الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th March,2006 العدد : 146

الأثنين 27 ,صفر 1427

عبدالفتاح أبومدين وأبعاد الريادة

*سهام القحطاني:
(عبدالفتاح أبومدين.. رجل شق الثقافة إلى نصفين.. ماء ونار.. فحمل وعيها وهمها وطموحها). في مطلع كتابه حكاية الفتى مفتاح يقول أستاذنا الجليل عبدالفتاح ابومدين: (إنني أؤكد من البداية أن حياتي ليس فيها شيء يستحق التسجيل والحديث)، وهو قول يذكرنا بقول المتنبي (... وتصغر في عين العظيم العظائم). ويقول (وأؤكد مرة أخرى من غير احتياط.. أن ليس في حياتي العامة والخاصة درس ما يستحق أن يكون موضوعا)، وهو قول ليس لصاحبه حق التقويم، بل حق التقويم مكفول لنا نحن القراء والجمهور الذين ندين لأستاذنا الرائد بفضل تفعيل الثقافة وإنعاشها وطموح الإنجاز.
عبدالفتاح أبومدين ليس مجرد رجل، بل هو أكثر من ذلك.. إنه تجربة وإنجاز وتاريخ.. والرجال عندما يكونون كل ذلك فَهُم استثناء، ومن قال إن الرواد هم غير ذلك، فهم مستثنى من العاديين ومن دائرة الحكم المألوف، والدور المألوف والموقف المألوف، يشقون طرقاتهم وطرائقهم بفرس الرهانات والتغير والإنجاز، وتلكم ليست برحلة شاعرية سعيدة في مجملها ولا مأمونة المخاطر في نطحها لصخرة الواقع في ثباتها الجامد، كما أنها ليست بالمغامرة الجذابة والمشوّقة التي تفرّغ طاقة الإنسان في تصور وتصوير المجهول الشاسع الذي يكمن خلف ظهورنا ورؤوسنا، رؤوسنا كمفهوم مجازي للا وعي الذي يحرك غريزة المغامرة والاكتشاف وتسلّق شاهقات المجهول، فالريادة تختلف في مضمونها عن مفهوم الرحلة والمغامرة، وإن كانت المغامرة جزءا من الريادة، وهي- الريادة - تعني الإصرار على إمكانية تغير الواقع وتحدي الظرفيات بما يستوجب من اقتحام وفتح وبعثرة الحتميات المغلقة والمكونات الرئيسة لتخلف المجتمعات وتأزماتها، فالفعل الاجتماعي والثقافي المأزوم دائما يعني أن طول القامة أعلى من طول السقف المقرر للمرء منا، وأن العقال أضيق من مساحة حجم جمجمة رأس الإنسان وهذا بدوره يؤدي إلى تصادم الرأس مع السقف، وغالبا ما ينفجر الرأس ويظل ثبات السقف قائما!!، وقلما من سلم رأسه من التحطم عندما حاول مناطحة السقف لتثقيب سماكته والمشاركة في ضوء الشمس، وهكذا يصبح الغزو والفتح والإعمار مبادئ المنهج الإصلاحي لدى الرواد، انطلاقا من مفهومهم الميتافيزيقي للوجود كونه حالة انبنائية تسعى إلى فَهْم واستيعاب وإنشاء وعي خاص بالذات. والوعي في الإصدار الذاتي يبدأ من تحدي الفرد لقسوة المعاش الذي يخلق فعل الاستفزاز والتمرد ويشحذ سلوك المقاومة ثم الإصلاح، فالقسوة كظرفية لفعل الاستفزاز وسلوك المقاومة والتغير عند أستاذنا أبومدين (تشحذ النفوس وتربي.. فالشظف يبني الإنسان ويقوي فيه الإرادة) (حكاية الفتى مفتاح). وهي أيضا تنزع غريزة الخوف من داخل المرء وتقربه إلى مفازات المغامرة والتحدي واقتحام السواد، والشجاعة في مواجهة الأخطار.. وتلكم سمات كما أظن يولد المرء بها فلا فضل للمعاش فيها إلا بقدر اكتشافها، وهو ما يعبر عنها أستاذنا أبومدين (ولعل المغامرة في نفسي من الصغر) (حكاية الفتى مفتاح - 86) (وكنت شجاعا لا أخاف، وربما حياة البر ومخالطة البادية غرست في نفسي تلك الشجاعة وانتزعت منها الخوف) (95). فالشجاعة كونها سلوكا مكتسبا تفكيريا نسقيا أو إجرائيا تغيريّا ها هنا تقف كمضاد لغريزة الخوف في مصاغاتها ومصادرها المختلفة.
إن غريزة الخوف كإشكالية إنسانية تأخذ أبعادا مختلفة في خارطة المثقف خاصة؛ إذ تتجاوز التقدير الشعبوي لقيميتها (السلام) و(الاستسلام)، فمن (خاف سلم). وإيمان المثقف بهذا تقدير لتقويم تعبئة غريزة الخوف، يعني الخروج من شبكة صراع التيارات الفكرية واقتحام خط نار التغيير والإصلاح والتنوير، وحينها يخالف المثقف دوره كمحرك للواقع ومعيد لإنتاجه وترتيبه.
إن الوصول إلى مرحلة المجاهرة بالتغير والإصلاح الثقافي يعني تكسير المثقف الرائد بلورة الحكواتي التقليدي الذي نقعّد من خلالها مفهوماتنا المختلفة وآثارها المنتجة عبر مواقف الرفض والقبول والقراءة التوجيهية لتفعيلهما، وهو وصول إلى مرحلة لا تتم ما لم يكن المثقف قد درّب نفسه على شجاعة المواجهة والاقتحام وأبطل مفعول غريزة خوفه، وهو إبطال لا يتحقق إلا عبر تقديرنا لعقولنا وأهميتها في خلاصنا من تأزمنا الثقافي والاجتماعي، والعقل بدون وسيلة التدبر وسلوك التدريب على فهم واستيعاب الذات كمسؤول ومكلف بمهام التغيير والتعمير والتنوير والإصلاح يفقد دوره في ضبط الغرائز وتهذيبها، وهذا يعني أن حركة سلوكاتنا وأفعالنا دون ضوابط، وأفكارنا دون قيم، يعني وجود فوضوي؛ لأن الإنسان ليس مجموعة من الأشياء، بل يختلف عن مفهوم الشيأنة بالضبط الأخلاقي والمعايير التقويمية والضمير والآمال والأحلام والقدرة العقلية، كل هذه الأمور هي التي تجعل الإنسان ليس بشجرة ولا كرسي ولا حمار.. بل يختلف عنهم. إن الإنسانية في مفهوم الريادة لا تعني أن تكون إنسانا بالمفهوم البيولوجي للإنسان؛ لأن الإنسان بيولوجيا شبيه في قدر كبير بالحيوان، لكن الإنسانية تعني قيمة ما تؤمن به من أخلاق أولا، فالتصالح مع الذات عبر مدّ علاقات المرء مع الآخرين في ضوء القيم العليا للعلاقة الإنسانية: التسامح والمحبة والتشجيع والقناعة والصداقة والكرم.. هي التي تبني أولا نفسية المثقف الرائد؛ إذ تهذّب تلك النفسية من عقد العليوية والنقص والأنانية، كما تعدّها لدورها الريادي بما تتضمن من تسامح وقناعة ومشاركة مع الآخر واحترام له وتفكير من أجل مصلحة هذا الآخر. ويقول الرائد في هذا الصدد (لا أحسد أحدا، وأغبط الناجحين، وأحب الطامحين من الشباب، أبتهج بهم، وأمسك على أياديهم حين ألقاهم.. مشجعا ومحفزا على المضي نحو الارتقاء في خضم الحياة) (178)، (وليس قيمة المتاع فيما تملك وتنال، وليست في المال والنشب، ولكنها في العافية أولا: ثم في الوداعة والصحبة الكريمة، بعيدا عن الأحقاد والتشاحن والقلق والعناء). وبهذا المنطق وبمبادئه الإنسانية تلك تصبح الحياة عند أستاذنا عبدالفتاح أبومدين (تلك هي الحياة الأليفة اليسيرة التي نجد فيها ذلك اليسر، الذي لا عسر فيه ولا صخب ولا ضيق، إنما نوع من التوافق في تلك العلاقات) (حكاية الفتى مفتاح - 203). ثم تتجلى الإنسانية في قيمة ما تنتجه، وقيمة الإنتاج هنا تتجاوز التشيؤ إلى إمكان الإصلاح والتجديد وبناءات أخريات لصياغة مفهوم الهوية، ليصبح ما ينتج من أفكار معينات لفهم الحياة وكيفية التعامل معها؛ لذا دائما هناك اختلاف بين الفكرة التي تمارس وصيتها على المتلقي، وتسلب قدرته على تحريك مواقفه وتطويرها باتجاه عولمي شراكي، والفكرة التي تساعد المتلقي على الاختيار، اختيار الموقف وفق الظرفية المتغايرة بما تتضمن من إنتاج علاقات مع الأشخاص والأشياء، إنها تشبه (صلاة الاستخارة) تطمئن النية للموقف القابل للاختيار والعلاقة القابلة للإنتاج والمفهوم القابل للصياغة، أو كما يسميها الأستاذ علي حرب (شبكات تحويلية، أي قدرتها الخلاقة على التوليد والتحويل، وذلك بقدر ما يجري العمل عليها لتغييرها أو لإعادة صوغها، وبصورة تتيح لنا أن نغير أنفسنا بقدر ما نغير بنية الفكر والعلاقات مع الواقع). إن الريادة في صياغتها الإنسانية عند أستاذنا الجليل عبدالفتاح أبومدين هي (الآمال فالإنسان يحلم) (حكاية الفتى مفتاح). نعم فالإنسان يحلم إذن كل الأشياء تبدأ حلما، الحلم كتأمل في إمكانية الدلالة وإمكانية وعي الإثبات، وإمكانية التحوّل لمشروع منجز وخطاب مؤثر لعاقل آخر، أي الانتقال من نظرية المعرفة (أنا أفكر) إلى نظرية الإرادة (أنا أريد). إن الرغبة بشيء ما تتضمن شعورا بحب الذات - كما يذهب الوراقيون - وهذه حقيقة أولى لخلفية المنجز الحضاري في تعريفه العام، تضمن له ولاء المثقف لمنجزه ورعايته وتعهده ونمائه.. وهكذا تتمثل (الإرادة الإنسانية كونها مشروعا محفزا لا فعلا خالصا) (بول ريكور)، ليبدو لنا الانتقال طبعيا من نظرية المعرفة إلى نظرية الإرادة التي يتبلور من خلالها المشروع المنجز للمثقف الرائد، (فالرغبة) عندما يكون المرء داخلها هي التي تمنحه (انفتاحا على.. وليس حضورا لذاته مغلقا على ذاته) (بول ريكور). الانفتاح بمعنى الشراكة في تأسيس المشروع الإصلاحي وتفعيله.
كما أن قدرية القسوة وخلقها لشجاعة الشخصية الإنسانية ودرايتها وفلسفة الحياة، هي حكمة الرائد أبومدين التي اكتسبها من ميادين تجاربه في الحياة، فحدّت شفرة مقياس تقويم الإنسان لديه، فتقويم الأشخاص يختلف في مقاييسه عن تقويم الأشياء، من حيث الناتج والباعث، وإن كان الباعث كأداة من أدوات تقويم الأشياء، والناتج كأداة من أدوات تقويم الإنسان لا يتعاكسان لدى الرائد إنما المسألة تظل كامنة في درجة المفاضلة ومستواها الوظيفي وشدة ورخاوة المدّ والجزر. إن التوافق بين الباعث والإنتاج من أهم سمات الفاعل الاجتماعي، الذي يتجاوز إشكالية (الحمل الكاذب) للمشروع الإصلاحي الريادي، فكثير ممن حمل أفكار المشاريع التنويرية كانوا هم أنفسهم أول العاجزين على التأثر والتأثير ما بين الباعث والإنتاج والحلقة الأضعف في القدرة على الفعل التنويري؛ لأن أنانية العقلية الفردية لحامل المشروع الريادي هي التي تبطل مفعول المشروع النهضوي، وتدخله ضمن الحسابات الشخصية والوجاهة الإعلامية وبالتالي السقوط تحت تأثير العقل الجمعي فيفقد سلطته التغييرية للفعلين الاجتماعي والثقافي المأزومين. إن الفعل النهضوي الريادي يقوم أولا على (الشراكة) لا (الفردية).. وقد أدرك أستاذنا أبومدين ذلك فعمل على تعميمه فيما يتصدر له من مشاريع نهضوية، ويعبر عن أثر الشراكة كعامل مهم من عوامل نجاح المشروع النهضوي، (فقد علمتني الحياة كثيرا).. و(كل عمل ناجح وراءه إدارة ناجحة، وان كل عمل فاشل وراءه إدارة فاشلة) (حكاية الفتى مفتاح). وهكذا، فإيمان الرائد بأهمية المشاركة في صياغة مشروع نهضوي ناجح كفلت له النجاح الدائم في مشروعاته النهضوية، فقلما يستطيع المرء منّا تهذيب غريزته من سلبية الأنانية وطغيان الفردية والمزاحمة على دائرة الضوء، وجبر نفسه للانضمام في صفوف المشترك الجماعي، فالهرمية في شكلانيتها صياغة جماعية ترابية، وقليل منا من يستوعب أمرا هكذا.
ويظل الإنجاز من أهم إنتاجات الفعل الريادي، بل هو محتوى التقويم والتأريخ للتجربة الريادية، لكن أن تكون الأول ليست نقطة أولية في تقويم ما يوضع في الاعتبار أن ليس كل إنجاز في تراتبية الأول من حيث الظهور يعني ريادة، وإن كانت نقطة التقويم تلك لا تغيب عن حسبان الراصد والمقوّم، إن مجلة (الرائد) التي أسسها أستاذنا أبومدين كانت بلورة لتطبيق الانتقال من نظرية المعرفة أنا أفكر إلى نظرية الإرادة أنا أريد، الإرادة في خطوتها الأولى الطموح لتغيير الوعي الثقافي وتطوير الفعل الثقافي والرغبة إلى المعرفة.. (وأصدرت مجلة الرائد ذلك أن الرغبة عندي إلى المعرفة ليس لها حدود) (حكاية الفتى مفتاح160). وهما - الوعي الثقافي والرغبة إلى المعرفة - هدفان يتجليان في تأسيس غاية الرائد أبومدين (لمدينة الثقافة الفاضلة)، وعندما أقول مدينة الثقافة الفاضلة فأنا لا أسقط نيّة المثال لوهميّة الطموح كوجه شبه بين مدينة (الثقافة الفاضلة) عند أستاذنا الجليل و(مدينة أفلاطون) بل مقصدي فعل (الصقل) و(التنقيح) الذي مارسه أستاذنا أبومدين لتأسيس مشروع ثقافي سلالي ظل في حركة تكاثر وتنام وتثمير ليكون بمثابة شجرة طيبة ذات الأصل الثابت متفرعة الى عنان السماء.
وبداية من (مجلة الرائد) ووصولا إلى (ملتقى النص) حياة مكتظة بالإنجاز والإبداع في حياة رائدنا عبدالفتاح أبومدين، سنوات طوال هي جزء من تاريخنا الثقافي المحلي، للرائد فضل وجودها على الواقع، وتجارب ثقافية تمتد طولا وعرضا مكونة أهم تقنيات سردية حكاية تطور الفعل الثقافي لدينا، ونشاطات ثقافية منبرية وتدوينية كفلت تعدد الأصوات الصاخبة وشراكة التيارات، مزعزعة حينا نظرية (حراسة) الأفكار و(حرّاسها) كما سعت تلك النشاطات الثقافية الى تحقيق ما رسمه لمجتمعه قبل نفسه من أهداف وغاية يعلمنا منها مفهوم الفاعل الاجتماعي ودوره التنويري.
لذا كما يقول أستاذنا الغذامي (سنظل نسجل لعبدالفتاح أبومدين هذا الدور الفاعل الحقيقي في تفعيل الثقافة وفي تحريكها وفي جعل العمل الثقافي يتحول إلى إنتاج فعلي). لقد استطاع استأذنا عبدالفتاح أن يجمع بين الإبداع في إنتاجه الكتابي والإبداع في تأسيس المشروع الثقافي التنموي، الذي يأخذ في تعريفه الشامل مفهوم الحياة، عندما (يتحول العمل إلى مشروع حياة) (الغذامي). وإنْ كان المرء منا يدرك كيف يبدع المثقف في إصداره الكتابي، لكن كيف يستطيع أن يبدع المرء في تأسيس مشروع ثقافي يتميز بقدرة التنامي والتنمية؟ فتلكم معرفة تحتاج منّا البحث داخل قدرة خاصة تكمن داخل المرء منا، قدرة التخطيط الناجح والإدارة الناجحة والمرونة في استيعاب شراكة الآخر والاندماج معه، أو كما يسميها الغذامي (أخلاقيات العمل).
إن عبدالفتاح أبومدين كصياغة مفردة، رجل يمثل (حكاية تاريخ).
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved