Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
أقواس
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

نودعه هناك ونستقبله هنا
عبدالله محمد الغذامي

 

 

هناك وهنا، توديع واستقبال، وما بين هناك وهنا مسافة تمتد حبا وكرامة، هذا الناصر عبدالله، الذي تفرح الأرض باستقباله وتفرح النسمات بعبوره، رجل أخذ الوطن على عاتقه، وعمل مخلصا وصادقا ومتفانيا، يدفع أغلى ما يملك من عذاب الضمير إلى تنهيدة الرجل الأبي، رأيته وهو يعصر روحه عصرا لأنه يتحصر على موقف أو على حالة ويكاد ينفجر من داخله وويله من نفسه إن صار الموقف غير قابل للحل بين يديه، إنه يسلك أوعر الطرق وأقساها وأشقاها لكي يحل مشكلة أو يحفظ سمعة لوطن أو يفتح طريقا لطالب أو طالبة وقع هو أو هي في مأزق الغربة والحيرة ورأى السبل أمامه وكأن لا باب في الأفق ولا مفتاح للحل، وهذه هي لحظة عبدالله الناصر، وكلما تأزم موقف لطالب وكلما اكفهرت الأنواء في وجه طالبة فهو هنا، يحضر وكأنما يحمل روحه في كفه في مواجهة الظرف وفي الوقوف وقفة المخلص الذي يضع الوطن والمسؤولية ويجعلهما ضميره الحاكي وروحه المتوثبة للحظة صدق لم يخنها قط ولم تفر من ين يديه قط.

هكذا هو صورته عند الطلاب الذين دخلوا قبله قبل أن يدخلوا مكتبه والذين سكنوا في روحه قبل أن يدلجوا الطلاب أو سكن العائلات أو قاعات الجامعات، ولذا وقف الطلبة أمام مليكنا الغالي في السفارة في لندن وطلبوا منه أن يبقي عبدالله الناصر في الملحقية وكانوا يقولون ذلك بإحساس من سيفقد وجها كريما تشرق به المكاتب ويطمئن معه قلق الغربة ووعثاء السفر.

أخلص عبدالله وصدق ولذا أحبه الجميع.

وهو لم يكن موظفا نموذجيا فحسب بل كانت ثقافته وإبداعيته هي الصفحة الأخرى التي تسند دوره الوظيفي، وهو الكاتب الواعي والمبدع المتحفز، وكم كنت وراءه مرارا ومرارا أحثه على كتابة نصه (نصوصه) الروائية، وكم كان اندهاشي لا يقف عند حد حينما أطلعني على نص روائي عملاق كتب ما يقارب ثلث الرواية وفي هذا الثلث وجدت نفسي مع نص يشبه ما قاله الفرزدق حينما نظر في شعر عمر بن أبي ربيعة وقال: هذا ما طلبته الشعراء وحينما عجزت عنه بكت الديار، لقد كانت الرواية كمشروع مذهلة وعميقة، جعلت الأرض تتكلم ببواطنها وجعلتها تفصح عن تنهداتها المكتومة سنين طويلة.

لقد كان هذا منذ ثلاث سنوات، وكنت أنتظر البقية، ولكن الأيام تمر، وكلما هاتفني وشاغلني بالكلام كنت أعاكس لفظه وأسأله عن الرواية، لأسمعه يتنهد من هناك تنهيدة تمتد من لندن إلى الرياض، ويقول: الطلبة يا أبا غادة، خمسة آلاف صار عددهم الآن ويدي لن تتركني أكتب في نص روايتي وأنا أعلم أن هناك طالبة في المطار تنتظر وآخر صار له مشكل في المستشفى وثالث وقع مع مشرفه في مأزق ورابع تعسر أمر قبوله في الجامعة وخامس لم يرتح مع العائلة الإنجليزية التي يسكن معها.

هنا أتذكر أيامنا الأولى حيث ذهبت إلى لندن في أغسطس 1971 ودخلت عالم المغامرة بكل أبعادها ولم أكن لا أنا ولا زملائي نعرف حتى مكتب الملحق الثقافي ولم نكن نطلب منه شيئا ولم يكن هو يعلم عنا شيئا، ولكن الأيام تبدلت وجاء دور الملحق الثقافي الذي لا يسمح لنفسه بأن يشتغل على روايته لأن طالبا أو طالبة يحتاجه هناك.

هذا هو عبدالله الناصر الذي ظل العمل عنده فوق كل الهموم، وظلت المسؤولية عنده فوق كل الخيارات، ولذا فإنني لم أعجب حينما وقف الطلبة أمام مليكهم يقولون له: ابق لنا عبدالله.

ولكن عبدالله مطلوب هنا، مطلوب لنصه ولروايته ولذاكرة تنتظر من يترجم لغتها ويبوح بسرها.

ولن أختم كلمتي قبل أن أشير إلى الرجل النبيل صديقنا الراقي الدكتور خالد العنقري الذي به اكتملت حبكة العمل بين رجل ورجل وكرامة وكرامة، والرجل الكريم لا يعمل إلا مع كريم يسند ما فيه من نبل وما فيه من مروءة، وخالد العنقري هو ذلك الرجل الذي تستطيع أن تعمل معه برقي وثقة، ولقد عرف عبدالله الناصر أن يضع مرجعيته ورجع إلى سند رفيع وشريف ولذا تحرك عبدالله كحكيم أرسله رجل ثاقب البصيرة ولم يوصه، ولولا سمو هذه المرجعية لعجز عبدالله أن يكون الذي كان، فشكرا لك يا أبا محمد على مساندتك رجالا يعملون معك ويجدون أنك هواؤهم الذي يتنفسونه كلما داهمتهم تنهيدة حرى على ضاغط مالي أو قانون إداري في مواجهة موقف لا يقبل الانتظار، وكنت دوما سندهم الذي لا يورطهم.

وإن رجع عبدالله من عمل فإنه يرجع إلى عمل آخر وهو يتنقل من ثغرة إلى ثغرة، وكلها وطن ووطنية، ومن وطنية الوظيفة إلى وطنية الإبداع والكلمة المبدعة، وهات الرواية يا أبا عبدالعزيز وها قد حان وقتها.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة