الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 27th September,2004 العدد : 78

الأثنين 13 ,شعبان 1425

الغذامي حين يسقط النخبة ... ويبرز الشعبي «12»
المعركة البشرية الآن هي معركة الصورة.. والثقافة العربية الإسلامية لن تذوب
حوار: عبد الله السمطي

وجهة أخرى جديدة ينطلق إليها الناقد الدكتور عبد الله الغذامي في مشروعه النقدي الثقافي؛ حيث يناقش ثقافة الصورة باعتبارها معركة البشرية اليوم، في أحدث كتاباته: (الثقافة التلفزيونية)، التي أفضت إلى (سقوط النخبة وبروز الشعبي). هذه الوجهة التي تُعبِّر فيما تُعبِّر عن رؤية متابعة وحركية للواقع المعرفي المرحلي الذي تحياه ثقافتنا وتعيشه الثقافة العالمية المتجسدة على الأخص في ثقافة الصورة. كان لا بد من التأمل في أنساقها، والتساؤل حول كُنْهها لدى ناقد متجدِّد يُعمِّق آليات النقد الثقافي في طُروحات متميزة، فيرى أن (الثقافة التي تنتج صوراً جديدة هي التي سيكون بمقدورها تحقيق موقع آمنٍ لها)، وأن مقولة: (الغزو الثقافي) مقولة واهمة، وأن (الصورة هي لغة العصر وعلامة تكنولوجية).
وفي هذا الحوار يؤكِّد الغذامي على هذه الرؤى، ويشير إلى أننا انتقلنا من ثقافة النجوم إلى (ثقافة النجومية)، وأن الفارق ثقافي وخطير بين نجومية هيكل ومايكل جاكسون، وأن عُقدتنا مع الغرب وأمريكا سياسية.. وهذا نص الحوار:
* تحوُّلات ثلاثة مرَّ بها المشروع الثقافي لديك؛ بين الأدب والنظرية والنقد الثقافي.. هل هذه التحولات بمثابة توسيع من دائرة الفكر المثقَّف، أم مواكبة معرفية وانتقال من الخاص (الشعري) مثلاً إلى العام (الثقافي والمعرفي)؟
هي الاثنان معاً، كلاهما حاضران، وكلاهما في الذهن والتصور، وكلاهما مشروعان أيضاً. لكن الرابط الجذري بينها هو النظرية النقدية، فهي بما أنها مقولة نظرية من جهة، ومنهجية من جهة أخرى، هذا النوع من النظريات قابل حينئذ للتطبيق، بما أنه منهج ونظرية قابل لأن يُطبَّق على موضوعات عدة. والذي يختلف في الغالب هو موضوعات البحث وليس المنهج النظري من حيث المبدأ، وإن كانت الأدوات المنهجية يمسُّها تغيير بسبب شروط الموضوع المستجدة التي لا تستجيب للأداة بوضعها السالف، وتحتاج إلى: إما توسيع، أو تضييق، أو تحويل، وهذا ما جرى في النقلة الأساسية بين النقد الأدبي والنقد الثقافي مع اعتمادهما معاً على الأساس النظري المنهجي الجذري الواحد.
* في أحدث كتاباتك (الثقافة التلفزيونية) آثرْتَ وضع عنوان جانبي لافت: (سقوط النخبة وبروز الشعبي).. كيف يمكن القول بذلك مع أن تحلُّق المشاهدين يتم بالأساس حول نخب النجوم في الفن أو السياسة أو في الدين، كما أن الفضائيات تملكها نخب اقتصادية هي التي تُخطِّط وتفكِّر وتبثُّ؟
امتلاك الفضائيات شيء آخر، لكن تحلُّق الجماهير حول النجوم هذا أمر فيه نظر، ففي الواقع الجماهير لا تتحلق حول نجوم، إنهم يتحلقون حول (نجومية)، وهذا فارق بين النجم والنجومية. في السابق، أم كلثوم مثلاً، أو بعض القيادات السياسية والاجتماعية يصير نجماً، ويظل نجماً كفرد على مدة زمنية طويلة جداً. الذي يحدث الآن ليس النجم، ولكن (النجومية) التي تُملأ بأشخاص ما يلبثون أن ينحسروا ويحلَّ محلهم أشخاص آخرون. لكن تظل النجومية باقية. فنحن انتقلنا من ثقافة النجوم إلى ثقافة النجومية، وهذه مسألة مختلفة جداً، وحاولتُ أن أُشير إلى ذلك في الكتاب، ولعل المسألة واضحة لكي لا يحصل لبس بين النجم والنجومية. النجومية صارت مواصفات جاهزة، ومَنْ
طابق هذه المواصفات جرى تنجيمُهُ، ومَنْ نقصت عنده جرى إبعاده. حتى إن بعض المطربات أُجريتْ لها بعض العمليات الجراحية التجميلية لكي تنطبق عليها شروط هذه النجومية المطلوبة للتسويق. فهنا الآن ليست نجمة بقدر ما هي أداة طُوِّعتْ وصُقلتْ لكي تستجيب لشروط نجومية تسويقية من نوعٍ ما، وهذا يجري الآن، يجري على المُذيع الرجل، وعلى المذيعة، والفنان، حتى على المفكِّر والسياسي أيضاً؛ حيث تُعاد صياغته عبر الشكل وعبر منظومة الأفكار لكي يناسب نموذجاً سياسياً معيناً لا بد من طرحه، بينما في السابق كان المفكِّر السياسي رمزاً، يطرح مبادئ ويدعو الناس إلى أن يأتوا إليها، الآن صار العكس، ينظر ماذا يريد الناس فيحاول أن يجسِّد مُراد الناس في تصرُّفاته، فنحن الآن أمام النجومية ولسنا أمام النجم.
* ألا يمكن أن يفرض النجم صورته أو معاييره على الإطار الثقافي التلفزيوني؛ مثل مايكل جاكسون في الغناء، أو الأستاذ محمد حسنين هيكل في السياسة والتاريخ؟
هيكل ينتمي للثقافة القديمة، وليس هو نموذج الثقافة الحالية الآن، ولا يزال هو من بقايا الثقافة التي صارت قديمة الآن، وللأسف الشديد أنها صارت قديمة طبعاً؛ لأنني أعتقد أننا خسرنا كثيراً بفقدان الرموز القيادية، لكنني أتكلَّم الآن عن واقع حال، وليس عن أشياء قديمة.
ولذلك مثال مايكل جاكسون يختلف عن هيكل، من حيث إن مايكل جاكسون غيَّر نفسه وشكله وصوته وجسده لكي يتطابق مع مواصفات مطلوبة في السوق. هيكل لم يُغيِّر، لم يُغيِّر شكله ولم يُغيِّر أفكاره، حتى إن الأفكار التي يقول بها هيكل الآن لم يَعُدْ يقول بها الناس، لكنه ظلَّ يقول بها، ظل منتمياً لمجموعة أفكار تنتمي للستنينيات، فلم يتغيَّر. لكن مايكل جاكسون لكي يبقى في السوق ومبيعات السوق غيَّر حتى تكوينه الجسدي والصوتي، وبالتالي ليس هناك شيء من الفرد يفرض شروطه، وإنما هو السوق يفرض الشروط على الفرد. السوق الآن يفرض على مايكل جاكسون أن يظهر بهذه الصيغة، لو ظل مايكل جاكسون بوضعه الطبيعي لما
صار بالنجومية التي صار عليها الآن، هو يبحث عن هذا الشرط للنجومية، فحاول أن يُطبِّقه على ذاته مع التضحية الكبرى بصحَّته ووضعه النفسي والاجتماعي والمادي.. إلخ، مما يعني أننا أمام حالة خطرة جداً لمفهوم النجومية، تغيُّر جذري لمفهوم النجومية، وهذا يقتضي أن نقف عليه لكي نعرف متغيراته المفاهيمية التي تجري الآن.
* نحن في عصر الصورة، لكن سُطوع الصورة ارتبط بالتقدُّم التكنولوجي الفضائي.. هل تذوب الثقافات التي لا تملك هذا التقدُّم، ومنها ثقافتنا العربية والإسلامية؟
لا، لن تذوب، لكن سيتهدَّد موقعها كثقافات قيادية ذات قيمة لها دور بشري، لكن الذوبان مستحيل؛ لأن ما أقوله في الكتاب وأُكرِّره الآن أنه بمقدار ما أن الهويات الجذرية تشعر بالتهديد تتقوى أكثر للمناقضة وللرفض، فبالتالي نلاحظ ظهور (الأصوليات) في العالم كله؛ لأن العولمة تُهدِّد الجذر الاختلافي, وبالتالي المُختِلف صار يُدافع عن ذاته بأن أعلن عن نفسه بطريقة أكثر وضوحاً، وبالانتماء إلى ذاته بطريقة أقوى. الثقافات لن تذوب بالتأكيد، لكنها ستفقد مواقعها القيادية ما لم تملك الصور؛ لأن المعركة البشرية الآن هي معركة الصورة، فالذي ينتج الصورة ويقدِّم صورة قابلة للانتشار الإنساني والعالمي هو الذي سيكون له موقعٌ في الذاكرة البشرية الآن. أما الذي لا يملك هذه الصورة فسوف يبتعد كثيراً عن الصفوف الملحوظة، لكنه لن يذوب، الهويات الأصلية لن تذوب أبداً، بل إنها تزداد قوَّة.
* يوجد لديَّ سؤال أو نقطة غريبة تتجلى في منطقتنا العربية، وهي بالرغم من قُربنا الشديد من أوروبا، وهي أحد المراكز القوية في صناعة الصورة وصناعة النسق الثقافي المهيمن على العالم، لكننا نلحظ تراجعاً لدينا بالقياس إلى شعوب في الشرق الأدنى؛ كشعوب جنوب شرق آسيا مثلاً اليابان وكوريا وماليزيا وتايلند وغيرها.. هل هو خوف من الآخر، أم خوف مما
أشرْتَ إليه في كتابك الأخير من مقولة (الغزو الفكري)؟
لا، ليست هي مسألة خوف، بل السبب أن الفروق السياسية بيننا وبين الغرب جذرية جداً, سؤال (فلسطين) وسؤال (الاستعمار). من الممكن أن نتَّفق نحن مع إفريقيا وآسيا في مسألة الاستعمار، لكن خلصنا نحن مع آسيا وإفريقيا من الاستعمار فزالت العُقدة مع الغرب التي كان سببها الاستعمار، لكن بَقيتْ عُقدة إسرائيل. ما دامت عقدة إسرائيل موجودة فالعلاقة بيننا وبين الغرب الآن هي علاقة اختلاف، وليست علاقة اتفاق، وهنا تتجذَّر الفروق. وللأسف الشديد فإن السياسة الغربية، وخاصة أمريكا، الآن تُساعد على تعميق هذه الفروق. كلما نرى انحيازات أمريكا لإسرائيل ونشاهد مواقف أمريكا السلبية من العالم العربي والإسلامي يزداد هذا الحس المناهض لهذه السياسات. فالقرب الجغرافي من أوروبا لم يحل الإشكال؛ لأنه على النقيض كشف الفروق ولم يُزلها، وظلَّت هذه الفروق في ازدياد بسبب المواقف السياسية. لكن ثقافياً تلاحظ أنه لا توجد عُقدة ثقافية بين العرب والمسلمين من جهة والغرب من جهة أخرى. مسائل اللغة، والتكنولوجيا، ووسائل الاتصال، ومسائل السياحة، ومسائل الابتعاث كلها تسير بشكل طبيعي جداً. لكن هذا هو الجانب الذي نُسمِّيه (المحبوب) في الغرب وأمريكا، لكن عندما تنتقل إلى الجانب الآخر، وهو الفروق الجذرية، وأولها الفارق السياسي الذي يمسُّ المصالح القومية للأمة، حينئذ تأتي أمريكا (المكروهة)، ويأتي هذا النقض.
* ترفض مقولة الغزو الثقافي في عصر الصورة.. ألا ترى أن الصورة الموجَّهة من الغرب، أو بالأحرى من أمريكا، تجاه العالم تدعو إلى القلق الشديد على مستقبل الهويات العربية والإسلامية خاصة بعد 11 سبتمبر؟
هنا اختلاط الثقافي بالسياسي، هنا اختلاط (المحبوب بالمكروه). مثلاً: أنا وأنتَ قد نشاهد فيلماً أمريكياً ونستمتع به، لكن نكره أُطروحته، وبالتالي أنتَ جمعتَ بين الحبِّ والكره في عملية المشاهدة نفسها، فأمريكا وغير أمريكا أيضاً، فلو قلنا فقط أمريكا اليوم كأن أمريكا (بِدْعٌ) في التاريخ. كل الشعوب التي هَيمنتْ يحدث منها هذا، وفي تاريخ الأمم كلها، لو ذهبنا إلى روما في زمنها
الأول، ولدى الإغريق، وفي جمهورية أفلاطون التي يُفرِّق فيها بين سادة وعبيد، ويُصبح النساء والشعراء والفنانون عبيداً، والشعوب الأخرى أكثر عبودية. هي صورة موجودة باستمرار، لكن لو حصرناها في أمريكا الآن، وفكرة (المحبوب المكوره)، فلا شك أنه لا يوجد أحد في العالم العربي والإسلامي إلا ويحبُّ الثقافة الأمريكية والعلم الغربي؛ لأن هذا شيء إنساني، وإن كنا سميناه: ثقافة غربية، وعلماً غربياً، وحضارة غربية، وهي تسميات في العمق ليست صحيحة؛ لأنها هي ثقافة إنسانية، نحن نحب الجانب الثقافي في أمريكا، والجانب الإنساني في أمريكا، نحب روح المغامرة والاكتشاف والقوة الإنسانية كقوة وغزو الفضاء.. إلخ؛ حيث توجد أشياء عظيمة جداً. ولا يوجد أحد في العالم الإسلامي إلا ويحبُّها ويقدِّرها. لكن تنتقل إلى الجانب الآخر، ومن ضمنه الصور النمطية التي تتحدث عنها، فنجد أنها تنتمي إلى الجانب المكروه، حتى إنك تجد أن العرب المهاجرين في أمريكا نفسها, وخذ مثلاً بارزاً كإدوارد سعيد، في الوقت الذي هو أمريكي وناتج الثقافة الأمريكية ومنتج لها، هو أيضاً ناقد لها وكاره لسياساتها، فتأتي صورة: المحبوب/ المكروه، لا على أنها ثنائية، بل على أنها قيمة واحدة مزدوجة لا تنفصل؛ لأنها لو كانت ثنائية لأمكن فصلها، لكنها للأسف الشديد ليست ثنائية, لو قلنا إنها ثنائية لأمكن فصلها؛ لأن الثنائي يُفصل، لكنها ليست ثنائية، هي أشبه ما تكون بوجهين لعملة واحدة، لكن لا تستطيع الفصل، هما وجهان متلازمان؛ أحدهما حتميٌّ للآخر لا يستطيع الفكاك منه؛ أي لو حاولنا أن نجعل أمريكا إنسانية وعادلة ومنصفة فهذا أمر مستحيل، وهذا نموذج مثالي لن يتحقَّق على وجه الأرض.
حتى نحن لو سيطرنا على العالم ستجد أن الأمريكيين سيتكلمون عنا بكلام يُشبه كلامنا نحن الآن عن الأمريكيين، وهذا طَبْعٌ بشري: القوي دائماً لا يرى غيره، بل يرى ذاته فقط، وهذا باستمرار إلا المعصومين؛ الأنبياء الذين يستقبلون الوحي من الله. لكن إذا لم يكن معصوماً بعصمة إلهية فهو
بشر، والبشر لا بد أن يكون هكذا. خذ هارون الرشيد، خذ أي حاكم عظيم أو مفكِّر في الحضارات السابقة، حتى الجغرافيون العرب كانوا يتكلمون عن شمال أوروبا ويقولون: إنها (منطقة لا تستحقُّ الذِّكر؛ لأنه لا يسكنها إلا حيوانات أو ما يُشبه الحيوانات، قومٌ لا حضارة عندهم)؛ أي شبَّهوهم بالحيوانات؛ لأن المُتكلِّم كان قوياً، والطرف الآخر ضعيف ليس له اعتبار. بالضبط هي نفس الجملة التي يمكن أن يقولها بعض القيادات الدينية والسياسية في أمريكا عن ثقافتنا.
الثقافة البشرية للأسف الشديد تُعيد إنتاج ذاتها بانحيازاتها المستمرة. وفي قراءتنا لأمريكا يجب أن تأخذ هذا البُعْد: بُعْد المحبوب/ المكروه، وهو واقع حتى في الإحصاءات، حتى في طريقة الاستنتاج ستكتشفها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved