الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th October,2003 العدد : 34

الأثنين 1 ,رمضان 1424

وعشت في حياتهم
عبد العزيز الخويطر
عبدالله الماجد

حينما بدأت أخطط لكتابة هذه التداعيات الذاتية، عن رموز واعلام في حياتنا الفنية، عشت في حياتهم، كان يدور في ذهني، أن أركز في الكتابة على اولئك الذين عشت في حياتهم عن قرب، ولامست نوازع هواجسهم وناقشتهم وناقشوني، وتعلمت منهم في حياتي الثقافية، بالقدر الذي تلاحقت فيه ثقافتي بثقافاتهم ومعظم هؤلاء تجمعني بهم زمالة المهنة والهم العام. وقد تبين لي ان هناك رموزا تلامست اشجان حياتي بهم عن قرب على نحو ما، وهم ليسو زملاء مهنة، لكنهم رموز مهمة من اعلام الحياة الثقافية في بلادنا. تعلمت منهم علوما على بعد التامس، وقربه الخاطف، الذي جمعني بهم في مناسبات. فأخذت من سيرتهم ما يجعلني بشكل ما عشت في حياتهم ويبرز اسم الدكتور «عبد العزيز الخويطر» كنموذج لهذه الحالة.
كنت أعرف في باكر حياتي، ان «عبد العزيز الخويطر» من اوائل الذين حصلوا على الدرجة العلمية «الدكتوراة» في بلادنا، ولذلك كان طريقه الطبيعي يتجه نحو الجامعة الاولى في بلادنا «جامعة الملك سعود» الذي كان اول مدير لها الراحل «الدكتور عبد الرحمن عزام» عند انشائها عام 1377هـ وكان الدكتور الخويطر اول امين عام للجامعة عام 1380هـ ثم اول وكيل لها عام 1381هـ وقد راق في ذهني ان ارصد اوليات هذا «الاول»، فمن أولياته تلك انه كان اول الذين حصلوا على درجة الدكتوراة في التاريخ من جامعة لندن عام 1380هـ من ابناء هذا الوطن، هو كان أول من سجل رسالة للدكتوارة عن «الظاهر بيبرس»، الذي وقف في وجه الزحف التتاري، مع «المظفر قطز» للقضاء على اهم الممالك الاسلامية «مصر» التي كانت تشكل آخر خطوط الدفاع عن هذه الممالك، وكان سقوطها بمثابة سقوط البلدان الاسلامية امام همجية التتار. وكان اول من ألف كتاباً عن مؤرخ نجد الاشهر «عثمان بن بشر» ومنهجه في كتابة تاريخه، كما خص «بن منقور» احد مؤرخي نجد بنشر كتابه في التاريخ عام 1390هـ وكان هذا التحقيق هو الاول في مجاله. وقد امضى واحداً وعشرين عاما في منصبه كوزير للمعارف، على نحو يكاد هو الأول في ذلك.
وعلى نحو من هذا النسق الاولي، أخذ سير حياته يتجه إلى التفرد والتميز في حياته الخاصة، وفي حياته العملية، التي كانت تتسم بأوليات حاسمة وحازمة في الاداء، وحينما اصبح وزيرا لوزارتي الصحة، والمعارف وهو الوزير كان اول من يحضر إلى عمله من الموظفين. وحدث ذات يوم ان زرته في مكتبه بوزارة المعارف، قبل ان ينتصف نهار العمل، دخلت إلى المكتب، وكان اول ما لفت انتباهي انه مكتب متواضع، لم يكن فيه ما يبهر. كان يجلس خلف مكتب في ركن من اركان الفضاء المساحي، المكتب لا يشغل حيزا من هذا الركن ربما كان عرض المكتب متر ونصف. الملاحظة الاهم ان المكتب كان يخلو من أي معاملات، فلا تعلوه ملفات أو حتى اوراق سألته أين المعاملات؟ قال لقد انجزت عمل الوزارة مبكراً.
كانت هذه المرة الأولى، التي اجلس اليه عن قرب، واستمع اليه كان لحديثه الهامس، وقع الصدى في نفسي، لا يزال عالقا حتى الآن. تذكرت ان في الصوت الهامس، قوة التأثير وحجية القول. ولمعت في ذهني نظرية شيخ النقاد «محمد مندور» حول «الشعر المهموس» وان فيه جماع الصدق والتأثير، اكثر من ذلك الشعر الخطابي، عالي الصوت وان النجوى في الحديث احدى علائم الصدق والتأثير.
وكنت اعلم ان هناك كثيرين من أصحاب المصالح الخاصة، ممن لا يعجبهم انحياز الدكتور الخويطر للحق والصالح العام، ويرون فيه مسؤولا متشددا، يصعب انحيازه الا للحق. وقد جئت لمقابلته لانهاء معاملة محجوزة، اثناء اقامة معرض للكتاب في دار الكتب الوطنية، وكان قد تم أثناء المعرض اختيار مجموعة من الكتب العربية والانجليزية للمكتبات العامة التابعة للوزارة، وظلت هذه الكتب محجوزة انتظارا لانهاء اجراءاتها المالية، في انتظار موافقة الوزير، الذي كان منطقه قوياً واضحاً، اذ قال انه لم يكن هناك اعتماد مالي لهذه الكتب في الميزانية، وانه لا يجوز صرف أي مبالغ لم يكن لها اعتماد في البند المخصص لذلك. وهو خطأ اشتركنا فيه مع اللجنة التي اختارت الكتب، على امل تخصيص بند لذلك، وقد مر على هذه «المعاملة» ميزانيتان مما عقد اجراءاتها المالية، حيث تقضي التعليمات بعدم الاعتماد المالي على اجراءات مالية في ميزانية سابقة. وبالرغم من الضرر الذي لحق بنا في «دار المريخ» حيث لم يعد ممكنا ارجاع الكتب لناشريها الأصليين، وهو مبلغ يتجاوز اربعمائة الف ريال. فقد تجرعت الخسارة امام منطق الوزير الذي كان يحافظ على المال العام، وتلمع يداه بالطهارة، ولمعت في ذهني حكاية «قلم الرصاص» التي سيأتي الحديث عنها في سياق هذه التداعيات.
وقد كنت اعجب كيف استطاع ان ينظم وقته، وهذه مسألة مهمة، لمسؤول مثله مثقل بالاعباء والمهام. فالى جانب قيامه بأعماله الرسمية، نجده يوزع بقية الوقت للشأن العائلي، وللقراءة وللرياضة، والكتابة.. ومقابلة محبيه في صالونه الذي منحه وقتا ما بين المغرب والعشاء مرة في الاسبوع.
في هذا النسق من الاهتمام بتوزيع الوقت، ملمح اساسي من تكوين هذه الشخصية، فهي شخصية واضحة المعالم، لا تعمد إلى اهدار «الامكانات» ليس هناك ازدواجية القول والفعل في هذه الشخصية.
حينما انتقلت إلى العمل في «جامعة الرياض» جامعة الملك سعود وفي نفس المكتب الذي كان يترأس مكتب وكيل الجامعة «لم يكن للجامعة في ذلك الوقت منصب مدير وكان وكيل الجامعة هو المنصب الاعلى في الجامعة حينذاك» حدثني الاستاذ «ابراهيم القاضي» مدير مكتب وكيل الجامعة، عن واقعة تستحق ان تذكر في هذا المجال. قال: في أحد الايام وبعد انتهاء الدوام، كان الدكتور عبد العزيز، آخر من يغادر مكتبه في الجامعة، وكنت لا زالت في المكتب بعد مغادرته، ولكني فوجئت به يعود إلى المكتب، فسألته عما اذا كان يريد امرا ما أقضيه، فقال لي: لا لكنني أخذت معي قلم الرصاص هذا من المكتب، لان ابنتي طلبت قلما ولما كان الوقت لا يسمح بشراء قلم من السوق، فقد اخذته على عجل لتقضي به حاجتها ثم اعيده غدا لكنني فكرت مليا انني ربما لا اتمكن من اعادته لاي سبب من الاسباب، فقررت ان اعيده للمكتب، وفي العصر نشتري لها قلما.. وكنت استمع إلى هذه الحادثة مندهشا لحالة غير مسبوقة في هذا الزمن يندر حدوثها، فقلم الرصاص، كالورق والدبابيس من العهد المستهلكة، ليس عهدة «معمرة» يجب اعادتها، وكنت في مناسبات ينتعش النقاش فيها مع اصدقاء عن اساليب الاداء في الادارة، ينهض عبرها اسم الدكتور الخويطر بارزا شامخا للأداء الملتزم، فأعيد ذكر هذه الحادثة كنموذج بسيط عارض، كبير في معاناة، ويصدق في هذا المجال ما قاله احد هؤلاء الاصدقاء الدكتور عبد العزيز السنبل نائب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة، الذي قال بعد ان سمع مني هذه الواقعة: الدكتور عبد العزيز الخويطر حالة استثنائية في حياتنا العملية والاجتماعية، تتسم بعدم الازدواجية في العمل، يفضل دائماً بين الخاص والعام، لا يتردد في الوقوف إلى جانب الحق، واعلاء شأن من يستحق هذا الحق، له مواقف مشهودة في ذلك.
في الشأن الخاص المعلن، وضع الدكتور الخويطر، مجموعة مهمة من المؤلفات، جميعها مهما اختلفت موضوعاتها تشف عن مكونات ونوازع هذه الشخصية التي تعبر عن معان بارزة، هي امثولة لطريقة حياة، تشف عن القدوة المتميزة. ومن اطلع على كتابه «أي بني» وهو كتاب ضخم من خمسة اجزاء امضى في كتابته خمس سنوات، ما بين اعوام 1409 و 1414هـ، وهو كتاب من اجمل الكتب في المكتبة العربية، لمعت فكرته في ذهنه منذ عام 1388هـ حنيما كان يكتب عمودا في جريدة الجزيرة، ثم وضعها في كتابه «من حطب الليل» عام 1398هـ وقد وجه هذه الكلمات أساساً إلى ابناء هذا الجيل الذي نشأ بعد جيله ولم يشاهد ما شاهده، ولم يعان ما عاناه جيله. هذا الجيل يقول عنه في هذا الكتاب:
«هذا الجيل الراكض اللاهث هو الذي اخاطبه، ليقف ويلتفت خلفه، ويرى ما كان عليه ابوه، بمحيطه وآلاته ومعداته ودوابه ومساكنه وعاداته، بأفراحه واحزانه، بآلامه ومتعه، بوجده وعدمه، بتفكيره وانطباعاته، ويقارن بين ما كان والده عليه وما هو نفسه عليه، ويقول لما حباه الله به الحمد لله رب العالمين».
والكتاب على هذا النحو يجمع بين صور التراث، كأساس وكمحور لرؤية تنفد إلى الجديد المعاصر، في مواءمة تهدف إلى انتزاع العبرة والدرس. أما النهج الذي اختاره لتوصيل افكاره ورؤاه فيقول عنه:
«قررت أن أسير فيما أكتبه على طريقة حديث المجالس، لاني نظرت في تأثير حديث المجالس في الناس، فوجدته بالغاً، ووجدت ان اصغاءهم كامل، وبهجتهم في الغالب طافحة، وانهم كثيرا ما يتناقلون ما يقال، ويسيرون بمقتضاه فطمعت ان يحظى ما سوف اكتبه بما تحظى به احاديث المجالس».
أما كتابه الموسوعي «اطلالة على التراث» فقد شرع في كتابته عام 1414هـ ونشره في سلسلة من المقالات في صحيفة «عكاظ» حتى استوى على ستة عشر جزءا، وفي ظني انه سوف يستمر في نشر اجزاء اخرى من هذا العمل الهام، لان بحر التراث واسع، يغري بالسباحة فيه، والدكتور الخويطر واحد من أولئك الذين يجيدون السباحة والغوص في اعماقه واستخراجه الدرر منه، وهو في هذا العمل المخصب المثمر، ينتقي قصصا ونوادر يزخر بها بحر التراث، بما ترمز اليه من معان، وبما تلمع به من عبر، يتدبرها ويتبصرها ويقارنها ويوازنها، نازعا إلى موقف مهم من كل ذلك الا وهو معرفة «الصحيح من هذا التراث من المختلق، والاصيل من الدخيل، والواقع من المتخيل» والواقع ان هذا المنحى غاية في الأهمية، ذلك ان التراث العربي الذي وصل الينا مؤلفاً على ضخامته، قد خضع لما يحتاج إلى تدقيق وتحليل، وإعمال مبدأ القياس العقلي والعلمي، في تمحيص ما ورد فيه من مبالغات هي ما يعنيه المؤلف «بالأصل والدخيل».
ان سمات شخصية الدكتور عبد العزيز الخويطر، عنوان على النزاهة وطهارة اليد، ونموذج لاعلاء عوامل الاستقامة، وعدم الميل الذي تمليه الاهواء الشخصية، وطبائع النفس المتغيرة، ولان يبقى في مواقع صنع القرار العام، فهو اهل لكل ذلك.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved