (يابنتي) يأبى أن يتلاشى.. ولو انعزل.. ولو كان فرداً.. الفرد وحده أمة!!
صمت طويلاً وهو يرسل بصره اتجاه الجنوب وراء عدوة الوادي القصية؛ حيث غابة كثيفة من الأشجار الجبلية يلفها الظلام، ثم قال دون أن يلتفت إليَّ:
انصتي؛ هل تسمعين شيئاً؟!
لا.. لا.. فقط نباح، أصوات بعيدة لكلاب مسعورة!!
ليس هذا كل شيء!! تلك هي الحقيقة الحاضرة هنا، أما الحقيقة الكامنة فهناك.. العالم.. كل العالم هناك، يابنتي..!! قال الكلمة الأخيرة وهو ينظر إليَّ، ثم أخذ يتوكأ على عصاه نازلاً.. تبعته ببصري حتى غاب عني وسط الظلام.. عدتُ وحيدةً، أخذتُ أتأمل المعركة بين الظلمات والنور..
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved