الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 27th September,2004 العدد : 78

الأثنين 13 ,شعبان 1425

هواجس (2)
نورة الغامدي
(طار طائري الصغير وانتفض)
طار نبراس، اختفى رحالاً ومقيماً في الأغصان، ما كان يحتاج إلى توضيح ليقرر الرحيل منذ أن نزل في القفص الفضفاض المفتوح الجوانب ليسمع قصائد الليل وأغنيات الصباح تحت غيوم دامعة.
تركنا وذهب...!
إلى أين؟
في الجنوب ذاته لا يزال يركض في الهواء
قريب وبعيد.
اختفى نبراس ذلك الشيء الذي بلون وطعم ورائحة الماء.
طار من دنيانا، إلى أين؟
قالوا إنه يحط فوق شجرة سرو في جبال عسير يتذوق طعم الأعشاب ويشرب من هواء الذاكرة التي رحلت
طار قلبي خلفه
وتلفت حولي أبحث عن معين ولا أحد
لا أحد
أصمت نبراس عن غناء لا يشبه الغناء ولغة سرية من ذلك الفم اللطيف الذي لا ينطق وإنما يعلمك الانتظار الذي هو حياة أخرى...
فارقنا.. نبراس...
ومن منا لم يفقد عزيزاً عليه ومن منا لم يطعنه الفقد حتى يغوص في المياه المعتمة كتمثال منسي..
من منا لم تحرقه دمعة ليل بفراق أنيس انسل من بين يديه بدون سابق وعد ليبقيه في الركن القصي مثل حيوان مضروب لا يحسن السير ولا الكلام ولا حتى الشكوى وإنما تمطر عليه زخات العذاب تباعاً.
لا أحد يعلم لماذا صمت نبراس حتى فاجأني تساؤل من صديقتي قائلة: (ترى هل أنا عزيزة على أحد؟ ترى هل افتقدني عزيز؟) تشعب قلبي ما بين تساؤلها وغياب نبراس كلاهما أعطيا للفقد معنى آخر ليس بمعناه الذي ألفناه بقدر ما هو فقد عزيز
وعزيز عن عزيز يفرق.
فنبراس صوت خفي تذرع بالحق والفضيلة فنفى نفسه بإرادته تاركاً إياها تبحث في الواقع الراهن.. عن الراهن ذاته بعيداً عن فضاء النور وبهجة الزهور التي تجف بقفصه الفضفاض.
طار.. واكتفى بلغة الإشارة التي تأتي بها الريح سلطة لا يملكها غيره.. يملكها وهو نافر ما بين السماء والأرض سلطة لا يشاركه فيها أحد.
وفقد العزيز قد لا يكون بالغياب الأبدي أو الرحيل عن وجودنا إذ قد يكون الانسحاب أو الانعزال مما قد تعودته النفس وارتضته ثم فجأة نحاول قلب النوايا رغبة منا في ألا ننهار أو نتهدم فيصبح الفقد كأنما هو بحث عن حرية قد لا تأتي إلا بألف جرح.. وجرح..
وبكاؤنا على فقد العزيز ليس ترميزاً تقليدياً, بل إنه بكاء الغريب الذي حتماً لا بد يوماً أن يعود بعد غياب ولكن ترى هل سيجد الأشياء كما هي والقلوب التي احبته عامرة بقصائد الريح التي صدحت بها ليالي القمر.. لا أحد يدري.. ترك رفيق دربه مسجوناً في قفص مفتوح من جهاته الأربع.. لكنه سجين حيرته وسجين الذكرى.
لا يريد بديلاً عنها سوى ظلمة الغابات لعل في وحوشها وطيورها الرفيق البديل.. أين ذهب الزمان بنبراس.. من خنقه.. من طيره.. من دله على الطريق البعيد؟ من عصر قلبه حتى سكت عن الغناء؟
نبراس يا وطني الفسيح الذي علمني أن أرسم علم بلادي على أجنحة الأرض ليصبح سماء ثانية..
وعلمني أن أسقي نخيل بلادي من كأسي مشاركة.. قطرة.. قطرة.. لتتحول الصحراء إلى واحات.. وعلمني أن النوارس.. سنابل وسفن مشرعة لتاريخ يتجدد وقصائد مطروحة على رف الانتظار في قفص..
نبراس هجر القفص تاركاً رفيقه الصغير الملون يحوم حول نفسه.. كانا روحاً واحدة من أصل واحد.. كل منهما يتابع الآخر.. يتحسسه وينصت إلى غنائه.. في تبادلية تعطي فضاء للتأمل وتنفض عنهما تعب وعناء الأيام.. ماذا ينويان.. فيم يفكران ومن الذي يسبق إحساسه إحساس الآخر.. لا أحد يعلم لكن هناك توازن في الحركة في عملية الطيران.. في طريقة لقط حبات السكر.. تطابق في كل شيء إلا في اللغة الذي يتغلب فيها رفيق نبراس عليه مما يدفعه إلى التنقيب والارتياب والقلق.. فيعمد نبراس إلى السباحة حتى تثقل جناحاه فيعزف عن الطيران رأفة برفيقه.. فقد كانت أجنحته مشرعة استعداداً للتحليق.. نوايا الرحيل واضحة في حركة جناحيه وطريقة شربه للماء وتعلقه بالجانب الآخر من القفص ومراوغته عندما يقف محدقاً في لغة رفيقه العجائبية التي تشبه ألوانه الزاهية التي تنسجم مع صباحاته حين يغني على الطرف الآخر من القفص ويحرك جناحيه مع كل نسمة شاردة متشوقاً لشيء مجهول..
طار نبراس وبقي (ناري) صامتاً متروكاً بين يدي صديقتي التي لا تزال تتساءل (ترى
هل أنا عزيزة على أحد وهل يفتقدني عزيز)؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved