الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th October,2003 العدد : 34

الأثنين 1 ,رمضان 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
فصول العمر عبدالرحمن الكنج
سعد البواردي
«العِذاب بكسر العين أمنيات.. والعَذاب بفتحها معانات.. وفصول سنوات العمر لأي كائن حي مزيج من العِذاب والعَذاب.. ربيع تورق معه أحلام البشر.. وخريف تتناثر أوراقه كما أوراق الشجر.. نستغرقهما في حياتنا كقدر.. ليس في العمر خيار ولا اصطفاء.. وإنما قبول بواقع مرسوم في لوحة المغيب تفاجئنا. ونواجهها تارة بالفزع والجزع.. وأخرى بالانتظار والصبر..
مدخل لفصول عمر ما زالت أوراق مطوية وخفية، نستشعر أسرارها كل لحظة.. وعند كل خطوة نخطوها على دروب الأيام والأعوام.. بل والثواني والساعات.. مبهورين بجمالياتها.. مذعورين بمفاجآتها الحزينة الشاكية والباكية.. لنتصفح مع شاعرنا فصول عمره دون فضول.. ولنقرأ خطابه كتجربة حياتية لشاعر قضى فصول عمره أو كاد انتزع منها ما يصح أنه تجربة تجوز لغيره من الناس.. أو يجوز البعض منها ذلك أن الحياة في طبعها وفي طبيعتها مشتركة إلى حد ما مع اختلاف الأزمنة والفصول.. والمواقف..
شاعرنا تذكر ليلاه وأفرد لها فصلاً من فصول عمره أسماه «فصل ليلي» غنى له.. والكل يغني على ليلاه:
«تذكرت ليلى. والمفاوز بيننا
مهامه فيح.. قفرة.. ودروب
تضاهي بها جون القطا بين أهلها
وتألفها الأعراب حين تشيب
نفوذ. ودهناء.. ونجد، داردك
إلى عرض بر الشام وهو خصيب
جمل شعرية كلاسيكية تذكرنا بقصائد امرئ القيس.. والأعشى في جزالة لفظها ومفرداتها.. إلى درجة استعصاء فهم دلالات بعضها كمفردة «جول القطا بين» و«مهامه فيح».. أمان «النفوذ» فإنه يحتاج إلى تصحيح..
الصحيح أن «نفود» بالدال المهملة لا المنقوطة..
«هل الصبر إلا ليلة بعد ليلة
قلباً على قلب يكاد يذوب
أشاغله عن ذكر ليلى لعله
يطامن من غلوائه. ويؤوب»
إلى هذا الحد من العشق أعلن حالة الطوارئ. وسكب برد عقله كيدا مضللاً.. غاضباً ومعاتباً ذلك الذي حال بينها وبينه بدوافع الطمع.. وايثار غيره عليه.. ويطرح على نفسه الجريحة والمكلومة عدة تساؤلات هل أن ليلاه أسلمها السبات؟ أم أنها رهينة سهر بتلك الدموع؟ هل إنها وجدت بقدر وجده..؟ أم أنها طمرت تحت اللحاق قرونها إذا هوَّم النيام ليلا؟ بينما هي أسيرة حنين وأنين لا شفيع له؟ تساؤلات مغرقة في حيرتها يطرحها الشعراء حين تستبد بهم وحشة المكان وفراغ الزمان.. وعضة الحرمان الوجداني.. وجرح الحب الذي لا يندمل..
وفي مقطوعة ثانية ليلية وليلاوية يتذكرها.. يسترجع مع نفسه روحاتها وغدواتها التي زادته سعيراً على سعيره:
«تمليت من ليلي ثمانين غدوة
فما زاد ما في القلب إلا تسعراً
فما حيلة في الحب يصنعها الفتى
إذا ما اضاء القلب يوماً ونوَّراً»
الحيلة يا شاعرنا أن لا نبقى أسراء حب ضائع حتى النهاية.. أن لا تغلق بوابة الأمل.. أن لا نترك القلب رهينة حسرة لا تجدي.. ووجع يمكن البرء منه بالتحمل.. وتقبل الوقائع دون الوقوع في شراكها..
بعد أن بكى على حبه المطوي بسكين غيره عاد إلى نفسه يبكيها كما لو كان يعزيها.. أو يعاتبها ويجافيها:
«بكت عيني على نفسي ولكن
لماذا أصبحت يُبكى عليها؟!
سلوها؟ أو سلوا قلبي فإني
مللت المقولة والشكوى إليها»
حسناً فعلت يا شاعرنا أن خرجت من قمقم السجن الذي أودعك فيه عشقك ولم ينجدك في تجربتك الأولى.. ويبدو أن طاقة التحمل والصمود تتآكل للمرة الثانية أمام موقف وجداني آخر أرخى سدوله ورسم اخيلته:
«احقاً عباد الله أن خيالها
تكفله مولاي لي وقفاه
يراودني عن سلوتي وتصبري
وراحة نفسي صبحة ومساه
وليس عذابي للخيال دائما
يعذبني الحرمان حين أراه»
وأكثر عذاباً في الحرمان حين تطعمه وتذوق مرارته.. والأكثر الأكثر عذاباً ألا تملك المقدرة على تجاوزه واجتياز مفاوزه.. تبقى ارادة الحب هي الأقوى حين تبصر بعين العقل لا عين العاطفة والرغبة..
إن ليلاه تطارده بخيالها أينما حل.. وهو يطاردها بشعره حيثما ارتحل.. كلاهما طائر يحلقان في مملكة الحب.. ويحملقان حول بعضهما من جديد على أمل لقاء سعيد تظلله روح السماح والمحبة:
«وما هم ليلى أن تنام قريرة
إذا كنت في أعلى اليمامة ثاويا
فنامي فلا والله ما كنت راضيا
إذا ما اعتراك اليوم ما قد عرانيا»
ويبدو أن ليلاه استجابت فنامت بعد هدأة ويقظة رغم كل الذي جرى له.. أما هو فإنه صابر مكلوم الفؤاد ومقيم متفان ويود لو اطلقها صيحة يقظة من اليمامة إلى الشام تذعر الغافين!! على ماذا هذه الصيح المدوية الصارخة؟ وما علاقة الغافين في الشام بها..؟ هل تخلى الشاعر عن صبره؟ الصورة مشوشة.!
آه.. آه من جنون الحب.. ومن مجانين ليلى وهم كثرة كاثرة.. ظاهرون يبثونها وجدهم من خلال اشعارهم.. ومستترون يغرقونها بحبهم وصلا وايصالا. واتصالا.. وشاعرنا «الكنج» أو الملك مستعد أن يتخلى عن عرش حبه لليلاه التي استغرقته.. واغرقته.. إلا أنه مع هذا يبعث من جديد وبروح جديدة كما لو أن عملية استنساخ أجريت له.. ما أن تختفي صورة حتى تحتفي أخرى بميلادها..
«أرى كل من يهوى يكابد شدة
وتمضي إذا مرت عليه شهورها
فما بال قلبي ليس يصحو من الهوى؟
تساكنه ليلى حجيرات دورها.
منغمة. غيداء. خجلى. غريرة..
وفي مقلتيها جنة. وسعيرها»
لهذا الذي سردتُ. وشردت كان جواب قلبك.. وقلبك دليلك في نهارك وليلك.. إنه نبض حياتك بخفقانه تتحرك عقارب الساعة.. وبهدوئه تتأخر المواعيد.. وتضطرب مقاييس الحب وتتقاطع خطوطها...
«تعاتبني ليلى على كثرة البكا
كأني إذا أمرت عيني أميرها»
ابدا.. العتب عليها.. بها. ولها. ومن أجلها ذرفت دموع الصب.. ولو كنت مكانك لطالبتها بدفع ثمن الدموع السخية شيكا موقعا من قلبها وعقلها يتم صرفه من بنك الاعتماد الإنساني غير قابلة للصرف من غيرك.. إن هي وافقت ومنحتك رصيد المحبة.. وإلا فأدر لها ظهرك.. ورتل على مسامعها مقولة الشاعر:
سيغني الله عن زيد وعمرو
ويأتي الله بالفرج القريب
إلا أنك لم تفعل.. ولن تفعل.. لقد استهويت الهوى.. ولا أقول هوان الحب.. استهويته إلى درجة الإدمان موظفاً في ذلك كل أسلحة الشدو.. وأدوات الشجو.. وتبقى النهاية غائبة..
الحقائق تتكشف لحظة بلحظة.. أبيات ديوانه يفضح بعضها البعض ويفصح عن وجه العلاقة بين ليلى ومجنونها.. هل إنها شريكة حياته التي شاركت السراء والضراء والغربة؟ والبعاد عن أهلها.. وأصبحت بين نارين فراق الزوج أو فراق الأهل..
«لقد صبرت ليلى على نأي أهلها
لقد صبرت ما بين نحري وساعدي
تقلب في أعطاف قلب متيم
شفيق بها. اشفاق أم. ووالد»
هنا تكمن الخطورة حين يتدخل الأهل في حياة الزوجين.. أهل الزوج.. أو أهل الزوجة.. أن شبح الفراق والطلاق يخيم على الدار في انتظار القرار الذي لا بد وأن يأتي عاجلاً أو آجلاً...
«تمن. وربع الأرض بيني وبينها
تعالي.. ومني. كيف شئت ولومي
هل المن إلا أن تعدي فضائلاً
أعندك أفضال بقدر همومي؟
أأن كنت مقصياً، غريباً. مطرداً
تجيزين هجراني ونكء همومي»
يبدو أن الواقعة وقعت «وأن المحظور الذي نخشى منه على شاعرنا حدث.. ماذا سيكون رد فعل. هل سيخضع ويركع لظروف الظلم والقهر والهجران.. أم أنه سيثأر لرجولته وكرامته؟!
«أتراني أحب من لا يبالي
بعذابي.. وحسرتي وهواني؟
أتراني أحب قلباً حديداً؟
حجراً من حجارة الصوان!
أم ترى اقفرت ينابيع قلب
طالما علني هو وسقاني؟»
إنه في حيرة من أمره لم يستقر على قرار.. علامات استفهام قائمة.. واجابات ما زالت في رحم الغير لم تكتب حروفها بعد.. اخطه في الصراع أن الخسارة مشاعة.. والنهاية المأساوية مشتركة.. لا أحد منها ينجو دون وجع حتى ولو أنه تظاهر عكس ذلك.
لم يبق لشاعرنا إلا الشكوى.. والشكوى لغير الله مذلة.. هكذا وبقصيدة إيمانية لا لبس فيها ولا تسويف:
«إلى الله أشكو ظلم ليلى... وأهلها
واسأله أن لا يجيب دعائيا
اسائل ربي رحمة ومعونة
وأخشى عقاب الظالم المتوانيا»
حتى في شكواه متردد.. بهذه الشكوى الدرامية أسدل الستار على فصل من حياته الزوجية وفتح لنا صفحة أخرى من حياته الأبوية: أبوه مات.. رثاه لأبنائه وعلى خده دمعة وداع ساخنة:
«أبني.. والدكم بنيه
أودى إلى رب البرية
الموت حق نازل
فدعوا البكاء على البلية
أبني لا تغلو فقد
أورثتكم علل المنية
عما قليل يلحق الناعي
وتُخترم البقية..
والدهر دولاب يكر
على السعيدة والشقية
وصية أوصى بها ولداه لحظة حزن على فراق أب ودَّع الدنيا.. وأودعها كل أسراره وما يحمل من متاع ما أحوجنا إليها كي نتعظ.. ونعظ.. أما عن نفسه أمام خسارته في فقد أبيه فقد كان أكثر ثباتاً:
«لم أبكِ حين تركتني
لكنني غالبت دمعي
ورجعت ملتاع الفؤاد
يخونني بصري وسمعي
ينتابني حزن جميل
ارتمي فيه بطبعي»
نعم حزن جميل لا فزع فيه ولا جزع منه رغم قسوة وجعه»
أكثر من ملحق حزن تذكر فيه أباه.. إلا أن أباه تغلب على ضعفه.. وابقى قامته شامخة أمام أعاصير الأحزان.. وعود على ذي بدء.. المرأة ما زال مقعدها خالياً في قلبه.. ذهب الأولى إلى غير رجعة وبدأ البحث عن ثانية تملأ له فراغ حياته.. هل سيجدها؟!
«أعرف أنك ضائعة في مكان من الأرض قفر
ولكنه يورق الرحل عند اللقاء
ربما كنتِ في جانب البيت.. أو ربما
كان بيني وبينك رمل الجزيرة هذا المساء»
إلى أن يقول:
«إنني منذ أن كنت في الأرض أسعى
يغالبني اليأس
لكنني واثق أنك موجودة
واثق أنني سألاقيك
ليس المدى ابدي المسافة
والموت ليس انتهاء»
حلمه هذه المرة باتساع كرة الأرض طولاً وعرضاً.. إن البحث عنها سيجهده.. ترى هل سيجدها؟! يبدو أنه وجدها.. وكان معها على لقاء:
«اتيتك من مجاهل مرة جرداء
لم يسمع بها إنسان
على حذر.. تظن بي الظنون
وانت.. ساقية من السلوان
فلا تغلي قيادك
وانظري خلل السحوف
ترى سعاراً من دم»
وراح يصف لها حاله حتى لا تخاتله عن طمع.. مُغبر، اشعث، عار إلا من الأظفار والأسنان. يعشش في دمه عطش اليباب.. وحرقة الجوع القديم.. ولوعة الحرمان. تلك بعض صفاته ومواصفاته فهل أنها قَبلتْ؟!
يبدو من النهاية أن لا نهاية سعيدة تنتظره.. فما زالت عيونه العطشى المليئة بالحب موغلة في السفر..
قصة شعرية شاعرية طرح من خلالها شاعرنا عبدالرحمن الكنج تجربة حياتية مرت به.. كثيرون عاشوها أو عايشوها.. لا تهم الأسماء. ولا الأماكن.. ولا الفصول.. إنها قصة فشل يدفع فيه الأبناء الضريبة دون ذنب.. قصة زوج متسلط.. أو زوجة مفتونة بنفسها.. أو اقارب كالعقارب يلدغون في صمت أو جهر ويحولون بين الزوج وزوجته إلى درجة القطيعة والانفصام.. اشكالية كل العصور وبالذات عصرنا الذي نعيشه ونكتوي بسعار خلافاته وتداعياته على حياة الأسر.. ومستقبل الأبناء وبنية المجتمع..
وبعد ذلك الثناء.. والعزاء.. والأمل في تحقيق حلم ضائع ما زلت تبحث عنه.. اقطع دابر اليأس، وأعط لنا تجربة شعرية جديدة شعارها الوصل.. والوصول إلى مرفأ السلامة.. والسلام..


الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved