الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th June,2005 العدد : 112

الأثنين 20 ,جمادى الاولى 1426

ثقافة (المثاقفة)...
سهام القحطاني
أحسب أن هذا الموضوع مهم وشائك، مهم لأنه يتقابل بصورة مباشرة مع معطيات العقل الجمعي للمجتمع، وشائك لأنه يدخلنا إلى منظومة معقدة من المصطلحات كالوعي والتغيير والثقافة والمثاقفة.
عادة ما يبدأ فعل التغيير من المركز (العقل الجمعي)، ومركز العقل الجمعي هو(الوعي) والوعي في صيغته الانثروبولوجية مجموعة العقائد والمعايير والقيّم، والتي تشكّل منطق الفرد في تكوين التصورات وتفسير الأشياء وتحديد مواقفه منها، وأنا لا أقصد بالوعي هنا كصيغة انثروبولوجية بمفهوم (التمييز)، بل أقصده كمفهوم (ممعيِّر) ويظل هناك فرق بين التمييز والمعيّرة، فالتمييز لا يمثل نظاماً قيّمياً، في حين أن المعايير هي أساس تكوين النظام القيميّ في المجتمعات، التمييز لا يخضع لقاعدة منظومة العقل الجمعي، لأنه توجه فردي، في حين أن المعايير أصل بناء العقل الجمعي وتتميز بسلطة مهيمنة على تشكيل وعي الفرد، التمييز حضور فكري لا ينتج غالباً سلوكاً، في حين أن المعايير تجمع بين الجانب الفكري والسلوكي، فالمعيّرة أو المعايير هي القاعدة الرئيسة لفعل إدراك الفرد للأشياء وتقيّمها وتحديد مواقفه منها والحكم عليها، وهي بذلك البانية للنظام القيّميّ لأفراد المجتمع، ولذلك فهي تمثل في وعي الجماعة (سلطة مهيمنة ثابتة) والسلطة هنا تقوم بتفعيل الانسجام الداخلي لوعي المجتمع والارتباط الوظيفي بين معايير المجتمع، وهذا بدوره يسهم في المحافظة على الثقافة في صيغتها الانثربولوجية (التراث)، ويحقق قدراً من الاتزان بين الثقافة التراثية والثقافة العصرية، وأهمية وظيفة الاتزان التي تحققها سلطة المعايير أنها تحافظ على الملامح الخاصة (لهوية المجتمع) وتحارب فيروسات التذويب، لكنها قد تحيد عن وظيفتها، عندما تقف في وجه التغيير وتمنعه وتفرض وصايتها على العقل الجمعي، حينها تتحول وظيفة سلطة المعايير من دور الحماية الموّلد للانسجام والاتزان بين المستورد الثقافي والمحلي الثقافي، والتنقيّة كفعل توجيهي، إلى دور قمعي لكل ثورة تغيير، وهكذا يتضح لنا أن العدو الأول للتغيير هي (سلطة المعايير)، ولا يفهم هنا أنني ضدّ سلطة المعايير أو أطالب بإلغائها، فوجودها مهم لحماية ثقافة المجتمع من التفكك والانهيار مقابل المستورد الثقافي، لكن يجب تأطير سلطة المعايير فلا تتجاوز وظيفتها، والمهم الآخر أن أي تغيير لا يبدأ من منطق التفاهم والتفاوض مع (سلطة الوعي الجمعي) أي المعايير هو (لا تغيير) بل ضرب من العبث والهذيان، و(التغيّر) يعني إعادة البناء، ولا يتحقق التغيير إلا بإرادة (العقل الجمعي) وموافقته على إعادة بناء (سلطة المعايير) أي الربط بين الدافع النفسي للمجتمع والواقع الخارجي، فأي تغيير يتم ضدّ إرادة سلطة المعايير هو اغتصاب لوعي المجتمع، وهو ما ينتج (الأزمة الثقافية) أي ناتج تبني فرد أو مجموعة من الأفراد معايير تتناقض مع نسق سلطة المعايير، وهنا يبرز لدينا نظامان متضادان من المعايير في الثقافة الواحدة، وهذا بدوره يهدد وحدة المجتمع ويدفعها للانهيار، وقد وصفت مجلة News
week، المجتمع الأمريكي الذي يتميّز
بتعدد سلطة المعايير بأنه (مجتمع فقد وحدته وهو مجتمع لا يستطيع أن يتفق على معايير سلوكية واحدة في مجال اللغة والأخلاق أو على ما ينبغي أن يسمع ويرى، فهناك نظم متصادمة من القيّم) وحماية المجتمع لدينا من درجة التصادم بين معايير التغيير ومعايير السلطة، وتمهيد استعداد المجتمع لدرس صعب الفهم والاستجابة ومجهول النهاية مثل درس التغيير، هو دور المثقف، أقول المثقف، وليست الثقافة، لأن الثقافة في الأصل هي وجه آخر لسلطة المعايير، لذا يتحمل المثقف أولاً تغيير بنية الخطاب الثقافي السائد، عبر مشروعه الثقافي التوعوي التنموي الذي يقدمه من خلال القول الثقافي والأدبي، لذا على المشروع الثقافي الذي يتبناه المثقف أن يؤمن أولاً بدوره في تفعيل (المقاومة والتحريض والتغيير)، وكلما تقوقع القول الثقافي في دائرة الفردية فقد صيغة المشروع ليتحول إلى مجرد نشاط ثقافي، قد يحرك الإشارة، لكنه لا يعيد صياغة مكانها، وهذا طابع القول الثقافي لدينا إجمالاً مجرد مجموع من الأنشطة الثقافية، تفتقد أهم شرط من شروط الخطاب وهو توحيد أفكار (المشروع الثقافي)، ولعل مسوّغ ذلك لدينا كما أظن غياب (المنظمات الثقافية المستقلة) عن سلطة المعايير وأنانية المثقف ذاته.
يهدف التغيير دائماً عناصر بنية الخطاب الثقافي للمجتمع، لا أشكاله، فالتعليم والتربية عنصر من عناصر بنية الخطاب الثقافي، وكذلك الاقتصاد والسياسة والدين، والمشروع الثقافي الذي يتبناه المثقف على الاعتبار يجب أن يسعى لتغيير بنية الخطاب وفق عناصره السابقة، لأنها مركز الإصلاح، فمشروع ثقافي بلا هدف إصلاحي لا ينتج فعلاً تغييرياً، مشروع ثقافي لا يتبنى قضية الحرية والديمقراطية لا ينتج فعلاً تغييرياً، مشروع ثقافي لا يهدف إلى إقناع العقل الجمعي على إعادة بناء (سلطة المعايير)، وليس الثورة عليها، فقد فشلت كل الأنشطة الثقافية لدينا التي تحدت سلطة المعايير بداية بالعواد ووصولاً إلى الغذامي ، لا ينتج فعلاً تغييرياً، مشروع ثقافي لا يتبنى فكرة المثاقفة لا ينتج فعلا تغييريا، فالعولمة اليوم فرضت على الجميع الثقافة الواحدة، وهو فرض أجبر المجتمعات على المثاقفة، وإن كان نظام المثاقفة ليس بجديد في تاريخ المسلمين، بل هو من الأنظمة الإنسانية التي ذكرت في دستورنا العظيم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات وهكذا فإن الإسلام يؤسس قاعدة الامتزاج والاحتكاك المباشر بين الجماعات الإنسانية مختلفة الثقافات، لأن هذا الامتزاج والاحتكاك وتبادل التجارب الإنسانية في الثقافات المختلفة يثري الثقافة الخاصة والثقافة الإنسانية، كما يؤدي إلى تغيير وتطوير في الأنماط الثقافية الأولية للجماعة أو الجماعات، وهذا المعنى هو ما يعرّف به اليوم مصطلح (المثاقفة)، كما أسهم نظام المثقافة في تطور الحياة الاجتماعية والأدبية والثقافية في العصر العباسي عبر تداخل الثقافة الإسلامية بالثقافات الأجنبية المترجمة كاليونانية والفارسية والهندية، وأنتجت أنظمة متعددة من التأثر والتأثير بصورة متوازنة بين الأطراف، ومما أسهم في ذلك أن السلطة الدينية والسياسية والثقافية في العصر العباسي، لم تكن متزمتة نحو الثقافة الأجنبية بل مرحبة بها، ودافعة لها نحو التقدم عبر تبني الخلافة الإسلامية لمشروع ( الترجمة)، والحديث عن دور المثاقفة في تطور الحضارة الإسلامية حديث طويل، لا يسمح المقام للتفصيل فيه على العموم أقول، أن تبني نظام المثاقفة، أي الاحتكاك بأنماط الثقافات الأخرى والاستفادة منها في تطوير ذات المجتمع، من قبل المثقف عبر مشروعه الثقافي، هو أمر ضروري، لا يقتصر على التبشير بهذا النظام وأهميته في تطور ذات المجتمع وفاعليته في الوعي العالمي فقط ، بل أيضا توضيح مخاطر نظام المثاقفة إذا تعاملنا معه بغير وعي، سواء بالرفض التام له، أو الاستجابة المطلقة له، فالرفض التام يعني الانزياح الجبري للثقافة الخاصة للنسيان، لن لم يعد بقدرة أي ثقافة محلية رفض نظام المثاقفة، والاستجابة المطلقة، تعني التذويب مع الثقافات الأخرى والتبعية لها وضياع الهوية، وناتج الرفض والاستجابة يظل واحداً (فناء الثقافة الخاصة)، لذلك فالمثاقفة أو ثقافة التغيير تحتاج إلى ثقافة الوعي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved