الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

أعر اف
حيث تموت الحوافُّ..
وتدفنُ البدايةُ رأسَها في رملِ النهاية!!

فيما يلهث القوم خلف (بنات الرياض) أجد في هذا العمل المتقن أيّما إتقان للقاصّة الماهرة المجيدة سهام العبودي، إبداعاً جديراً بالمتابعة، والنقد .. والحفظ.
وأنا أعني هنا المجموعة القصصية الرائعة (خيطُ ضوءٍ يستدقُّ) الصادرة في أواخر العام 2004 في عمّان.
الحقيقة أنّها عمل أدبي خلاّق، غنيٌّ بالتفصيل، والاختزال، والقارئ لا بدّ من أن يقف مشدوهاً أمام اللغةِ العاليةِ النّادرةِ بين كتّاب القصة هنا.
طبعاً لن يشاركني القارئ فيما ذهبت إليه دون أن يطلع على وثيقة تدلِّل على ما أقول، لذلك أجدني سعيداً بمنح هذا الفضاء للقصة الأولى في المجموعة، لنلاحظ كيف تجيد سهام رسم لوحة بالكلمات لا تتقنها الصورة، ولا يقدر عليها الفنان.
خيطُ ضوءٍ يسْتدِقُّ .. أو جريد..؟
كنت فقط أتساءل: كيف يمكنها جدل الجريد، وترتيب هذا النسيج وهي لا تراه، وقتَ كنت أصغر كنت أتعمَّد أن أنحشر في حجرها فيما يداها تحضناني وتمتدان للجريد، وأنا أنقِّب بعينيّ الجائعتين في صفحتي عينيها الرماديتين عن بؤبؤٍ نافع يبرر عملها المتقن .. ولا أفلح في شيء سوى الاستمتاع بهزِّها فخذيها وأنا هناك.
لا تنبس يداها في الضحويَّات الواسعة سوى عن هتاف أصابعها بتسبيحٍ دافئ، أو اخضرار باهت ينساب بين بلح يديها المخضَّبتين .. يمتدُّ جدائلَ عريضة تُخاتلها شرائط الكتَّان الجهيرة الألوان بحيث لا يبدو الجريد متوحِّداً تحت الضوء، وإذا استطالت الجدائل بقدر كافٍ عادت تعقِصُها دوائر ملولبة مُتحاضنة يُنشب رأس السُفلى في قعر العُليا مخلبٌ من جريد حادّ، وهكذا حتى تناديني لأحمل نتاج الضُحى: سفرة أنيقة من الجريد .. كلُّ هذا وهي لا ترى، تنبس يداها سُفرا تكفي الحيَّ كلَّه، وتنبس شفة حيرتي وأنا أرقب الدوائر، في إحدى حيراتي تلك سألتها كيف حدث وفقدت بصرها، قالت: إنّها أحسّت به يتضاءل .. ينقبض كالضوء المُغادر، وفي ذلك الوقت لا يمكن أن يجزم أحدٌ بحلٍّ ناجع، كانت أبصارهم تذهب جملة، وخيط الضوء الذي يستدقُّ مع الوقت ينفلت فجأة من فضائهم لتسكنهم دكنة خليطة الملامح، وببساطة يصبحون عميانا .. هي تعرف أن لا شيء يعنيني هنا سوى جريدها، تتعمَّد أن تبالغ في مهارتها، وأنا أطوف بإصبعي على الدوائر الناتجة، المتقنة، حيث تموت الحوافُّ، وتدفن البداية رأسها في رمل النهاية، قالت أخيراً: إنّها لا يمكن أن تفقد الإحساس بالجريد، حيث يكون هو كلَّ شيء؛ حين استدقَّ ضوؤها، كان ينحسرُ عن سماء تتكشَّف بين جريد يتقاطع، عن مدىً لا متناهٍ من الأخضر، عن خيوط النخل المكوَّمة في فسحة الدار حيث كانت يدا جدّتها تنشئان السفر الأنيقة ذاتها، وهي تمررُ يدين غضَّتين، وتنقش في صفحتها البيضاء هذا الطريق السحري نحو الدوائر..
لا تخطئ اليدان طريقهما نحو خضرة الذاكرة حيث لا ينطفئ الجريد منذ عقود، وحيث تمدُّه - ويحيّرني - تمدُّ سماءها الواسعة، تفتح المدى الذي انغلق بظلمة قديمة، اليوم لا أعود أبداً لسؤالها، أرقب جدّتي تجلس في صدر مجلسنا، تمدُّ الجريد، وتسرح في أفقٍ أخضر لا نراه..
هنا انتهت القصة، الأسبوع القادم لنا وقفة مع سهام، ولربما بعثتم لي بما نالكم من جمال.


محمد جبر الحربي
mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved