الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th November,2006 العدد : 178

الأثنين 6 ,ذو القعدة 1427

الدين والمفاهيم الحضارية عندنا وعندهم
فؤاد السعيد *
إذن لم تكن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- مجرد شطحة فنان، كما لم تكن كلمات بابا الفاتيكان محض زلة لسان!! فخلال الأيام الأخيرة استمر مسلسل الوقائع المسيئة للإسلام والمعبرة عن حال من الضيق المشوب بعدم الفهم لسلوك الجاليات المسلمة في أوربا، ثم جاءت تصريحات جاك سترو التي اعتبر فيها أن ارتداء النقاب يعوق الحوار والتفاهم الاجتماعي مع المسلمين في المجتمع الانجليزي، وتصريحات أثنار التي طالب فيها المسلمين بالاعتذار عن احتلالهم لإسبانيا في مقابل اعتذار البابا - وهم مسؤولون سياسيون لاتحركهم الشطحات ولا زلات اللسان ? جاءت هذه التصريحات التي حظيت بتأييد قطاع من الرأي العام الغربي لتؤكد أننا بصدد حالة سياسية وحضارية جادة ودائمة لامجرد أزمة عابرة سرعان ماتزول، وأن صورة الإسلام في العالم الغربي وصلت إلى درجة من السوء وعدم الفهم لايضاهيها سوى سوء صورة الولايات المتحدة في العالم الإسلامي، وهي درجة لم نكن نتوقعها، والأهم من ذلك أننا لم نرصدها أوندرك وجودها الا بعد تفاقمها، لدرجة أن أحداً من دبلوماسيينا أوسياسيينا لم يتوقع وصول حالة القلق والضيق الأوربي من انعزال الجيتو الاجتماعي والثقافي الإسلامي في بلادهم إلى هذا المستوى من الحدة.
ونزعم أن التفسير الثقافي المعرفي قد يكون أقدر من التفسير السياسي في مثل هذا النوع من الأزمات، وأن ثمة تباينا ثقافياً ومعرفياً حاداً وحالة من سوء الفهم الديني والحضاري الكبير بيننا وبينهم يكمن خلف هذه الأزمات المتكررة والا فلماذا تتكرر الأزمات مع الإسلام وحده دون غيره من أديان وحضارات العالم، ولماذا تتبع أوربا سياسة إحلال العمالة من أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية محل العمالة العربية والاسلامية التي انخفضت نسبة القادمين منها إلى عشرة بالمائة فقط العام الماضي في بلد مثل إيطاليا، وقبل ذلك كله علينا أن نحاول أن نفهم كيف أصبحت إساءتهم للأديان بمافيها المسيحية أمراً مقبولاً لا يثير مشكلات كبيرة داخل مجتمعاتهم وكيف حددت السوسيولوجيا أوعلم الاجتماع الغربي مفاهيمهم للدين والثقافة والحضارة بشكل مغاير لفهمنا وهو ما يمثل الأساس المعرفي لكل الخلافات والأزمات الدينية والحضارية التي أصبحت تحدد طبيعة العلاقات بيننا وبينهم بطريقة أصبحت تضر بمصالح الطرفين أبلغ الضرر، وتسير بتلك العلاقات في اتجاه معاكس لقانون المصالح المشتركة الذي أصبح يمثل اللغة المعتمدة بين الدول في عالم اليوم أياما كانت اختلافاتها الدينية والثقافية والحضارية، وكيف ولماذا استطاع الآسيويون واللاتينيون وحتى الأفارقة التوصل إلى صيغة للتعامل والتفاهم مع الغرب ومجتمعاته من منظور عملي يتفادى الدخول في الخلافات العقائدية أوالتوقف عندها على قاعدة التعددية التي هي سنة من سنن الله في خلقه.
وربما يساعد إلقاء الضوء على مثل هذا الأساس المعرفي للخلاف على الوصول إلى درجة أعلى من الفهم لهذا الآخر الأوربي خاصة مفهومه المغاير للدين والثقافة والحضارة، وترجع صعوبة تحديد دلالة مصطلح (الثقافة) culture في الدراسات السوسيولوجية أوالاجتماعية الغربية إلى أن هذا المصطلح (لا يزال يُستخدم لوصف مجالات عديدة واسعة، ولذلك فإن التعريفات السوسيولوجية المبكرة لمصطلح (الثقافة) اتسمت بطابع العمومية، ومن أشهرها تعريف كرويبر وكلوكهون، حيث تتألف (الثقافة) عندهما من (أنماط مستترة أوظاهرة، للسلوك المكتسب والمنقول، عن طريق الرموز، فضلاً عن الإنجازات المتميزة للجماعات الإنسانية)، وكذلك التعريف الأكثر شهرة وانتشاراً في تاريخ الدراسات السوسيولوجية، وهو تعريف تايلور الذي عرفها بأنها (ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل المقومات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع).
وفي مرحلة تالية في القرن العشرين أضاف كرويبر ولنتون وكلايد ولايتشكون الاهتمام بالأشكال أوالقوالب النموذجية التي تتخذها كل ثقافة، للتعبير عن نفسها.. فالأشكال والقوالب (في العمارة والأزياء والأدوات، كما في الإبداعات الفنية والممارسات السلوكية على السواء) جزء من المنتج الثقافي ذاته، كما أنها تعبر بنفس قدر تعبير الأفكار والمضمون عن نفسية الشعب صاحب الثقافة، وهو ماقد يفسر لنا لماذا ابداً موقف سترو من النقاب كمعوق للحوار الاجتماعي في مجتمع متعدد الثقافات موقف مقبول لدى قطاع واسع من المجتمع الانجليزي الذي ينظر للزي كأحد المظاهر الثقافية لا كفريضة دينية لايمكن التخلي عنها عند بعضهم، وهو مايؤكد وجود فراغ معرفي كبير في الغرب عن الاسلام، وهو ما عبر عنه كينيث كريست نسن رئيس منظمة الشبيبة في الدانمرك عندما طالب المسلمون ببذل المزيد من الجهد من أجل التعريف بالاسلام في الغرب.
أما مصطلح (الحضارة) فربما يكون من الأفضل الاقتراب منه من خلال مقارنته بالمفهوم المتشابك معه أي (الثقافة)، ويمكن في هذا الصدد التمييز بين أربعة اتجاهات أساسية؛ الاتجاه الأول ويرى أن (الثقافة) و(الحضارة) يعنيان الشيء نفسه، كما نجد في تعريف تايلور الشهير وهو الاتجاه الذي ظل سائداً لفترة طويلة في الفكر الفرنسي والألماني والأمريكي حيث استمر استخدام مصطلح civilization للدلالة على الحضارة والثقافة معاً دون تمييز.
أما الاتجاه الثاني فيرى أن الحضارة تقتصر على الشق المادي فقط من الثقافة باعتبارها الكل الاجتماعي الذي يشمل ما هو روحي معنوي أخلاقي فكري وما هو مادي أيضاً، كما نجد لدى ماكيفر وأودم وبالتالي فإن هذا الاتجاه يعتبر الحضارة بمثابة الجزء من الظاهرة المجتمعية الأشمل أي الثقافة.
وعلى العكس من ذلك يرى الاتجاه الثالث أن الحضارة (هي مجمل الإنجاز المادي والمعنوي لمجتمع ما، بينما يقصر هذا الاتجاه مدلول الثقافة على الجانب المعنوي فقط (الديني والأخلاقي والفكري والفني) من الإنجاز المجتمع العام، وبالتالي تصبح الثقافة جزءا من الكيان الكلي (المعنوي والمادي) المسمى بالحضارة.
وأخيراً يعتقد أصحاب الاتجاه الرابع من علماء الاجتماع الغربيين أن الثقافة والحضارة يعبران عن شيئين مختلفين، لا يحتوي أحدهما الآخر، رغم حقيقة ارتباطهما وتأثرهما ببعضهما البعض، فالثقافة تعبر عن الجانب المعنوي فقط من الوجود الاجتماعي (الدين والقيم والأخلاق والقانون والفنون والأفكار..) بينما تعبر الحضارة عن الجانب المادي.
أما طبيعة العلاقة بين الجانبين فتختلف من مدرسة فكرية لأخرى، حيث مال بعضهم إلى اعتبار الثقافة هي الأساس الذي يحدد شكل الإنتاج المادي والفني في مجتمع ما (الاتجاه المثالي) بينما يميل البعض الآخر (الاتجاه المادي) إلى اعتبار الجانب المادي هوالذى يحدد الجانب المعنوي والفكري.
وأياً ماكان الخلاف بين المدارس الغربية حول مفهومي الثقافة والحضارة، وأياً ماكان الموقف من مسألة أيهما يحتوي الآخر، أومسألة أيهما الأساسي وأيهما الثانوي وأيهما يؤثر في الآخر، فإن جل هذه المدارس قد اتفقت كما هو واضح على تهميش دور الدين والنظر اليه باعتباره أحد مظاهر أوتجليات البناء الثقافي أوالحضاري فهو ليس بحال من الأحوال أساسها أوجوهرها.
ويمكن فهم هذا الرؤية باعتبارها امتدادا ومحصلة طبيعية لذلك التحول الفكري الكبير الذي حدث في الوعي الغربي الحديث إبان لحظة انتقاله من العصور الوسطى إلى العصر الحديث حيث تخلى الوعي الأوربي لأول مرة عن تلك الرؤية الكلية للعالم، وأصبح ينظر لكافة مجالات الحياة.. الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة باعتبارها كيانات معرفية مستقلة، وبالتالي لا تحتاج لكيان معنوي أوفكري أعم وأشمل منها يرتبها في نسق عام، وهو ما أدى إلى تدني منزلة الدين وكذلك الفلسفة في الفكر الغربي المعاصر اللهم إلا على سبيل الاستدعاء بهدف التوظيف السياسي، كما حدث فيما سمي خطأ - ولكن بوعي وتعمد سياسي أوربي - (بالحروب الصليبية)، رغم براءة الصليب منها، وكذلك فيما نشهده اليوم من توظيف سياسي واعلامي لإذكاء مشاعر الخوف والكراهية من الإسلام والمسلمين من خلال استغلال ذلك التباين في المواقف المعرفية والمفاهيم الدينية والتقاليد الثقافية والاجتماعية بين شعوب الحضارتين.
ويفسر لنا هذا التتبع التاريخي لموقع الدين بين المفاهيم الثقافية والحضارية هذا الاجتراء الذي نستغربه ليس فقط على الاسلام والرسول- صلى الله عليه سلم- بل على المسيحية وعلى عيسى قبل ذلك في اللوحات الفنية أوالأدب أوالسينما، فعلى الرغم من وجود نصوص قانونية تجرم ازدراء الأديان إلا أن المجتمعات الغربية توافقت فيما يبدو على تجاهل هذه النصوص وعدم تفعيلها بناء على تنامي الموقف القائل بأن حرية التعبير لها الأولوية، وأن التطور الغربي الحديث ما كان له أن يتحقق لولا ممارسة الحق في بعض الشطط والتجاوز حتى فيما يتعلق بالثوابت وهو موقف لا يحق للحضارة الغربية أن تفرضه على الحضارات الأخرى، وأن تطالب برفعه إلى مستوى القيم الإنسانية التي يكون على جميع البشر الالتزام بها.
أما لماذا يحظى الإسلام بالحظ الأوفر من هذه الإساءات مقارنة بأي دين أوحضارة أخرى، فإن الإجابة تشتمل على سبب قريب وآخر بعيد؛ أما القريب فتكشف عنه تلك النظريات الاستراتيجية الغربية التي تؤكد وجود احتياج نفسي ومعرفي لدى التكوين الغربي لوجود عدو يبرر ما اصطلح على تسميته عبء الرجل الأبيض، وهو يتخذ صورة الدور الحضاري عند العلمانيين، كما يتخذ شكل رسالة المسيحي الأبيض عند المتدينين، وغالباً ماتتم صياغته سياسياً من خلال تدعيم صورة أصحاب الحضارات والأديان الأخرى ككائنات أدنى تمثل أديانهم وثقافاتهم المعوق الأساسي لتقدم البشرية، ويتضمن ذلك بطبيعة الحال توظيف السياسات العلمانية لبعض المشاعر والتأويلات المسيحية اليمينية المتطرفة لتحقيق مآرب سياسية وأهداف استراتيجية لاعلاقة لها بصراع الأديان والحضارات في واقع الأمر.


* خبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة
F-elsaeed@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved