الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th February,2006 العدد : 142

الأثنين 28 ,محرم 1427

الوطن الغربة
ليس الشّعراء العسيريون وحدهم من ابتدع شعر الغربة، لكنهم جاءوا بقصائد تحنّ إلى المكان الذي يكون مبتدأ الكتابة الوطنيّة، فجلّ شعراء عسير يتكئون في قصائدهم على ذكريات تمنح ذات الشّاعر طمأنينة لاحدود لها، كما تمنح العافيةُ العليل َجلّ طاقته، وذلك حينما تحتلّ المدينة (أبها) صدارة بوح الشّاعر وحميميّة الشّعر في نفوس بعض شعراء عسير الذين يدفعهم الشّوق، ويمنحهم البعد المؤقّت بعضاً من إمكانيّة هذا البوح، فهم - أي شعراء عسير - (يعيشون في منطقة موحية شعريّاً، الطبيعة أفق لها، وشموخ الجبال والمناظر الفاتنة الخلابة والموروث الشعبي الحيوي نطاق دلالي وجمالي فضّاح للشعر، ومحرّك للمخيّلة الطليقة.
وهي رؤى تنسجم مع الحياة التي تضخّ في مخيّلة الشّاعر كثيراً من الصّور بديعة الرؤية، تنتظر منه أن يعمل فكره، ويشحذ مقدرته الشّعريّة، كي يكتب عنها ما يجعلها باقية في الأذهان بشكل يفوق رؤيتها واقعاً، ويلامس فيها شيئاً من غوايتها، إذ شكّل البعد - لدى شعراء عسير - عن المدينة (أبها)هاجساً يجلب العذاب، كما زادت الغربةالسّقم، وبعثت في النّفس الاكتئاب، كما عبّر عن ذلك مطلق شايع في قصيدته أبها:
أعيدوني فقد طال اغترابي
وقد عانيت من مرّ العذاب
أعيدوني إلى أبها ففيها
دوائي بعد سقمي واكتئابي
وهي ذاتها الغربة التي تتمدّد لدى الشّاعر العسيريّ، حتّى يرى المكان هو الوطن، تعبيراً واختزالاً، شعوراً وإحساساً، فحين يختزل الشّاعر حدود وطنه بمرتع الصّبا، وسكن الأهل، وقصّة الماضي، ليكون الوطن (المكان) مهد الصّبابة، وطريق المحبّة، وتكون النّفس مدينة له بوفائها حينما احتضنت الطّفولة وسكنها الأهل، كما عبّر عن ذلك محمد حسن غريب في قصيدته وطني بقوله:
وطني ومهد صبابتي
وطريف كلّ مودّتي
وطني إلام البعد عنك
وكم أنا في غربتي
وطني عليّ لك الوفا
فلكم حضنت طفولتي
وطني وأهلي ساكنوك
ففيك بعض بقيّتي
فهو الآسر بجماله، المانح صاحبه هواه، ودفأه، وفضله، ليكون الحبّ - وإن بعد - فائقاً درجة الغربة، وألم الفراق؛لأنّه في النّهاية نون العين، ومرمى الأحلام، كما عبّر عن ذلك زاهر عوّاض في إحدى قصائده، بقوله:
لم يزل قلبي مغرماً بجمالك
والهوى العفّ عاشقٌ لوصالك
وحنايا الضّلوع مهدٌ رؤوم
حافظٌ للمعروف من إفضالك
إنّ حبّي - وإن تناءت ديارٌ -
فوق مادار من عِتابي ببالك
أنتِ (نون العيون) مادار طرفي
في مجالٍ إلاّ ارتمى في مجالك
إذ بدا الشّاعر مفتوناً بالمكان لدرجة العشق، مهموماً بالبعد، مسكوناً بألم الفراق، لكنّ دوافع المكان الخفيّة تجعل منه شاعراً بالقوّة، إذ تمنحه (السّجايا التي تهبها منطقة عسير لشاعرها إمكانيّة أن يكون شاعراً بالفطرة، وأن تكون حواسّه على مرمى صورةٍ أو معنى من القصيدة(، ومع ذلك لم يصل الشاعر العسيريّ بالقصيدة إلى مستوى يستطيع به المقاربة بين جمال المكان وجودة النصّ - حسب رأينا -.
فإذا كانت القصيدة الوطنيّة لدى شعراء عسير وصفاً للمكان الظاهر، حُسنه وجماله، وتعبيراً ذاتيّاً هائماً، فإنّ الصّورة التي يمكن ملامستها، وتخيّلها، لم تكن حاضرة بشكلٍ موحٍ في ثنايا النّصوص، فالوصف لم يتجاوز الحسن الشامخ في الجبال دون محاولة لفضح مكنونات هذا الجمال، كما أنّه لم يتجاوز سحر الرّوابي الخضر دون محاولة لكشف مواطن السّحر الحلال، لنكون أمام قصيدة وطنيّة عسيريّة غير قادرة على أن تكوّن للشّعر عالمه الذي (يقيم فيه المودّة التي افتقدها في عالم الواقع، فيجعل كلّ كلمة بإزاء صديقتها، ويجعل من الألفاظ بنياناً تامّ الخلقة، وثيق الترتيب، ولعلّ هذه الأبيات تعطي برهاناً حقيقيّاً لماسبق وأشرنا إليه، إذ هي عواطف وأوصاف تقريريّة، يمكن لأيّ شخص أن يقولها، دون حاجة إلى قدرات خاصّة:
يا (عروس الجنوب) ما الحسن إلاّ
ما رأيناه شامخاً في جبالك
يا (عروس الجنوب) ماالسّحر إلاّ
في الرّوابي الخضر من حول آلك
فالحسن في عسير لا يتجاوز الحسن الشّامخ في الجبال، والخضرة التي تحيط الرّوابي بشيء من حشائش الأرض، وأعشابها، لكنّ الغوص في تلك الجبال، تكوينها، وقصصها التي أسكنها الإنسان في أحشائها، وتلك الحكايات التي حوّلتها إلى معالم ذات دلالات زمانيّة ومكانيّة لم تكن همّ شاعر القصيدة الوطنيّة في عسير، كما أنّ الرّوابي الخضرلم تألف قصّة الإنسان وكفاحه فيها، وتشكيله لكثير من ملامحها، إذ بقيت تلك الرّوابي مجرّد خضرة تمنح نفس الشّاعر بهجتها.
فالقارئ لقصيدة الاغتراب في جلّ أبياتها يلحظ البعد المبالغ في مشاعره، وحجم الاغتراب، إذ جاءت الكلمات طافحة بمشاعر تفوق درجة البعد، وتتجاوز حجم الاغتراب، فالبعد هنا لا يتجاوز مدينة داخل الوطن، والغربة هنا لاتكاد تتعدّى بضع ليال وقد تمتدّ فتتجاوز سنوات معدودات، تفصلها زيارات متكرّرة أو لقاءات عابرة، لكنها تبرز لنا مشاعر ارتبطت بالمكان وقت مغادرته فعدّته وطناً، وانحشرت فيها العواطف دفّاقة وهي تخلق الغربة داخل نصوص عابرة ليس فيها ما يشي برائحة التميّز أو محاولة التفرّد، فحلم العودة لم يتجاوز أوصافاً باهتةً، ووصف الغربة لم يتعدّ نداءات متكرّرة أو ذكريات خجولة، أوتعبيرات تسبقها تبريرات، مثل والهوى العفّ (أي العفيف) رغبة في عدم سوء الظنّ، كما أنّها تسوق في ثنايا النّصوص الوطنيّة الكثير من التساؤلات الباردة التي تعطي إجابات أكثر برودة، لم تمنحها الغربة شيئاً من حرارة الفراق، كما هو واضح في الأبيات التالية:
وأسألها متى يوم التّلاقي
فتأبى غادتي نطق الجوابي
أفكّر فيك يا أبها لأنّي
عشقتك مذ وطئتُ على التّرابي
أفكّر فيك في أمسي ويومي
وعند إقامتي أو في اغترابي
فهي وإن حاولت تطويع الكلمة المعبّرة، إلاّ أنّها كانت تفتقد مهارة الشّاعر في رسم الصّورة الموحية، لأنّها لم تخضع في بنائها لإمكانيّة التّفكير قبل الكتابة، وهي كما نلحظ في كثير من القصائد الوطنيّة العسيريّة وليدة مناسبة، أولحظة دفق شعري لا يبحث عن الجودة بقدر بحث الشّاعر عن مواكبة اللحظة المواتية للقصيدة بغية التفريغ، لذا نراها تخرج مهزوزة العواطف كما في البيت التّالي:
فاسحبي مئزر الفخار اعتزازاً
بالمروءات في صفات رجالك
وبرغم إمكانيّة التّشخيص للمدينة (أبها) إلاّ أنّ الصورة جاءت باهتة لايمكن أن تلفت نظر عابر لها، فكيف بقارئ يداعب كلماتها، ويوازن بين مسارات القصيدة، يلحظ قبحها وجمالها، يقرأ فيها دعوات مباشرة للجمال، ودعوات للكرم الّذي ألف أكثر منه حضوراً وتعبيراً، ودعوات للبهجة، كما عبّر عن ذلك البيتان التاليان:
فابسطي للمصطاف كفّ التراحيب
ابتهاجاً بما سما من خصالك
أنهليه من الرّحيق المصفّى
أنزليه في وارفات ظِلالك
وكما استطاع الشّاعر العسيريّ التقاط الغرض من شعراء آخرين، فقد أمكنته محفوظاته الشّعريّة أن يلتقط بعض القصائد في مطالعها، حتّى أوشكت أن تلتقي مع قصائد يكتبها بعض شعراء عسير في غرض مختلف، كما هو الحال في قصيدة (وطني) التي تأخذ من قصيدة:
ربّاه كفّارتي عن كلّ معصية
أنّي أتيت وملء النفس إيمان
أتيت أطرق باباً كلّ مجترم
أتاه يرجع عنه وهو جذلان
في مقاطع تتلامس في المعنى:
وطني رجوتك مذنباً
فاغفر فديتك زلّتي
فلقد أتيتك والأسى
بحر يمزّق لجّتي
الفرق الوحيد أنّ تلك تناجي ربّها، وهذه تغالي في حبّ الوطن!.
ومع ذلك فليس حريّاً بنا أن ننسى لوعة الفراق، وعظم الاغتراب في نفوس لايمكن أن ننفي عنها حبّها، أو نسلب منها عاطفتها التي نؤمن بصدقها، لدرجة القناعة بأنّ جلّ الكتابات الوطنيّة لدى شعراء عسير تمنحها الذاكرة مشروعيّة التواجد، وإن كنّا نعيد ضعف البناء والصورة إلى ثقافة الشّاعر التي تنتخب محفوظاتها، على أنّها عند الكتابة لا تستطيع استحضار النّصوص ذات القيمة الجماليّة.
لكنّ القصيدة وقد جرّب شاعرها الغربة، وبعد عن الوطن بعداً حقيقيّاً لاتملك غير أن تحضر بلغة تمنح الصّورة حركتها الممزوجة بتساؤلات المكان، عطره، ليله، ضحكات أهله، زهره، حين يدفع شاعر مثل (أحمد عسيري) بشوق يرسم به وطنه:
من رعشة الرّيح في ليل الصّبابات
وضحكة الصّبح في ثلج احتراقاتي
قطفت من شفة الريحان أغنيتي
وصغت من زهرة الرّمّان أبياتي
حملت من سحر أبها ألف رابية
وفي عيوني تعرّت كلّ واحاتي
شلاّل عطر على كفّي يسائلني
أهكذا العشق في أرض المروءات؟
إلاّ أن تلك الحواريّات بين المكان وبين مشاعر الشّاعر لا تعدم أن تنتفي، فهي نادرة الحضور في شعر شعراء عسير، كما أنّ الذّاكرة لاتستحضر إلاّ تلك الأشياء التي تحظرها لحظة الكتابة وهي غير مشاهدة في الوقت ذاته، ولكي تكون الصّورة واضحة دون لبس فإنّ (الفرس) على سبيل المثال لا الحصر هو أكثر الأمثلة حضوراً في مفردة الشّاعر وصورته كما في نصّ مطلق شايع عندما يلجأ إليه كخيار وحيد في وصف العثرة: فإن وفّقت كان بذا فلاحي
وكانت فرحتي بين الصّحاب
وإن عثرت خطا فرسي فإنّي
(رضيت من الغنيمة بالإياب).
كما أنّ اللغة لاتسعف الشّاعر العسيريّ، لحظة حاجته إليها، فقد تمارس عليه دلالها واختيالها، كما هي قادرة على هجرانه وقت حاجته لها، وهي التي نلحظها كثيراً في جلّ القصائد الوطنيّة، ولعلّ حضورها كمثال في قصيدة (محمد غريب (وطني) عندما عجزت عن الوصول إلى المتلقّي، وبقيت تبحث عن مكان يمكن أن تسدّه مفردة:
ومضوا على سمت الحياة
بهمّة وعزيمة
عادوا إليك وكلّهم
وطني عليك تحيّتي
لنكون أمام إشكاليّتي أن يكون الشّاعر كما يقول النقّاد: (شاعر من خلال ما يقول لا من خلال ما يحسّ، لكنه في اللحظة التي يبدأ فيها تشكيل هذه المشاعر في قالب لغوي بهدف توصيلها أو الإشعار بها أو بمعادلاتها من هذه اللحظة تبدأ المهمة الشّاقة للقصيدة، إنّها تشقّ طريقها لتحقيق هدفها إن كان يوجد لها هدف في حقل مليء بالمتناقضات فهي تحرص على أن يكون الشعور متفرداً أو عاماً في وقت واحد، وعلى أن تكون اللغة خاصة بالشاعر، غير مقلّدة لكنها في الوقت ذاته عامة تنتمي إلى لغة الجماعة التي تتوجّه لها (وبين الشّاعر الّذي اختار موقفاً شعريّاً من الكلمات بأن: (يتعامل معها على أنّها أشياء لا دوال، إذ المرء العادي حين يتكلّم يضع نفسه وراء الكلمات قريباً من الموضوع، لكنّ الشّاعر يضع نفسه أمام الكلمات التي تعد بالنسبة للمرء العادي مروّضة، وبالنسبة للشّاعر في حالة بريّة إنها بالنسبة للمرء العادي عرف وأدوات يستخدمها ثم يلغيها ولكنها بالنّسبة للشاعر أشياء طبيعية تنمو طبيعياً على الأرض كالحشائش والأشجار).
إنّ إعادة القراءة والتّأمل لنصّ الغربة لدى شعراء عسير يمكنها أن تطوي صفحة الشّعر حينما استوفى الكلام شروط الوزن والقافية، ثمّ يُحكم على جلّه بأنّه مجرّد نظم!.
فغياب الصّورة التي أراد شعراء عسير لها أن تلبس قناعاً واحداً أفقد القصيدة الوطنيّة العسيريّة إمكانيّة البقاء، لأنّها أي الصّورة الشّعريّة لم تكن قادرة على أن: (ترفد القصيدة من زوايا متعددة، وتتعامل مع نسجها في صور مختلفة، فهي أحياناً تأخذ شكل اللقطات السريعة المتعاقبة، وأحياناً تأخذ شكل الجزئيّة الهادئة الأنفاس والتي تتوازى فيما بينها، أو تتقاطع، أوتتقابل؛ ولكنها تتحرّك جميعاً نحو غاية واحدة)، وذلك كان واضحاً في النماذج الشعريّة التي تمّ الاستدلال بها.


af1391@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved