الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th June,2005 العدد : 112

الأثنين 20 ,جمادى الاولى 1426

حديث في الهوية الشخصية
د. أحمد صبرة *
إذا كانت إشكالية العلاقة مع الغرب أهم ما واجهته الثقافة العربية حتى الآن، فلماذا لم تحل هذه الإشكالية رغم مرور أكثر من مائتي عام على طرحها؟ ألا يمكن اتهام الخطاب الثقافي العربي نفسه بأنه خطاب مضلل، حاول أن يبذر أفكاراً في تربة لا يدري ما طبيعتها، أو أنه يدري، لكنه تجاهل ذلك، والنتيجة كارثة ثقافية؟ ألا يمكن اتهام أسماء مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين ولطفي السيد وطه حسين وحسن البنا وسيد قطب وزكي نجيب محمود وسلامة موسى وكثيرين غيرهم بأنهم كانوا من الأسباب الرئيسة وراء التدهور الحاد في المجتمع الآن؟ ماذا يعني أن يكتب هؤلاء آلاف الصفحات دون أن يتغير أي شيء ذي بال في المجتمع؟ ألا يعني هذا أن خطابهم الثقافي نفسه يعاني من مشكلات بنيوية كبيرة، فهو يظهر دعوات إلى الحرية والانفتاح العقلي والتنوير والتمدين والتقدم، لكنه يخفي بنية تسلطية دكتاتورية أثمرت صدام حسين وأشباهه في المؤسسات السياسية والثقافية وحتى داخل الجامعة هذا المكان الذي يعد رمزاً للحرية والعلمانية.
هذا جانب من جوانب الخلل في الخطاب الثقافي الحديث، لكن هناك جانباً أكثر أهمية وهو سؤال الهوية في كتابات هؤلاء، ويبدو أن هذا السؤال لم يكن مطروحاً طرحاً جدياً في كتاباتهم، لأن الحديث عن استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية كما دعا إلى ذلك لطفي السيد، أو الحديث عن إفناء المصريين في الأوروبيين كما قال بذلك طه حسين، أو تلفيق الأصالة والمعاصرة كما كان ينادي بذلك زكي نجيب محمود، أو تكريس مفهوم الجاهلية الجديدة كما كتب عنه سيد قطب في كتابه القنبلة (معالم في الطريق).. كل هذا عناوين ترتبط ارتباطاً عضوياً بسؤال الهوية الذي كان عالقاً في كتابات هؤلاء، ما الهوية هذه؟
هناك سؤالان أساسيان يطرحان حول الهوية: من أنا؟ وإجابته بحث في الهوية الشخصية، وماذا أنا؟ وهو سؤال يبحث في هوية الأمة أو المجتمع، سؤالان قديمان قدم الإنسان ذاته، نجد آثاراً لهما في الكتب المقدسة، وحتى في النقوش والآثار التي خلفها الإنسان الأول.
كما أنهما سؤلان مربكان، والإجابة عنهما قد تكون مبتذلة عادية كما يقول برنارد ويليامز في بحثه عن الهوية والهويات(1)، وقد تكون شديدة التشابك والتعقيد، فيما يخص الهوية الشخصية، فإنها ترتكز على محورين أساسيين لا يمكن أن تتشكل بدونهما، محور رأسي هو التطابق، ومحور أفقي هو الاختلاف، والتطابق يعني أن الشخص في زمن ما يظل هو الشخص نفسه في زمن تال، والمنطقيون يعرفون الهوية من هذا المنظور على أنها علاقة تعادلية ذات أبعاد ثلاثة: متعدية (فلو أن أ يشبه ب، و ب يشبه ج، فإن أ يشبه ج) أو متماثلة (لو أن أ يشبه ب، فإن ب يشبه أ) أو منعكسة على نفسها (كل شيء يشبه نفسه)(2)، والاختلاف يعني بداهة أن هوية الشخص تختلف عن هوية غيره من الناس، وإلا كنا نتحدث عن الشخص نفسه، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على التجمعات البشرية، فهل تصبح فكرتا الهوية والتغير متعارضتين؟
بمعنى: لو أن هناك شيئاً يتغير، فإنه لن يصبح الشيء نفسه الذي كان (3)، لكن أرسطو يقول إن الشجرة تظل هي هي برغم أنها تستبدل كل أوراقها، وفي دراسات الهوية هناك سفينة ثيسوس ذلك الرجل الذي ظل يستبدل ألواحاً جديدة بأخرى قديمة من السفينة(4) تغيرت كل ألواح السفينة، لكن السفينة ظلت كما هي، لكن مثال السفينة يطرح إشكالية أخرى، فلو نقلناها إلى الشاطئ وجعلناها مطعماً عائماً، أو متحفاً بحرياً، هل تظل هويتها كسفينة كما هي؟
لكن إذا لم يكن الشكل هو مفتاح الهوية، فما مفتاحها إذن؟ هناك جدل طويل بين الفلاسفة المحدثين حول هذه النقطة، جون لوك مثلاً يرى أن هوية الشخص المستقرة عبر الزمن ترتبط بالذاكرة والقدرة على التذكر (5) ثم حدد أسلوبين للتذكر هما (التذكر من الخارج) وهو الشيء المشترك بين البشر مثل تذكر الحوادث التاريخية، أو حاصل ضرب الأعداد، و (التذكر من الداخل) أي أن يتذكر الإنسان مجمل تاريخه الشخصي بمستوياته المختلفة (6) وهو الذي يرتبط بالفرد ويمارس عليه التأثير الأكبر، وقد ناقش لوك أيضاً موضوع فقدان الذاكرة ومدى تأثيرها على هوية الشخص نفسه، كذلك ربط الهوية بالمتواصل السيكولوجي Psychological continuity الذي يعرفه ديريك بارفيت بأنه ميل الفرد إلى إنشاء علاقات سيكولوجية مختلفة بين الحالات العقلية والحوادث مثل العلاقات الموجودة في الذاكرة أو في استمرار المقاصد والرغبات وسائر السمات السيكولوجية الأخرى (7)، لكن بارفيت لا يكتفي بالمتواصل السيكولوجي، بأن يضيف إليه أيضاً ما يسميه المتواصل الفيزيائي، والاثنان معاً ًيفسران وحدة الحياة العقلية للفرد، ويجعلان الأفكار والخبرات التي تحدث في أوقات مختلفة هي خبرات الفرد نفسه وأفكاره (8).
وطرح ريتشارد سوينبورن في بحثه عن النطرية المزدوجة للهوية الشخصية (مصطلح) وحدة الوعي ليفسر به استمرارية الهوية، ووجد أن المصطلح المفيد في هذا الصدد ما طرحه برتراند راسل Copersonal 9 ورأى أن مجموعة العقائد والأفكار التي يشكلها الفرد عن الحياة وعن الناس من حوله تعد أحد محددات الهوية الشخصية.
جانب آخر في الهوية الشخصية يرتبط بالطريقة التي تُدرك بها، وكما يقول برنارد ويليامز: هناك هوية أكون فيها تختلف عن الهوية التي أعرفها عن نفسي وعن الهوية التي يعرفها الآخرون عني، هو يرى أن هذا الخلاف هو جوهر الخلاف في العالم كله (10).
هذا يعني أن مفهوم الهوية سيال سواء في مستويات الإدراك، أو في علاقتها بالتغير، ومع الأخذ في الاعتبار ارتباط الهوية بالذاكرة الواضحة أو وحدة الوعي أو المتواصل الفيزيائي السيكولوجي، أو غير ذلك مما فسر به الفلاسفة المعاصرون الهوية، فإن هناك جوانب فيها لا تقبل التغير، وجوانب أخرى تقبله بدرجات متفاوتة.. ما لا يقبل التغير لون البشرة ومكان الولادة والانتماء إلى جماعة عرقية معينة ووحدة الوعي، وماضي الشخص بوصفه أحد العوامل المؤثرة على الهوية، وأما اسم الشخص ونمط الأزياء التي يرتديها وحتى معتقداته وأفكاره حول الناس والعالم، فإنها قابلة للتغير دوماً. إننا يمكن أن نقول إن الإنسان يتميز عن كل هذا، بل يتميز عن جسده نفسه، وعن سلسلة الحوادث العقلية التي تحدث له، لكن لا يمكن تصور الإنسان ككيان منفصل مستقل (11)، فإذا لم يمكن الوصول إلى كينونة الإنسان إلا من خلال جسده وسائر الحوادث العقلية والأمور الأخرى السابقة، فإن وسائل الوصول إلى الكينونة تعد جزءاً منها.
1. Bernard Williams Identity and Identities in Identity editcd by Henry Harris Clarendon press Oxford 1995p5
2.Sydney Shoemaker, Personal Identity: A Materialistصs Account, in (Personal Identity) by Sydney Shoemaker and Richard Swinburne Basil Blackwell Publisher Limited First publishcd 1984p72
3op cit p72
4 Identity:p5
5 Personal Identity: p 77
6 op cit:p 86
7 Derek Parfit The Unimportance of Identity:in Identity p19
8 op cit:p 1819
9 Richard Swinburne. personal Identity: the Dualist Theory:in personal ldentity p:75
10 Bernard Williams p8
11 op cit p17


* كلية الآداب جامعة الملك سعود

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved