الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th March,2005 العدد : 99

الأثنين 18 ,صفر 1426

مَنْ يصادر الفرح في مجتمعاتنا..؟!
أمل زاهد
رغم أني لا أحب الترنم بالماضي ولا البكاء على الأطلال لأنني أؤمن أننا يجب أن ننقب عن أجمل ما في واقعنا ثم نحاول أن نضفي عليه ألقاً وبهاء، لكني أجد نفسي في أحيان كثيرة مرغمة على اجترار الذكريات والانزلاق في تفاصيل دقيقة ماضية كانت يوما ما إحدى سمات مجتمعاتنا. تفاصيل كان يسكنها الفرح وتقبل وهي تتأبط معها ضحكات صادقة تنبع من القلب وتنبثق من تلافيف أرواح لما تفسدها تعقيدات الحياة ولم يعث فيها الزيف بيده العابثة. كانت مجتمعاتنا مليئة بمظاهر الفرح الصادقة وبمشاركة الناس بعضهم البعض الأفراح والأتراح حيث يتحول العرس إلى حدث يتغنى بقصائده الناس ردحا من الزمن قبل وبعد حدوثه بل ينتظره الصغار قبل الكبار، وتمارس فيه طقوس بسيطة ولكنها معبرة عما يجيش في النفوس من صفاء وما تعمها من بهجة لمشاركة الآخرين أفراحهم. كما تتحول الأحزان أيضا إلى مشاركة وجدانية ورغبة صادقة في سحب المبتلى من مصابه وزجه في معترك الحياة حتى ينجلي عنه حزنه وتصفو نفسه مما أصابها.
اختفت ممارسات كثيرة بسيطة من حياتنا واستبدلت بأخرى متخمة بقشور المادة ولكنها مستلبة من الفرح الحقيقي، ممارسات تتلبسها المظهرية والرغبة في الاستعراض والتنافس، فترهق جيوب من يقومون بها وتنشل منهم الفرحة المصاحبة عادة لطقوس الفرح البسيطة المنبثقة من إحساس حقيقي، ولكن للأسف هذه الممارسات الجديدة على مجتمعاتنا باتت جزءا من تقاليد وأعراف تمسك بتلابيب الناس وتطبق على أنفسهم فلا يستطيعون منها تهربا أو فكاكا. أمر آخر صار يتناهش الفرح ويتنازعه زيادة على ما ذكرنا آنفا وهو تحول أفراد المجتمع إلى وعاظ وواعظات يصادرون الفرح ويتعقبونه حتى يولي هاربا من الساحة، بل إن الأفراح نفسها صارت تتحول بين غمضة عين وانتباهتها إلى جلسات وعظ ثقيلة على الحضور يضطرون إلى تجرع كلماتها في وقت كان يعدون فيه أنفسهم لجرعات من المرح تنقلهم بعيدا عن متاعب حياتهم، ويلقي هذه الندوات غالبا بعض الوعاظ والواعظات الذين شكلت وعيهم الديني والمعرفي ثقافة الكاسيتات والكتيبات الصفراء الغارقة في رؤية الدين من زاوية قاتمة كئيبة تنفي الفرح وتلغيه من قاموس الإنسان المتدين، ولم تبن معرفتهم الدينية على عمق في الرؤية أو كثافة في القراءة أو تنوع في المصادر.
وصار الشك يدخل في أبسط التفاصيل التي كانت تمارس بمنتهى الصفاء والبراءة فتوضع في نطاق المحظور والحرام، وكأن الدين والتدين يجب أن يتوشح الحزن ويتدثر بالكآبة حتى يكون صادقا في مضمونه معبرا عن أصالة محتواه، فالإنسان المتدين في عرفهم يجب أن يكون متجهما عابسا كارها للحياة متعففا عن اللهو متعاليا عما يمارسه الناس عادة في حياتهم من طقوس تعبر عن الفرح وتنقب عن البسمات لتجلو عنها الصدأ وتظهرها على تقاسيم وجوه طال انتظارها لها. كما أن حب الحياة نفسه المفطور عليه التكوين البشري يعتبر منافيا للدين بل ويصنف على أنه نقيصة تؤخذ على الإنسان الذي يضبط متلبسا به، في حين أنه يقاوم بواسطته كبد الحياة ونصبها ومعاناتها التي لا تفتأ وهي تحيط هذا المخلوق المدهش بتعقيداتها، فيحاول أن يتنصل من شباك الأحزان متلفعا بحب الحياة الذي نسجه وجدله الخالق في تكوينه كجهاز مناعة متأهب ومتحفز دائما لمقاومة كافة أنواع المآسي. وذلك دون شك منحة وهبة من الخالق سبحانه وتعالى يعطيها للبشر حتى يخرجوا من أحزانهم ويتكيفوا مع ما تلقيه به الدنيا على كواهلهم من صعاب.
ولكن الثقافة المهيمنة على مجتمعاتنا الآن صارت تنظر إلى حب الحياة نظرة ملؤها الاستهجان والاستنكار، بل وتعتبره تهمة تلقى في وجه كل من يجاهر بحبه للحياة وبرغبته في الفرح والسعادة، خاصة لو صدر ذلك عن رجل مسن أو امرأة مسنة لأن المفترض أن تحتل الطقوس الشعائرية جل وقته وأن يلغي أي اهتمام دنيوي من أجندة حياته، ويضع يده على خده منتظرا الموت مترقبا مجيئه. مع أن الشعائر وسيلة لكي تحقق للإنسان حياة أفضل من خلال ارتباطه بالخالق جل وعلا ، وعبر قدرتها على تحقيق التوازن المطلوب بين تكوين الإنسان المتناقض الذي يتأرجح بين تحليق الروح وسموها ورغبات الجسد الذي يشدها إلى الأرض. كما أن الإسلام يشدد دائما على أهمية العمل وربط الدنيا بالدين ولا أدل على ذلك من حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يؤكد معناه على أهمية غرس الفسيلة حتى في حالة قيام القيامة.
ثقافة الموت هذه تلغي تماما الوجه المشرق والحقيقي لجوهر الدين الذي ينظر للحياة على أنها هبة من الخالق، كما يؤكد على أن حياة الإنسان أمانة في عنقه يجب أن يحافظ عليها بكل ما يملك من طاقات، كما أنه مسؤول عن صحته الجسدية والعقلية والنفسية، وصحته النفسية لا تتحقق إلا من خلال عوامل عديدة يأتي على رأسها إشباع الإنسان لرغبته في اللهو البريء وشعوره بالسعادة والفرح الذي يجدد حياته ويحفزه للعلم والعمل.
هناك التباس شديد بين مفهوم حب الحياة الذي فطر الله عليه البشر ويقاومون به الأمراض وتكالب الأحزان والهموم عليهم وبين مفهوم الانحطاط إلى العبِّ من شهوات الدنيا دون اهتمام بالمبادئ والقيم والمثل التي رسخ لها الدين. الإسلام كرم الإنسان بل جعله محور الكون وكل المخلوقات الأخرى مسخرة لخدمته، فهو خليفة الله في الأرض والمطالب بعمارتها والسعي في مناكبها وحتى يتحقق له ذلك يجب ان يحرص على حياته ويسعى لتعلم كيف يقاوم مصاعبها ويقف قويا صلبا في مواجهة أزماتها، وأن يتسلح بالإيمان بالخالق سبحانه وتعالى في تحمله للأمانة التي أبت السموات والأرض أن يحملنها، ودون شك يشكل حبه للحياة العامل الأقوى والزاد الأهم في رحلة المشقة هي أكبر سماتها.


amal_zahid@hotmai.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved