الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th March,2006 العدد : 146

الأثنين 27 ,صفر 1427

صورة حقوق الإنسان في الفكر العربي الحديث

*د. عبدالرزاق عيد:
إن البند الأول من إعلان حقوق الإنسان القائل بأن الناس يولدون ويظلون أحراراً ومتساوين في الحقوق.. يشكل الأساس النظري الفلسفي والمعرفي الذي تتهيكل حوله البنود السبعة عشر، فهو يؤطرها مفاهيمياً، ويوجه محاورها الحقوقية والقانونية التشريعية والتنفيذية السياسية والثقافية،
ولهذا فإن هذا البند سيؤطر منظور كتاب (طبائع الاستبداد) عندما يستند إلى نظرية الحق الطبيعي بمثابتها المرجعية المفاهيمية التي ستوجه منظومة الفكر السياسي في الكتاب، حيث كل العلاقات القائمة في واقع المجتمع المحكوم بالاستبداد ستُدحض وتُفند بلغة نقدية جذرية، استناداً إلى منظور الحق الطبيعي، الذي سيميط اللثام عن حقيقتها بوصفها علاقات غير طبيعية، ومنافية للعقل والمنطق، لأنها تتنافى مع الحقوق المنبثقة عن الطبيعة وسننها وقوانينها الناظمة لكينونتها، فحقوق الكائن البشري لا يجوز التصرف بها لأنها حقوق طبيعية.
فالبشر أكفاء في الطبيعة، أكفاء في القوة، أكفاء في الحاجات، لذا فالتفاوت بينهم غير طبيعي، فهو ليس إلا برزخاً من وهم، يقول: ما هذا التفاوت بين أفرادكم وقد خلقكم ربكم أكفاء في القوة، أكفاء في الطبيعة، أكفاء في الحاجات لا يفضل بعضكم بعضاً إلا بالفضيلة، لا ربوبية بينكم ولا عبودية، والله ليس بين صغيركم وكبيركم غير برزخ من وهم.
إن مجموع التظاهرات التي يتبدى من خلالها الاستبداد، إنما تكمن عليتها في سيرورتها البشرية ذاتها التي راحت تكتسب طبائع الاستبداد بالتعارض مع الطبيعة البشرية التي تمثل الحرية فيها الأصل، فليس هناك استبداد مفارق للطبيعة، استبداد كينوني (اونطولوجي)، إلا إذا كان عقاباً مجازياً إلهياً للبشر الذين يتنازلون عن حقوقهم الطبيعية في الحرية، ويقبلون أن يقوم المستبد بمشاركة الله في الجبروت.
وعلى هذا سيكون الاستبداد - بالنسبة لأولئك الخانعين المستسلمين لمشيئة المستبد - هو يد الله القوية لصفع رقاب الآبقين عن الحرية الإلهية، الطبيعية، لقذفهم إلى جهنم عبودية المستبد.. ويواصل الكواكبي تعنيفه المجازي الناري في تقريعه لبني قومه على استكانتهم ليبلغ حد صكهم بصفة: أسراء الاستبداد، إذن إن من لا يملك حريته، فهو أسير! هذا التعنيف المجازي يستند إلى الموروث الثقافي الشعبي، الذي يستحضر الله في صفاته وأفعاله في كل تفاصيل حياته وشؤونها، واستناداً إلى هذا المخزون الثقافي، يصوغ الكواكبي صوره المجازية الشعرية، ليعرضها أمام هذا المخيال الشعبي: الاستبداد هو غضب الله في الدنيا.. هو يده الخفية، الاستبداد هو أعظم بلاء، يتعجل الله به للانتقام من عباده الخاملين لأنه وباء دائم بالفتن وجدب مستمر بتعطيل الأعمال وحريق متواصل بالسلب والغضب، وسيل جارف العمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار وأخيراً هو قصة سوء لا تنتهي.
وفق هذه الآلية في إنتاج نظام الخطاب الذي تتقاطع فيه مستويات عدة، ينتج خطاب الكواكبي وظائف أسلوبية متعددة ومتراكبة: إخبارية، شعورية، شعرية، معرفية، فيكون المستبد: عدو الحرية، عدو الحق... المستبد مستعد بطبعه للشر، فللاستبداد طبائعه، التي يتسمى بها الكتاب في عنوانه، ولذلك فالمستبد يتحكم بشؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته.. وهو يتجاوز كل الحدود عندما لا يرى حاجزاً من حديد يصده، وهذا الحاجز يقدمه الكواكبي بتلك الصورة الحسية المشهدية النافرة فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم.
إن نظرة فاحصة إلى المدلولات التي تنطوي عليها هذه الصور سنجد في كل صورة، ما يحيل إلى بند أو أكثر من بنود شرعة حقوق الإنسان: فالمستبد عدو الحرية والحق، تحيل إلى البند الأول الذي يعتبر الناس متساويين في الحرية والحقوق، كما يحيل إلى البند الثاني الذي يعرف الحق بأنه الحرية والتملك والأمن، ومقاومة الجور، بل إن القول بأن المستبد هو عدو الحق لا يحيل في صياغته التجريدية الاطلاقية إلا إلى معاني ملموسة محددة في صيغة (حقوق الإنسان)، فالصيغة الثانية في تعريف المستبد، بكونه يتحكم بشؤون الناس بإرادته وهواه لا بإرادتهم وشريعتهم، إنما تحيل إلى البند السادس الشرعية هي مظهر الإرادة العامة، كما تحيل إلى البند الثالث مبدأ كل سلطة مستقر في الأمة، لا يمكن لأي مجموع أو لأي فرد كان أن يستخدم سلطة غير آتية عنها صراحة والمستبد عندما يضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق: أي الاستهانة بكل حقوق الإنسان، وهو عندما يفعل ذلك إنما ينتهك كل هذه الحقوق والشرائع المعطاة في إعلان حقوق الإنسان، إذ بهذه الصورة المكثفة كعب حذاء في فم بشري، إنما يحيل هذا التصوير في دلالته المجازية إلى عدد من البنود في الإعلان الرابع - الخامس - السابع - الثامن - التاسع - العاشر والحادي عشر.
إن كل هذه الحقوق المنتهكة من قبل المستبد، تعطي أسير الاستبداد الحق في مقاومة الجور وهو البند الثاني من الإعلان، وذلك بالاعتراف بشرعية الخروج على إرادة المستبد، وذلك بالمواجهة، وإظهار القوة والقدرة، والاستعداد للحرب بأن يضع على جانبه سيفاً، لأن الظالم لو كان قد رأى السيف على جنب المظلوم، لما تمكن من ممارسة ظلمه وسلطاته المطلقة.
والكواكبي رغم صياغاته النارية هذه، فإنه يملك درجة من الحصافة العقلانية والحذر السياسي في تحديد ميزان القوى، أنه لا يدعو قومه للخروج على السلطنة العثمانية للتو، وذلك لأن ميزان القوى لا يسمح بذلك، ولذا يضيف منبها، إلى أن إظهار السيف ليس لاستخدامه، بل لأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب فهو ينبه في خلاصة كتابه - إلى أن المطلوب راهنا بالنسبة لزمنه: أولاً - تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم حضها على البحث لإشغال عقولها، والأولى أن يبقى ذلك تحت محض العقول سنين بل عشرات السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يظهر التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات الدنيا، والتمني في الطبقات السفلى.. ولهذا فهو يحذر من المغامرة، والتسرع، لكي لا يشعر المستبد بالخطر، فيزيغ المستبد ويتكالب، وينكل بالمجاهدين، فيغتنم الطامع الأجنبي الفرصة، ويستولي على البلاد، فتدخل الأمة في دور آخر من الرق المنحوس وهذا نصيب أكثر الأمم الشرقية في القرون الأخيرة.
لاشك أن الإشارة إلى المغامرة إنما توميء إلى الاحتلال البريطاني لمصر بعد ثورة أعرابي، والكواكبي هنا إنما يتابع الإمام محمد عبده في موقفه النقدي من ثورة أعرابي بوصفها مغامرة غير دستورية قادها العسكر، فكان من نتائجها أن اغتنم الطامع الأجنبي الفرصة، فقام الإنكليز باحتلال مصر، ولعلها من الإشارات المبكرة في الفكر العربي التي تشير إلى العلاقة السببية القائمة بين الاستبداد والاستعمار، حيث يشكل الأول التربة الخصبة للثاني، ورغم الروح الراديكالي الناري الذي يجعل من كتابة الكواكبي شديدة القرابة من روح الأفغاني الكفاحي، لكن البعد العقلاني الفكري والفلسفي جعلته أقرب إلى خط الإمام محمد عبده التنويري الدستوري الديموقرطي الليبرالي المعتدل، الذي انقلب عليه العقل العربي الشعبوي الانقلابي الاستبدادي الذي يعيد الكرة - دون الاستفادة من مغزى دروس التاريخ - في التمهيد للاستعمار كما حدث ويحدث اليوم..!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved