Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
مراجعات
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

 

 

في عنوانه فراغ.. وفقط تحتاج إلى الملء.. ماذا بعد كلما..؟ يبدو للوهلة الأولى أنها العنوان لأهم قصائد ديوان.. أضاف إليها ما تبقى.. العنوان مبتكر لا مأخذ عليه.. المهم ماذا بعد العنوان.. هذا ما سنحاول معاً الوصول إليه في قراءة متأنية لا تغمطه حقه ولا تسيء إليه.. اصطفى شاعرنا لنفسه ولبنات أفكاره إطلالة خفيفة الظل لا تثقل ولا ترهق.. عبر كل صفحة عنوان يختزل الفكرة ويطرحها دون إطالة وبأسلوب تراجيدي كومدياني لا يخلو من نزح ومرح أشبه بالبلية التي يضحك شرها.

(العمر) بداياته.. زوجته أرهقت ذلك العمر وهي تلف وتدور من حوله جيئة ورواحا:

العمر.. كلما أرقته المدام جيئة وذهابا سمعته يئن..

يشتكي من حمولة هذا الجسد..

من مسامير قبقابها.. من صدى خلخالها.

ويقول: .. يا الله..!

لو أنني كنت سقفا.. كنت عال كالسماء

وبعيداً.. بعيداً كالنساء..

يبدو أن عمره لا يحتمل قرعة الصوت.. ولا فرقعة الفتيل وقد أنهكه العمر.. وضاق بصخبه.. كثيرون يا صديقي يتمنون ما تمنيت.. ولكن هيهات

ما كل ما يتمنى العمر يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ومعذرة لشاعر هذا البيت وقد استعضت بمفردة المرء مفردة العمر للمناسبة..

الوقت في حياته من ذَهَبَ لا من ذَهَبْ هذا ما توحي به قصيدته الوقت:

كلما قلت: هذا هو الوقت فقم

علني أصنع المعجزات..

ضاع مني مثل ماء تفلت بين الأصابع صار شتات

مثل قيلولة لم أنمها..

أو سراب قد حباه حياة!

لم أنل منه سوى قبض ريح

أو فقاقع هواء

فآه. وآه.. ثم آه من الوقت يمضي هباء..

من الظلم أن نحمل الوقت مسؤولية الضياع.. الوقت زمن متاح.. والإنسان هو ذلك الذي يحمل معالم زمنه وبالتالي يرسم خريطة حياته.. نحن الملومين يا صديقي.

شاعرنا اعترف بمشيبه:

كلما أقمرت فروة الرأس.. واعتمرت بالبياض

قام يسعى لتتويجها بالسواد..

غير أن الصراع المرير بين صبح وليل

ينتهي بانهزام السواد..

ثم يغدو كل شيء للفناء..

لا أحد يخرج من خريف العمر.. ولا أحد يفزع وقد وخط الشيب رأسه على كبر تلك علامة فارقة نختص بها نحن الكهول لأننا نقضي خريف السنين تاركين لأبنائنا ربيع عمر لن يطول.. تلك هي دورة الحياة ومن فينا يقدر على الخروج من دائرتها.. الشيب ليس عيباً.. إنه مظهر وقار لو أحسنا اختياره.

نقلة سريعة بين محطة وأخرى لا تكلفنا أكثر من بضع خطوات الطريق أمامنا سالك.. والمسالك أحسبها معبدة

(رهف) عنوان والمضمون يقول:

كلما صار بيني.. وبيني فراغ مرير

وهم ثقيل.. ووقت ضياع

عدت نحو الطفولة أغزل منها وثارا

ودمية شوق لتأني أرهف

قبلك شعراء كثر تمنوا ما تمنيت.. ولكن هل تنفع شيئاً ليت؟

شاعر قبلك قال:

ألا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب

وشاعر آخر كان يرعى الأغنام غلاما.. وإلى جواره ابنة عمه التي يحبها وينسج من أجلها في خيال عش الزوجية.. اضطرته ظروفه أن يهجر هجرته إلى حيث يطلب الرزق الحلال كي يدفعه مهراً.. سنوات ثلاث أو أربع لا أدري انطوت على سفره.. جمع المهر.. وعاد ليجد فتاة أحلامه سيقت إلى غيره.

ضاقت الدنيا رغم رحابتها في عينيه.. وقال بيته الرائع المريع

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

إلى الآن لم نكبر. ولم تكبر البهم

أمنيات محالة المنال.. الزمن لا يعود إلى الوراء مرة ثانية

(القصيدة) عنوان.. وأبيات نقرأها سويا..

كلما شاغبتني حروف القصيدة

أوقدت في داخلي مشعل الشعر

هربت إلى قاعة المكتبة أحك دماغي

أطارد فيه الشواهد علّي أفي بشيء

ولكني لا أفيء..

عندما تشاغب الشاعر حروفه عليه أن يستكين.. أن لا يحاول هرش رأسه.. الحروف إيحاء يطارِدُ.. لا يُطَارَدْ.. انفعال وليس افتعال..

وعن الصوت يطرح عقيرته:

كلما كان نديا كصوت غرير

وعذبا كماء غير

رقيقا كألماس قرط

جرى في وريدي نسيم اشتياق

فأصحو كما واحة مشمسه

واستعذب الصمت.. والارتخاء..

وكي يأتي ارتخاؤك أكثر راحة وقد طاب لك الجو الذي تهفو إليه وتتمناه فإنني أشير إلى (كألمس قرط) كي تستقيم على وضعها وهو (كقرط الماس).

وعن (الراتب) الشهري يحكي:

كلما قارب الشهر نحو الغروب

وبانت على بعد قوسين كفي خالية

جاءني الغيث يهمي..

ولكن إلى وجهة ثانية

أرتب بعض المصارف!!

بقالة. وكسوة عيد. ودين تأخر موعده

وللشيخ بعض الحقوق

وما فاض نخرجه صدقات!!

هكذا الحياة بالنسبة إليك كموظف.. ترى ماذا يقول أولئك الذين لا دخل لديهم ولا يملكون وظيفة..؟!.. أنت محظوظ حتى على راتبك الذي لا يصل إلى جيبك.

(باب) ماذا يخفي شاعرنا خلفه؟!

كلما أوصدته يد غاضبة

تشقق من جانبيه. وقال:

يتها الغاضة لستُ من صخرة

ولا أنت من كستناء!!

يتها الغاضبة لا ذراعيك عهن

ولا خشي من هباء.. فارفقي

ذكرتني هذه الفكرة.. وهذا التذكير بمقولة الشاعر القديم.

أخي لا تشح بوجهك عني

ما أنا فحمة. ولا أنت فرقد

ملاحظة (يتها) وردت مرتين لا مرة واحدة.. وإلا لقلت إنه خطأ طباعي.. ما أعرفه ويدور في ذهني أنها جملة خطاب (أيتها) ربما أنت أدرى!

(إلى أين أيتها البدوية) سؤال يملك وحده الإجابة عليه:

وقفت تناجين هذا المدى. وعيناك ساهمتان

وتلك البيادر أعطتك من خيرها

يذكرني شعرها الليلكي

بأرض تهامة في الجنوب

لها أسبل الطرف قامته. وانتهى للندى

وأنتِ على أول الدرب. أنتِ

متى على قدميكِ السؤال يذوب؟!

إذا اتهم الشوق. أو أنجدا..

اتهم إشارة إلى تهامة.. هذا ما يؤكده السياق.. ولكن شتان بين تهامة التي تعني المنخفض من الأرض. واتهم التي يتبادر إلى الذهن علاقتها بالتهمة..

(البحيرة) اسم جميل يذكرنا جميعاً بالبجع.. وبطيور النورس.. وبالهضاب الخضر.. وبالناس.. وبالأنس.

منذ عام.. وعامين

جئت البحيرة أبحث عن لامارتين

قبل أن تبحث دعني أسألك كم مرة جئت مرة أو مرتين.. إن كانت واحدة فليكن الشطر منذ عام أو عامين.. وإن كان مرتين فالشطر صحيح..

لندع شاعرنا العارف بأمره يكمل خطاب شعره

قالوا.. نُزُل يحط الرحال به

ويخرج إلى تلعة يخبئها شعره

ثم نكشفها في ليالي الضوء.. والصمت.

لم يجد لامارتين لأن التلعة ابتلعت شِعره.. وشَعره..

ومن البحيرة الحالمة يأتي دور الضباب..

سحابا تراه يغطي الأفق الممتد حتى السماء!

ورياح تقود مساراته في شعاب المدينة

يعلو.. ويهبط..

فتخرج كائنات المدينة كيما تواري حزنها

تخرج كيما تصافح وجه السماء البديل

وتعلن عن عريها..

يعلن عن أفق ضاق بعد اتساع..

الضباب. السحاب.. كلاهما يختصران مساحة الأفق.. السماء تبدو بعيدة لا يطالها النظر.. لا قمرها ليل.. ولا شمسها في النهار.. لهذا ضاقت بعد اتساع.

(سلام إلى شبح الروح)

بعيني تشيخ الذكريات

وتلبسني حالة من الوهم من قلق البوح

ومن حاجز الصوت أنه يغدو ركاما

بعيني.. أعتق هذا المدى نرجسا

وأبذر صبح الحقول على ليل أفئدة مسها الليل

استحالت ظلاما:

هل جرّبت.. وقدرت.. الأفئدة التي تحولت إلى ظلام تحتاج إلى أن تستحم في بحيرة الضوء كتلك التي يعشقها لامارتين بعقله..

إلى نوارة قلبه هذه المرة اختصها بنشيده:

صباح الندى..

صباح يؤجج فيّ ابتكارات شوق

ويرخي على خافقي ستر أنس

ويزجي إلى شرنقات الصبايا تحايا

هو الصبح نوارة القلب

أزف إليه المدى نرجسا

أزف إليه الندى باقة. وإكليل شوق.

وقافية تستفز الخلايا..

كل شيء أعطاه بسخاء لنوارة قلبه.. أجج من أجلها الصبح وأعاده إلى نغم حالم يموسق البرايا ويطربهم.

(قراءة لاحتمالات الرياح)

هنا. أو هناك

تروح وتغدو القوافل متخمة بالجراح

لها غايتان.. ولي واحدة

تحس انبثاق النهى. والمدى موئل مستباح

لها منطقان..

ولي منطق الضوء. والصدق. والمعرفة

أحاول مد الجسور التي خربتها رطوبة هذا المكان السفاح

ولكن في صاحباتي الملاح

جفاف الصحاري. وجدب التراب. وآثارنا المشرعات رماح.

أيامك زمن طويل كي يقدر ضوؤك على كشف الطريق المعتم والمتعرج.. ومع هذا لتكن شمعة كما قال كونفيوشس.. أنها تكشف ما تحت الأقدام.

(الملاذ) محطتنا ما قبل الأخيرة.. ماذا يخشى وقد لاذ؟!

1- مروراً بها صحبي. وبعض أحبتي..

وبعضي لم يزل للماء صنوا.

وللنهر ملتقى.

2- أعاتب فيء النوى

فأسفر عن كائنات لا تشيخ

وعن موتة للتو تولد. وعن مهرجان

تجندل في راحتيه الضباب

3- على بعد موت من القيظ أمشي إليها

وأمسي يراودني عن غد لم أكنه.. ولم يكن!!

يراودني عن فضاء من الشمس لم يحن

يراودني عن أمور لست أفهمها

ولكنها بالكاد تفهمني..

مقاطع ثلاث استغرقها شاعرنا د. يوسف العارف بتخيلاته.. حتى كاد يغرقه خياله في متاهاته.. ولكنه نجا من الغرق.. وخرج سالماً معافى.

وأخيراً.. مع مزاعمه:

أزعم أن الأرض تدور الآن

وأن الآن يدور كما الأرض

وأني كذلك في دوران..

فأيان. أيان يا زمني نستقر

هذا عن الجاذبية ودورانها.. وعن زعمه الثاني الأكثر إثارة

أزعم أن القناديل لا تمنح ضوء

إذا ما الفتائل لم تشتعله

ولم تتشرب من الكاز حتى الشبع

وأزعم أنها لا لن تضيء

تزيل كثيراً من الظلمة الحالكة.

شاعرنا في زعمه الأخير تحصيل حاصل.. وأكاد أقول إنه أشبه بمن فسر الماء بالماء.. من البديهيات أن القناديل دون زيت لا تضيء.

وأن الأشياء التي تستمد وجودها من طاقة مكملة لها لا تعطي الثمرة ولا توصل إلى غاية.

وبعد.. أقول لشاعرنا الذي قدم لنا نصوصه الشعرية النثرية الموجزة لقد أرحتنا في رحلتنا معك.. كنت نعم الرفيق.

وكان عطاؤك طاقة أمدتنا بوقود الحركة.. دون احتراق.. ودون اختناق.. عدنا سوياً سالمين ونائمين..

وإلى حلقة جديدة بإذن الله ومشيئته.

الرياض- ص ب 231185 الرمز 11321- فاكس 2053338 لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة