Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
فضاءات
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

المنهج الأسطوري في النقد العربي الحديث «3»
د. لمياء باعشن

 

 

ويأتي صف أخير يصنف الخرافات الورادة بكثرة ساحقة في أخبار العرب على أنها أساطير لأن من مواصفاتها الأساسية أنها مجازية وتلعب فيها الآلهة والقوى

الخارقة أدواراً رئيسة. يقول أحمد كمال زكي: ونعجب بعد هذا كله أن يقول أغلب الدارسين إن العرب لم يعرفوا الأساطير ويستندون في ذلك إلى الزعم أنهم لم يكونوا من أصحاب الملكات الخلاقة التي تعتمد الخيال الواسع، مع أن مراجعة عاجلة في كتاب النقائض تبين أنهم لم يكونوا ينقصهم شئ مما حفلت به أساطير الإغريق) دكتور أحمد كمال زكي، الأساطير: دراسة حضارية مقارنة، دار العودة، بيروت، 1979، ص 77-87).

وأدى هذا الانقسام بين النقاد إلى النشاط الثاني الذي تمثله محاولة إيجاد النظير لتلك الأساطير في المأثورات الشعبية العربية وذلك بالنبش في الكتب العربية واستخراج قصص الجن والملائكة والبشر المتفوقين والخارقين، والسعي عبر تقصي الظواهر الأسطورية العربية إلى إثبات وجود تراث أسطوري للعرب في الجاهلية وما قبل الإسلام. وكان لحركة إحياء التراث أثر في الإنتاج الأدبي فقد عمد الشعراء إلى الرموز الشرقية وابتعثوا مفاهيم لم ترد عند إليوت، حتى وإن رأوا أنها محدودة وناقصة وبسيطة. ويوضح شفيق معلوف في مقدمة ديوانه عبقر) أن: أساطيرنا العربية لم يصلنا منها غير القليل، وهو على قلته مشوه مبتور ولكنه لا يخلو من مغاز غامضة وجب علينا سبر أعماقها، والأساطير التي ترمز إلى فكرة، خلقنا لها الفكرة التي نخالها صالحة لها، وما كان منها ذا رمز، جلونا رموزه وتبسطنا في تصوير مراميه) شفيق معلوف: عبقر، منشورات العصبة الأندلسية، دار الطباعة والنشر العربية، البرازيل، 1949، ص 267).

وظلت ألف ليلة وليلة أغزر نبع يغترف منه الشعراء المعاصرون أقنعتهم الأسطورية، فالملامح السندبادية تكررت في الخطاب الشعري المعاصر وأعيد تشكيلها في استخدامات رمزية عند خليل حاوي وصلاح عبد الصبور وغيرهم. فصلاح عبد الصبور مثلاً يرحل كما يرحل السندباد ويحكي حكايات الغربة كما حكى حكايات المغول وقصص التوراة، وطالما وجد ملاذه في رموز الصوفية والدراويش، كما أن حكايات ياجوج وماجوج) وقابيل وهابيل) والخضر) تؤكد إحساس السياب بالعدمية، غير أنه لدهشتنا يستعين برموز تموزية للتعبير عن فكرة النهوض الجديد أو البعث المنتظر الدكتور أحمد كمال زكي، دراسات في النقد الأدبي، دار الأندلس، 1980، ص 183). ثم تطرق الشعراء إلى السيرة الهلالية وعنترة بن شداد والظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة وفيروز شاه وحمزة البهلوان وعلي الزيبق وزرقاء اليمامة وسنمار والمهلهل وكليلة ودمنة وجذيمة والأبرش والزباء ملكة تدمر، لتتساوى حصيلتهم الأسطورية مع الموروثات الشعبية التي يعنى بها دارسو الفلكلور.

وعاد النقاد لينقسموا مرة أخرى عند مسألة المصطلح كرد فعل لهذا الخلط الكبير بين الأجناس الأدبية، فراح كل منهم يصوغ تعريفاً للأسطورة في محاولة لفصلها عن المأثورات الشعبية الأخرى كالحكاية الشعبية والخرافة والسيرة البطولية والعجائب وحكايات الجن والملاحم والأمثولات. وعلى أن بعض الدارسين قد حاول أن يفرق بين الحكاية الأسطورية والحكاية الشعبية من خلال تخفيف الدلالة الدينية بدعوى أن البعد شاسع بين الخرافة كحكاية بطولية تحفل بخوارق أبطالها من البشر والجن، والخرافة كحكاية مقدسة تسجل أفعال الآلهة وتحمل معتقداً دينياً، إلا أن كل التعريفات ظلت بعيدة عن الدقة. وربما تعود هذه الضبابية في الرؤية إلى أن مصطلح الأسطورة قد ورد إلينا وهو مهتز في نظامه اللغوي الأصلي و قليل هم النقاد الذين استطاعوا ضبطه ضبطاً دقيقاً حتى أننا نجد فريدرش فون ديرلاين يتساءل: أين يقع الاختلاف بين الحكاية الخرافية وأسطورة الألهة؟) ويضيف قائلاً: إن هناك احتمال فحواه أن أسطورة الآلهة والحكاية الخرافية لم تكونا في الأصل منفصلتين احداهما عن الأخرى انفصالاً تاماً فكلاهما عاش في عالم مشابه هو العالم السحري) فريدرش فون ديرلاين: الحكاية الخرافية، ترجمة: د. نبيلة ابراهيم، مكتبة غريب، القاهرة، ص 153).

وعلى الجانب الآخر من العالم ينتهي فوزي العنتيل إلى أن الحد الفاصل بين الأسطورة وحكاية الخوارق مبهم في الغالب وما تزال مشكلة الفصل بينهما قائمة) عالم الحكايات الشعبية، دار المريخ، الرياض، 1983، ص 10). وإن كان د. أحمد كمال زكي يسلّم بوجود تلازم بين الأساطير والحكايات الخرافية) الأساطير: ص 65)، فإن ياسين النصير يجزم أن الأدب القصصي الميثولوجي منه وغير الميثولوجي، هو ثمرة المخيلة الجماعية الشعبية) المساحة الختفية: قراءات في الحكاية الشعبية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1959، ص 10). ومما زاد من التباس المصطلح عند العرب أن بعضهم يرجع كلمة أسطورة إلى ما سطره الأولون في الكتب كما ورد في لسان العرب والقاموس المحيط: هي الأحاديث التي لا نظام لها وهي جمع للسطر الذي كتبه الأولون من أباطيل) فتبدو الأسطورة وكأنها كما يصفها د.قاسم عبده قاسم: صور الفكر البدائي مسطورة أو مطبوعة في لوح الذهن) تطور مناهج البحث في المناهج التاريخية، عالم الفكر، ج 20، الكويت، 1989، ص 177).

أما البعض الآخر فيرى أن المصطلح هو ترجمة لكلمة Historia اليونانية وتعني حكاية. ولكن تبقى Myth، اليونانية أيضاً والمشتقة من Mythos، هي الكلمة التي جاءتنا من الغرب مقابلة لكلمة أسطورة والتي تعني الخطاب المنطوق8 ، فتتحقق بذلك نسبتها إلى العوام والشفاهية. وقد بقيت كلمة Mythos فضفاضة ولم توجد كلمة بديلة في اللغة العربية، مما حدا بانطوان معلوف أن يتمنى لو أننا أبقينا على اللفظ اليوناني فقلنا الميثوس) فنكون قد احتفظنا للكلمة بمعناها الأصيل دون الوقوع في الالتباس أو التناقض) انطوان معلوف: المدخل إلى المأساة والفلسفة اليونانية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1982، ص 278).

كان من الطبيعي في ظل هذا الاستخدام المضطرب للمصطلح أن تتركز ممارسات النقد الأسطوري عند الباحثين عن أصول الأدب الشعبي الذين أجادوا الاستفادة من منهجية التحليل عند البنيوية الأنثروبولجية. ويرى د. عبد العزيز حمودة أن انتقال النموذج اللغوي من نظام اللغة إلى نظام السرد هو أمر طبيعي ومنطقي، إذ أن من الممكن تقسيم الشكل السردي إلى وحدات صغرى، هي المايتيمات، التي تقابل فونيمات النموذج اللغوي، لأن طبيعة الشكل السردي بما فيه من حدث يتطور، وحبكة، وشخصيات تيسر عمليات التحليل والحركة من بناء كلي للنص إلى أصغر مكوناته وعناصره) د. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، عالم المعرفة، الكويت، 1989، ص290). ولمعت كثير من الأسماء على الساحة النقدية مرتبطة بالمأثورات الشعبية مثل الدكتورة نبيلة إبراهيم وتحليل الحكايات الشعبية و عبد الفتاح كيليطو في دراسة العين والإبرة من ألف ليلة وليلة، وسعيد يقطين في تفكيكه للبنيات الحكائية في السيرة الشعبية.

أما في كتابه قال الراوي: فيقوم سعيد يقطين بإلقاء الضوء على: ما يقدمه لنا نص السيرة الشعبية من انتظامات واختراقات لما تشكل لدينا من معارف حول بنية النص وآليات اشتغاله) سعيد يقطين، قال الراوي، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، 1997، ص 11). كما واستفادت منهجية التحليل في كتاب الحكايات الخرافية للمغرب العربي) من الدراسات البنيوية الأنثربولوجية، فيقول مؤلفه عبد الحميد بورايو: تأخذ دراستنا في حسبانها البحث الشكلاني والبنائي الذي تعود ريادته لفلاديميير بروب وكلود ليفي ستراوس) عبد الحميد بورايو: الحكايات الخرافية للمغرب العربي دار الطليعة، بيروت، 1992 ص 15).

هذا وقد غزت الأسطورة الأجناس الأدبية الأخرى و استقطب القصاصون العرب عناصرها الأسطورية في رسم الشخصيات وفي ارتفاع اللغة فوق المستوى الإشاري وفي تكثيف دلالة موقف أو حدث ما. والرواية بطبيعتها أكثر ملائمة لخلق تمازج عضوي بين الشكل والمضمون وللصياغة على النسق الأسطوري، وفيها يتجلى عالم الميثات على مستويات السرد وبناء الخطاب والحيز المكاني والزماني. ونشير هنا إلى رواية السراب) لنجيب محفوظ التي استغلت النمط الأوديبي لتواجه به عالماً حديثاً معقداً وتعقد صلة بين الماضي والحاضر يتحقق من خلالها الإحساس بوحدة الوجود الإنساني. كما تميزت بعض الدراسات النقدية التي كشفت استقاء الرواة من عالم المدونات السردية القديمة ومحاولة استثارة مكامن الوعي الجماعي، مثل قراءة صلاح فضل لرواية الغيطاني هاتف المغيب) التي يرى أنها لا تحمل السرد إلى عالم الغيب فحسب، بل تحفزه لتقديم رؤية كونية يتلاقى على حافتها طرف من دنيا الطبيعة التي نعرفها وآخر من عالم الأسطورة الكلاسيكية في انزياح واضح يسفر عن زواج رمزي غريب) صلاح فضل: أساليب السرد في الرواية العربية، دار سعاد الصباح، الكويت 1992، ص 114) .

-جدة ....يتبع


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة