الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th March,2005 العدد : 99

الأثنين 18 ,صفر 1426

عبد العزيز السالم
الرجل المثقف والوطني المخلص
د.عبد الله محمد الغذامي
في البداية كنت أقرأ له ولم أكن أعرف أنه هو، وهذا ليس لغزا فالكل يعرف المقالات التي كانت تتصدر صفحة حروف وأفكار في جريدة الرياض موقعة باسم (مسلم عبد الله المسلم) ، وكانت ترفل بالحس الوطني العميق وبالثقافة الجادة، وفيها مثالية أخلاقية وذوقية تنم عن قلم مجرب وعريض الاهتمامات، وكان كل ما فيها يوحي بأنها لرجل متفرغ للكتابة والقراءة وقد جعل همه أن يسخر ما بيده من قلم لخدمة قضية سامية تدفع نحو التربية الذوقية والوطنية، وكنت أتوقعه رجلاً معتكفاً في بيته يرقب ويقرأ ويكتب بعيدا عن المشاغل الدنيوية، ذلك لأن المعهود الذهني عندنا أن من تسنم منصبا ضعف اهتمامه الثقافي وضعف اهتمامه بالكتابة تحديدا، وهو عادة ضعف يتدرج بدرجات تزداد ضعفا كلما زاد شأن المنصب، ولذا كانت التخمينات حول صاحب ذلك القلم تبتعد عن أي رجل ذي منصب، هذه كانت صورة الرجل الذي لم يكن بذي صورة لأن المقالات كانت خلوا من الصور، ويتصدرها الاسم الرامز فحسب، ولكن الهمسات صارت تأتينا من صوب وصوب لتقول إن صاحب ذلك القلم هو عبد العزيز السالم، وهو صاحب المعالي وصاحب المنصب المهم في الدولة، وهنا نشأت الصور الذهنية تتركب مرة أخرى، ليس للتعجب من مثال خرق العادة من كون المنصب لم يشغله عن العلم فحسب ولكن أيضاً من أن صاحب هذا المنصب حافظ على مثاليته الثقافية والذوقية مع ما يغريه من واقعية مناصبية تشغل أصحابها عادة عن أي نموذجية معرفية أو علمية وكتابية، وظل يكتب كحال المعتكف الحابس نفسه في محراب المعرفة والمنصرف عن بريق الدنيا، وكأنما يجمع المفكر والموظف في عباءة واحدة دون أن يعتدي أحدهما على الآخر، ويضع لذلك فواصل وحدودا حاسمة جعلته يستخدم لكل واحد منهما اسما خاصا به، فهو عبد العزيز السالم ذو المعالي، وهو مسلم المسلم ذو القلم، وكل اسم يرمز للمهمة المسندة إليه، مع ضبط تام للتصرف حتى لا يدخل اسم على اسم.
وظل الأمر على هذه الحال بهذه الثنائية المنضبطة، ولكن الناس لم يتركوا الأمر كما هو مخطط له من قبل صاحبه فصاروا يجهرون بحقيقة العلاقة بين الاسمين، حتى لما جاء معجم الكتاب والمؤلفين السعوديين الصادر عام 1413هـ صرح الناشر في ترجمته لمسلم المسلم بأن هذا الاسم هو للأستاذ عبد العزيز السالم، وبذا سقط الغطاء وصار الاسم واحدا للمهمتين، ولكن الفاصل بين المهمتين لم يسقط على الرغم من توحيد الاسم، وجاءت المقالات تترى حاملة الحس نفسه والصدق نفسه وكاسبة جمهورا عريضا من القراء ينتظرها أسبوعيا ويتابعها بشغف عميق، ثم انقطعت المقالات لتبدأ الطلبات عليها وليستمر الحس بها وبأثرها، ولكن القراءة والمتابعة الثقافية لم تنقطع ولم تنصر المعالي على القلم وظل لكل واحد منهما حقه الكامل عبر تمثل أبي عصام وهذه كنيته الأثيرة إلى أحبابه عبر تمثله لأفكاره وثقافته من خلال متابعاته الواسعة والمتنوعة لكل ما يجري على الساحة الثقافية العربية ككل وليس السعودية فحسب، وهذا ما تشهد به مهاتفاته الكريمة والمتواصلة لكل كاتب سعودي أو عربي جاد وصادق، وكم هي الاتصالات التي تحمل التعليق والأفكار والمقترحات ومعها المؤازرة والتأييد المعنوي الصادق تأتي من أبي عصام، وقد نالني منها الكثير وما زال، وهو لا يتصل مؤازرا ومحاورا فحسب، بل إنه يتلطف بإبداء ملاحظاته ومقترحاته، ومنها أنه حينما علم أن كتابي (حكاية الحداثة) على وشك أن يصدر منه طبعة ثالثة هاتفني ليلفت نظري لتدارك بعض أخطاء لغوية وأخرى مطبعية لا تلتقطها سوى عين واعية وبصيرة علميا وثقافيا، وهذا ديدنه في القراءة الجادة والملاحظة العلمية الصادقة التي يخدم فيها رسالة العلم ويحرص على تجويد هذه الرسالة ومساعدة أهل المعرفة على عملهم.
وحينما بدأت مقالاتي في الرياض عن حكايات المرأة في الثقافة بادر بالاتصال والاقتراح علي بأن أشير إلى دور الإسلام مع المرأة تكريما لها وصيانة لقيمتها حتى لا يظن أحد أنني قد اغفلت هذا الأمر، وكم كنت عميق الامتنان لهذا الرجل الكريم الذي بلغت فيه الغيرة والمحبة لي إلى حد انه حرص على صورة اسمي بين الناس كي لا يظن بي التقصير، كما هي ايضا غيرته على الدين الحق والثقافة الصافية، ويعلم الله انني لم أكن غافلا عن هذا وكنت بصدد قوله والتأكيد عليه لأنه حقيقة أولا ولأن فيه كمال الصورة ثانيا، ولكنني فرحت بكلام أبي عصام لأنني أحسست فيه بقلبه المحب وروحه المتطلبة للخير وإشاعة الفضيلة.
ومرة هاتفني بعد موضوع لي عن الأحداث العالمية، وأشار إشارة ذكية لم تخطر لي على بال من قبل، وهي أنه لاحظ معنى عميقا في الحديث المروي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهون عند يهودي، وقد تساءل أبو عصام عن معنى ذلك وكيف رهن رسول الله درعه عند يهودي بينما عنده من الصحابة من يفديه بروحه وليس بماله فحسب من مثل أبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وهم من تجار الصحابة وشرفائهم ولا ينقصهم المال ولا الحماس لإقراض الرسول صلى الله عليه وسلم بل بإهداء أنفسهم ومالهم له وفديتهم له بأرواحهم، ومن هنا يأتي المعنى العميق في أن المصطفى انصرف عنهم إلى غيرهم كي يترك رسالة عميقة عن التعامل مع الآخر المختلف عنك دينا وعرقا، وهو تعامل اقتصادي وليس سياسيا فحسب، وهذا معنى عميق طرحه أبو عصام معي على الهاتف متسائلا بأمره ومقترحا متابعة الفكرة، وهنا تشعبت المكالمة بين طلب أطالبه فيه بأن يكتب عن هذا الموضوع وبين طلب منه يعرض فيه علي بأن أفعل أنا ذلك، ولم يفته حينها وهو المثقف الورع والصادق مع نفسه أن يقترح البحث في مظان الحديث للتأكد من أسانيده وصحته والتأكد من تفسيراته وأسبابه، وهذا ورع علمي لا يفعله سوى رجل محنك في الثقافة والمعرفة، وأنا أروي هذا الأمر الآن وأهيب بكل من يقرأ كلامي هذا أن يشاركنا في التفكير بهذه الملاحظة العلمية الهامة جدا والبالغة الدلالة، وهي والله عينة على عقل هذا الرجل وورعه وحرصه العلمي الشديد.
ولهذا فإنني قد أحببت هذا الرجل المثقف وهذا الوطني المخلص وهذا الصديق الوفي وهذا الإنسان المسلم ابن المسلم، وهي تسمية لم تكن مجرد تخلص ذكي ولكنها ذات بعد عميق تدل على روح مؤمنة تعبر عن إيمانها بسلوكها وبعقلها.
لك التحية يا أبا عصام، ولك المحبة وأنت أهل لها بكل ما فيها من مخزون صادق وبعيد الغور، ولك الشكر مني على مهاتفاتك الكريمة وملاحظاتك العلمية الدقيقة ومقترحاتك الذكية، وأنت رمز وأنت وفاء.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved