الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th February,2005 العدد : 95

الأثنين 19 ,محرم 1426

عبده بدوي: رحيل الكلمات الغضبى!
د.حلمي محمد القاعود
لم أستطع رؤيته منذ سنوات، وهو يعاني متاعب صحية لم أحب أن أراه وهو يعاني، وخاصة أن المعاناة امتدت وتنوعت، وحين يكون الذي يعاني شاعراً رقيقاً يجرحه النسيم كما يقولون فإن الأثر الذي تخلفه المعاناة يكون أكبر وأعمق، ومن المؤسف أن أحداً في الدولة لم يحاول أن يقف إلى جانب الشاعر الذي أصدر أكثر من عشرة دواوين وعشرات الكتب النقدية والأدبية ، وكان ذات يوم ملء السمع والبصر في وزارة الثقافة والحقل الثقافي.. في الوقت الذي نجد فيه الصيحات تتعالى حين يمرض أو يدعى المرض، بعض أشباه الأدباء هنا وهناك، فتتحرك الجهات المعنية وتقرر علاجاً في الداخل أو الخارج، أو تمنح مالاً للمساعدة على العلاج أما شاعرنا فإن طبيعته أو حياءه يمنعه أن يتحدث عن نفسه أو يطلب من أحد!
لقد كان عبده بدوي رئيساً لتحرير مجلة اسمها (الشعر) ظل يسعى حتى أصدرها عام 1976م عن مجلة الإذاعة والتلفزيون بعد أن ماطلت جهات أخرى في إصدارها، وظل يحررها لأكثر من عشر سنوات دون مقابل أو مرتب، اللهم إلا المكافأة التي تصرف نظير ما ينشره فيها مثل غيره من الكتاب والشعراء ومن خلال هذه المجلة ظهرت دراسات غنية، وشعر جيد، وشعراء جدد، ومع ذلك فإنه عانى ظروفاً صعبة ولم يشفع له جهده في مجلة (الشعر)، أو في مجلتي (الرسالة) و(الثقافة) اللتين صدرتا في النصف الأول من الستينيات وكان مديراً لتحريرها، كي يحظى بنوع من الاهتمام داخل الحقل الأدبي فيقف من يعنيهم الأمر إلى جانبه.
على كل فإن كبرياءه جعله لا يتحدث عن نفسه أو يشكو حاله، وكان في كل الأحوال يواجه متاعب بنفس مطمئنة راضية، ورغبة عارمة في العمل والإنتاج، وقبلهما القراءة والمتابعة لما يدور في الحقل الأدبي وكان قد أخرج للناس مؤخراً، عبر المجلس الأعلى للثقافة، أعمال الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة مع دراستين طويلتين لأعمالها الشعرية وأعمالها النثرية، وإن كان كما حدثني بريدياً لم ير هذه الأعمال لسبب بسيط، وهو أنها لم تصل إليه!
وإذا كانت جوائز الدولة التقديرية قد تجاهلته مع أنها منحت لآخرين من الأجيال التالية له وللشعراء أو الأدباء الأقل منه مستوى وموهبة وكفاءة فإنه واصل إنتاجه الشعري والأدبي الذي بدأ مع موجة التجديد الحديثة في الشعر العربي التي ترتبط إعلامياً بذكر السياب ونازك والبياتي في العراق وصلاح عبدالصبور من مصر.
لقد بدأ (عبده بدوي) بنشر أشعاره وهو طالب وأصدر أول دواوينه مبشراً بطاقة من نور تنبئ عن شاعر واعد، يحتضن هموم قومه وأمته، ويقدم لغة شعرية جديدة، تجمع الجلال إلى الجمال وتستفيد من معطيات التراث المضيء والثقافة المعاصرة، محلية وأجنبية، وهو ما عبر عن نفسه فيما بعد من خلال الرمز والصورة، والقصة القرآنية والأسطورة الإفريقية والتاريخ الإسلامي وفنون الدراما ولعله كان من السباقين والرواد حين حاول أن يقدم القصيد السمفوني والأوبرا الشعرية فضلا عن المسرح الشعري.. ثم كانت مشاركته في التجديد الشعري من خلال شعر التفعيلة حيث قدم أجمل قصائده وخاصة في ديوانه (كلمات غضبى) الذي حمل ثورة ضارية ضد الاستبداد والكلمات الزائفة والرجال الجوف (كما سماهم إليوت) وزوار الفجر، ومغتصبي كرامة الإنسان وأمنه، ولا أنسى بيتاً قرأته في هذا الديوان يعبر عن الرعب والخوف اللذين عاشهما الإنسان المصري في بعض المراحل:
إني أعيش، الرعب يتبع خطوتي
والخوف ينعس جفنه بدمائي!
كان (عبده بدوي) صاحب فضل كبير على الثقافة العربية المعاصرة في التعريف بالشعر الإفريقي ولعل هذا ما رفع علي شلش رحمه الله كي يهدى إليه كتابه عن الأدب الإفريقي، الذي أصدرته سلسلة عالم المعرفة فقد كان (عبده بدوي) مديراً لتحرير مجلة نهضة إفريقية التي كانت تصدرها وزارة الإرشاد والثقافة وكان عبدالعزيز إسحق رئيسا لتحريرها ومن خلالها عرف القارئ المصري والعربي مايتعلق بإفريقية المجهولة والمستعمرة في معظمها آنئذ لدرجة أن البعض قال (لقد أصبحنا نعرف دبة النملة في إفريقية بفضل مجلة نهضة إفريقية).. وقد أغلقت هذه المجلة مع المجلات الأخرى لأسباب لا مجال هنا لتناولها.
وقد استفاد (عبده بدوي) من الشعر الإفريقي استفادة كبيرة حين ضمّن شعره بعض الأساطير والحكايات الإفريقية وهو ما لم يسبقه إليه أحد من المعاصرين فيما أعلم وفي هذه الحكايات وتلك الأساطير لمحات إنسانية، تعبر عن نقاء الفطرة، وشوق الإنسان إلى الحرية والكرامة والعدل.
في قرية تسمى كفر الدفراوي تقع ضمن مركز شبراخيت بحيرة ولد في الخامس من يولية 1927 طفل اسمه (عبده محمد محمد بدوي) لأسرة ريفية متواضعة تعلم في المدرسة الابتدائية مثل أبناء الفلاحين والتحق بالأزهر الشريف ليحصل منه على الشهادة الثانوية ويلتحق بكلية دار العلوم ويتخرج فيها عام 1945 ثم يحصل على الماجستير حول الشعر في السودان عام 1961 والدكتوراه عن الشعراء السود وخصائصهم الشعرية عام 1969 ومنذ تخرجه حتى وفاته وهو يتعامل مع الكلمة معلما في المدارس العامة، ومسؤولاً في أكثر من جهة ثقافية وصحفية ثم أستاذاً جامعياً في عين شمس وأم درمان والكويت والإمارات.
وكانت فترة إدارته (للرسالة) و(الثقافة) الإصدار الثاني من أخصب فترات حياته فقد أتيح له أن يطرح العديد من القضايا الأدبية والفكرية، وأن يشارك في أكثر من معركة أدبية كانت (الرسالة) و(الثقافة) مسرحين لها ولعل أبرز هذه المعارك المعركة التي كان طرفها الأشهر، العلامة الراحل محمود محمد شاكر وطرفها الآخر لويس عوض ودارت حول أبي العلاء المعري وكتاباته، وظلت المعركة ثلاثة وثلاثين أسبوعاً، تقدم كل أسبوع مقالة طويلة على صفحات (الرسالة) يكتبها (شاكر) (جمعها فيما بعد في كتاب ضخم بعنوان أباطيل وأسمار) وانتهت المعركة بانتصار لويس عوض حيث استطاع أن يغلق مجلات وزارة الثقافة جميعاً باستثناء مجلة (المجلة).
وكان الإغلاق فرصة لعبده بدوي كي يفرغ بعد عام 1965 الذي تم فيه الإغلاق لإنجاز رسالة الدكتوراه ويتحول مساره من موظف بلا عمل ولا مكتب ولا مقعد في وزارة الثقافة إلى أستاذ جامعي يقضي كثيراً من سنوات عمره خارج البلاد في السودان والكويت والإمارات ولكنه ظل مع ذلك يكتب الشعر والدراسة الأدبية ويتحدث في الإذاعة عن إفريقية وتاريخها الوثني والإسلامي.
في موقفه الحضاري يأخذ عبده بدوي موقفاً إسلامياً وسطاً يدرك مواطن القوة في تراثنا ويعلم قيمتها جيداً وأيضاً يدرك المواطن القلقة والضعيفة ويؤمن بأن الواقع يفرض علينا أن ننطلق من مناطق الضوء في حضارتنا ونستفيد من المعطيات الإيجابية للحضارة الإنسانية الراهنة، ولعل كتابه المهم (حضارتنا بين العراقة والتفتح) خير من يعبر عن توجهه الفكري والإنسان.
لقد أصدر عبده بدوي العشرات من الكتب والدراسات التي تؤصل لهذا الموقف الحضاري أو تصب في محيطه، حتى لو كانت متخصصة في مجالات أخرى ومنها:
في الشعر والشعراء دراسات تطبيقية، الشعراء السود والحضارة، أبو تمام وقضية التجديد في الشعر، دراسات في النص الشعري، قضايا حول الشعر، طه حسين وقضية الشعر، العقاد وقضية الشعر، شعر إسماعيل صبري، نظرات في الشعر الحديث.
ومن دواوينه:
شعبي المنتصر، باقة نور، دقات فوق الليل، كلمات غضبى، لا مكان للقمر، السيف والوردة. وقد أصدرت هيئة الكتاب أعماله الشعرية في مجلدين عام 1999 وفيها أوبرا الأرض العالمية والقصيد السمفوني (محمد).
حصل عبده بدوي على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1977 وحصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1978 كما حصل على جائزة مؤسسة يماني الثقافية (إبداع الشعر) عام 1997 وأصدرت عنه جامعة الكويت كتاباً تذكارياً سنة 2000 شارك بالكتابة فيه عدد من زملائه وأصدقائه وتلاميذه تناولوا شعره وأدبه.
ومع النجاحات التي أحرزها في مجال الشعر والكتابة فإن تجارب الابتلاء التي تعرض لها كثيرة، ولعل أخطرها محنة غزو الكويت عام 1990 حيث رأى العسكر يدمرون كل شيء ويضطر إلى الخروج بأسرته تاركا مسكنه ومكتبته ومتاعه للنهب والضياع وفي الوقت نفسه يقطع الصحراء بسيارته حتى تلتقطه طائرة نقل عسكرية وتحضره إلى الوطن الذي تناساه وهو في محنته يصارع المرض والأحزان حتى لقي ربه راضيا مرضيا في مساء الخميس 27 1 2005 رحمه الله.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved