الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th February,2005 العدد : 95

الأثنين 19 ,محرم 1426

قراءة في عنونة الديوان عند عبدالله الزيد
تهتم الدراسات الحديثة في مجال تحديد النص بالعنوان؛ فعن طريق العنوان تتجلى جوانب أساسية، أومجموعة هامة من دلالات النص الأدبي، وإشارته الرمزية.. مما يجعل العنوان عنصراً موسوماً ومكثفاً). وأهمية العنوان في النصوص الأدبية تبرز بكونه سمة من سمات المنتوج، وعلامة تطبعه وتميزه، بالإضافة إلى كون العنوان مدلا للنص وبداية له، فهو ينبئ عن النص ويشير إليه، وقد يكون ملخصا له وتكثيفا لمضمونه. ولا شك أنّ اختيار العنوان قد يكون عقبة أمام الأديب، ولعلي أذكر ما قاله محمد شكري في صعوبة اختيار عناوين أعماله الإبداعية، حيث قال: (الصعب عندي قد يكون في اختيار عنوان مناسب حيث انتهائي من نص، إن العنوان ينبغي أن يكون مثل عرف الطاووس أو ذيله). والعنوان كما يراه رولان بارت، يجب أن يثير في القارئ الرغبة في القراءة. غير أن حصر وظيفة العنوان في هذا لا يكفي، إذ نجد أن جيرار جينيت قد حدد أربع وظائف للعنوان هي: الإغراء الإيحاء الوصف التعيين. ولاشك أن التطور النقدي قد تجاوز هذه الحدود إلى آفاقٍ أوسع.
غير أنّ التساؤل الذي يطرح نفسه أمامنا، وبخاصة فيما يتعلق بعنوان الأعمال الأدبية، وبخاصة الشعر هو: ما الفائدة حين يكون العنوان حداثياً أو أكثر حداثة، ومافي الديوان غير ذلك؟. العنوان بارقة أولى نحو الديوان، لكنَّ تصوّرَ صدمة القارئ حين لا يستشعر نغمة الديوان تتموسق في جنباته، حينها تشعر بعبثية هذا الشيء. ولو اطلعنا على دواوين الشعراء الكبار في العالم المترجمة، نجد أن عناوين دواوينهنم جداً عادية، ونخذ مثلاً الشاعر الايرلندي (شيموس هيني)، وهو حاصل على جائزة نوبل للآداب 1995م نجد لديه ديواناً بعنوان (موت عالم الطبيعة)، وديوان آخر (معاناة الشتاء)، لا أتصور أنّ مثل هذين العنوانين يجذبان القارئ، ما لم تكتب عبارة (جائزة نوبل 1995م)! على غلاف الديوان.
هذا المدخل جعلني أتأمّل ما عنونه الشاعر عبدالله الزيد لدواوينه الثلاثة الأخيرة، ومدى علاقتها بالنسق البيتي الذي يسيطر على مجموعة من قصائد المجموعات، فالعنوان لدى الزيد بحد ذاته قصيدة، لكن حين تقلب صفحات الديوان لا تجد إلا قصائد بيتيّة أو تفعيلية تنمو فيها وشائج من الكلاسيكية، وعلى هذا لا علاقة بيّنة بين هذا النسق من العناوين وبين القصيدة البيتية. ولذلك فعنوان أيّ ديوان إن لم يكن معبراً عن مافيه من قصائد فهو مجرد عنوان!. إنّ التصور لدى أي مبدع هو أن يقدم عنواناً جذاباً، بحيث يبرز للملتقى بشكل أكثر تطورا، وأكثر مخالفة للتراث، وهذا يخفي في داخله (كرهاً أوديبياً للأب أو راغبة يائسة في إنكار الأبوة، ويؤدي إلى كبت المشاعر الحقيقية العدوانية إلى استراتيجيات دفاعية... لأنّ المبدع يتصور أنّه إنْ لم يقم بهذا التشويه العدواني لمعاني أسلافه لخنقت التقاليد إبداعه).
وهذا مبدئيا ليس على وجه من الصحة، حيث إنّ العمل الإبداعي الحقيقي يثبت قامته ليس فقط بالعنوان إلا إذا كان دالاً على النص الإبداعي، وإنّما بالعمل نفسه والإبداع الخلاق القوي.
وعوداً على بدء فيما طرحه الزيد من عناوين لمجموعاته الثلاث الأخيرة، فقد عنونَها بالعناوين التالية:
الأولى: من غربة الشكوى.. يسري كتاب الوجد.. يتلو سراج الروح.
الثانية: مشرع برحيق الذهول.. يهطل الوجد بالمستحيل.
الثالثة: انبسطت أكف الرفاق.. بقي الجمر في قبضتي... أغنّي وحيداً.
قبل الخوض في دلالة العنوان لدى الزيد أعرض لهذا الرأي للدكتور عبدالله الرشيد في دراسة له عن العنوان في الشعر السعودي يقول الرشيد: يبدو أنّ تيار الشعرية العاصف الذي أحدثته مذاهب أدبية كثيرة، كان ذا أثر فاعل في ميل الشعراء إلى هذا النمط من العنونة... فوجدوا في الرمز الغريب ظلاً وموئلاً يعزف بعضهم فيه أنغاماً شاذةً على السائد في الفكر أو أنماط الصياغة الإبداعية. ويظهر لي أنّ بعض الشعراء يريد الغرابة لذاتها؛ ليستفزّ القارئ، ويثير عقله بإبعاده عن المعقول،وبعضهم يطمح في الإغراب إلى لفت أنظار النقاد إليه، وإن لم يقل في قصيدته شيئاً ذا بال). يبدو أنّ ما ذهب إليه الدكتور الرشيد ينطبق على العنونة في دواوين الزيد. على الرغم من أنّ العنوان لدى الزيد مشحون بالصورة الفنية الرائعة، التي تمثل قصيدة رائعة، ولو كتبت تحت أي مقالة لظنّ القارئ أنها مقطع من قصيدة، وبخاصة وهي تأتي موزونة سليمة الإيقاع. هذا من جهة. ومن جهة أخرى نجد أنّ دلالة العنوان تخترق الذات الشاعرة لدى الزيد، فهو في عناوين هذه المجموعات، يكثف الحضور الذاتي بالأنا المغتربة، فلفظة (الغربة) في عنوان المجموعة الأولى، و(الذهول) في المجموعة الثانية، ولفظتا (بقي.. وحيداً)، كلها ألفاظ تدل على الوحدة والغربة، هذا بالإضافة إلى المقابلة في عنوان المجموعة الثالثة بين قوله: (انبسطت أكف الرفاق) وقوله (بقي الجمر في قبضتي) فبين الانبساط والانقباض، وبين الرفاق (الجمع) وياء المتكلم في قبضتي (الوحدة) مقابلة تكشف عن هذه الذاتية في العنوان لدى الزيد. وهي ذاتية مختزلة بالحزن والألم والشكي، وتتراءى للقارئ أنّة الذات الغارقة في الأحزان، وإذا ما تلمسنا جانباً ثالثاً نجد تلك الألفاظ الموحية بالصوفية، فالزيد يستعير ألفاظ (الوجد)، الشكوى كتاب الوجد (تركيب إضافي)، سراج، الروح، الذهول، المستحيل، الجمر، أغني، وحيداً) هذه الألفاظ استعارها الشاعر الزيد من مفردات الصوفية، وهي ألفاط لها مدلولات عميقة لدى المتصوفة، وتتجاوز دلالتها المعروفة إلى أعمق من ذلك.
وإذا أردنا أن نجري بياناً إحصائياً لهذه العناوين الثلاثة نجد التالي: فعنوان المجموعة الأولى يتكون من تسع كلمات (اسم وفعل وحرف)، والجموعة الثانية تتكون من ثماني كلمات، والمجموعة الثالثة تتكون من عشر كلمات. هذه الأعداد تكشف لنا الغرابة التي يتقصّدها الشاعر في اختيار عناوينه. بالإضافة إلى أننا نجد أنّ ثمةَ كلمات أخرى تدخل تحت دائرة (الاستتار في اللغة العربية) لم أحصها، ولها تأثير في تركيب الجملة، وبخاصة في المجموعة الأولى، إذ تتكون من ثلاث جمل هي:
1 من غربة الشكوى..
2 يسري كتاب الوجد..
3 يتلو سراج الروح
فالجملة الأولى تتكون من (حرف جر + اسم مجرور + مضاف إليه)، وهذا التركيب يعرف في اللغة يشبه الجملة. وهذه الجملة متعلقة بالجملة الثانية، والجملة الثانية تصدر عنها، وهي أي الجملة الثانية مكونة من (فعل + فاعل+ مضاف إليه)، وهذه الجملة تصدر منها الجملة لاثالثة، وهي تتكون من (فعل + فاعل (ضمير مستتر يعود على الكاتب) + مفعول به + مضاف إليه)؛ إذاً الجملتان الأخيرتان متفقتان في التركيب الإسنادي، مع زيادة في الجملة الثانية بوجود المفعول به، وهذا التركيب لا يخرج عن قواعد اللغة، غير أنّه يمتاز بإيجاد علاقات غير منطقة بين عدد من الكلمات تعتمد على التشخيص والاستعارة، لكنْ لعلنا نلاحظ أنّ الجملة الثانية أصبحت جسراً بين الجملتين الأولى والثالثة، وكأنّها جاءت مكملة وموضحة ومفسرة لما يريد الشاعر قوله، ولو كان مُختصِراً لقال: من غربة الشكوى يتلو سراج الروج. غير أنه خشيَ أن يكون في العنوان بترٌ وانقطاع وإبهام بين الدلالتين فأضاف قوله: يسري كتاب الوجد. ولعلّ في ذلك تسلسلاً منطقياً من الشكوى إلى الوجد إلى الروح.
أما الديوان الثاني فعنوانه مكون من جملتين هما:
1 مشرع برحيق الذهول..
2 يهطل الوجد بالمستحيل.
فالجلة الأولى تتكون من (خبر + جار ومجرور + مضاف إليه). والمبتدأ محذوف تقديره (هو أو هذا أو أنا...). أمّا الجملة الثانية فمكونة من (فعل + فاعل + جار ومجرور). وإذا كان عنوان المجموعة الولى أكثر ترابطاً ومنطقية، فإنّ هذا العنوان يميل إلى الغموض والبعد عن الترابط، ولعله يصدق عليه ما نقلته من كلام الدكتور عبدالله الرشيد سابقاً.
أما الديوان الثالث فعنوانه مكون من ثلاث جمل هي:
1 انبسطت أكف الرفاق..
2 بقي الجمر في قبضتي...
3 أُغنّي وحيداً.
فالعنوان جُملٌ تكشف عن بعد سوسيولوجي، إذا الشاعر يبرز دور الآخر في الجملة الأولى المكونة من (فعل +فاعل+ مضاف إليه)، وهي تكشف عن قيمة اجتماعية أراد الشاعر إبرازها، وهي توحي بانفراط عقد الصداقة، وخلوه من الأصحاب وبعدهم عنه، بالإضافة إلى ما توحي إليه من ألم وحزن، تجاه بعض المواقف التي حدثت للشاعر، وهذه الجملة مفتوحة الدلالة يمكن من خلالها الدخول إلى آفاق أخرى، أمّا الجملة الثانية فمكونة من (فعل + فاعل + جار ومجرور)، وهي جملة المقابلة مع الجملة الأولى كما أشرت سابقاً، وتتمحور دلالتها حول حزن الشاعر وألمه، وما تركه أصحابه له من مواقف تبدو سلبية. أمّا الجملة الثالثة، هي خاتمة العنوان، والنتيجة التي آل إليها الشاعر بعد موقف أصحابه منه، ولا ريب أنها توحي بالمصير الذي لحق بالشاعر، وهو العزلة والوحدة!، وتتكون من (فعل + فاعل ضمير مستتر+ حال)، ويلاحظ هنا أنّ تركيب جمل عنوان المجموعة يعتمد على تركيب إسنادي واحد أو متقارب، لا يختلف إلا في المتعلقات.
وفي ملحظ آخر، نجد أنّ عناوين هذه المجموعات تحتوي على خمسة أفعال فقط، والفعل يدل على التغير والحركة، وخمسة عشر اسماً، والاسم يدل على الثبات والجمود. وأربعة أحرف فقط. وهنا يتضح لنا من خلال دلالة الاسم ذلك البعد النفسي المسيطر على نفسية الشاعر، وما أراد توصيله للمتلقي من خلال الأسماء الكثيرة في العنوان، بالإضافة إلى دلالة التركيب الإضافي الغالب على عناوين المجموعات.
ثمةَ ملحوظة أخيرة نسجلها هنا، وهي أنّ عنوانيْ المجموعتين الأولى والثانية بحسب ترتيبنا لها أعلاه يركزان على البعد الذاتي لدى الشاعر دون الحاجة إلى التواصل مع القارئ بدرجة عالية، بل تكتفي بالإشارة إلى الغاية النفسية التي تتمحور حولها. أمّا عنوان المجموعة الثالثة فعنوان كاشف عن علاقة اجتماعية، أراد الشاعر من خلاله إبرازها وتوضيحها.
ولا غرو بعد ذلك أن يظلَّ التساؤل قائماً حول علاقة مثل هذه العناوين بالقصائد التي بين دفتيْ الديوان، ولعل ذلك يكون في مقالة أخرى.


أحمد اللهيب الرياض
* allhaeb@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved