الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th March,2005 العدد : 99

الأثنين 18 ,صفر 1426

قصة قصيرة
استيقاظ على تخوم الذاكرة
طاهر أحمد الزارعي
...(حينما يرحل بصمت.. تاركاً خلفه أصداءً مثقوبة)
ثمة صور تتذكرها.. وملامح استفزازية تسبح بها ذاكرتك المتخمة بالرغبات.. التي تكتسي غموض الماضي.. وتحتضن سطوة الآلام. لكنك لا تستطيع امتصاص ومضاتها، أو احتواءها في مملكة صغيرة جداً. سرعان ما تخلد إلى سرير هذيانك.. وتأفل في دائرة بداياتك.. وتبقى مشدوهاً في فاجعة أحلامك تلعق رعشاتها دونما بهجة مؤنسة.
منذ أن فتحت أهداف توقكَ، وأنت تحلم باقتحام الضوء مثل صيف تقطنه نسمة هواء باردة.. تريد أن تعيش تحت ظلالٍ وارفةٍ تتساقط من فوهاتها حبات أمل حانية، وتنتعش بصمت حقيقي يبعدك عن حماقة الثرثرة وفضلات المعاناة لوقت قصير ربما.. تمني نفسك بسكن الممرات الشهية لتمر عليك الصور هادئة لذيذة. غالباً وحيث يكون الحنين إلى الناحية المطلقة.. تبتسم لضجيج تلك الممرات.. وبراءة الأطفال وهم يعلنون الفوز والخسارة فيما بينهم.. ولزحمة الناس المتكدسين خلف الصرخات.. وتحت مظلة المقاهي التي تفوح من جنباتها الأغاني العتيقة. عندما كنت هناك.. تمارس شقشقة الغرف عبر ثقوب صغيرة من نافذة مطلة على غرفتك، تفصح من خلالها عن لهفتك.. وتعبر بضالتك إلى حد الجنون نحو دروب اللاتخفي حينما يلتصق قلبك بتلك الفتاة وبدفء سكناتها وحركاتها وابتساماتها المتكررة.. والغامضة في مرات كثيرة.. وتمضي بجسدك النحيل إلى مشارف عشقك الصادق.. وتلعن أحلام الصمت.. وتتفنن بنفسك كوجود حي له حرية الكلام وعبث المراهقين بلا مخافة أو استحياء.
تنتحب كثيراً عندما تجرك خيوط الذكريات.. وتتسلق بك نحو الخلف عبر ضوء ينبعث من غرفتك ليعانق نبرات المغامرة.. ويفترس رزمة الأصوات المخنوقة في إطار الأقنعة! وعلى مرمى ذاك الفرح المضيء تطل الآن لترى جمهرة الناس في ساحة ذات حدود معروفة تمثل وطنك الكبير.. وتسمع في تلك المساحة الضيقة هرولة الأرض بصراخها تطلب وسيلة للإنقاذ حيث العابثون فيها يريدون اغتصاب جذورها واجتراح خيراتها.. واغتيال معالمها الخالدة. وأنت ومن معك تصيبكم للوهلة الأولى لعنة التفرج. تلتفت إلى صاحب جثة تنضج على قسماتها علامات تحدي الزمن الرديء.. تتوسم فيه شجاعة.. تتمتم له ببعض الكلمات.. يفهم مقصدها يثور ويرد عليك بعصبية وخشونة:
سنظل صامتين.. من أجل أمل الخلود في هذه الأرض.
وأرضنا تغتصب..؟!
أرضنا لا تعي تشتتنا.
والتضحية؟
....................!
نظراتك تقتحم وحشة المكان.. يأتون إليك يشتّمون فيك روح التحدي والإصرار.. يبعدونك قليلاً.. تقف في وجههم كسياج.. يخترقونك بكل سهولة ويأمرونك بالمغادرة بعيداً.. هكذا أنت أيها الإنسان! تريد أن يكون لك أمنية بلون المطر تناشدهم بأن يبقوك على هامشها البعيد تتلحف بالليل.. وتتنفس الغبار وتتوسد التراب لكنهم منعوك من البقاء حتى على ذلك الهامش.. وحينما نطقت أمام الحشد:
إلامَ لا نبقى أوفياء لأرضنا وأنفسنا؟!
حاصرتك وجوههم بقسوة.. ونهرتك أعينهم بشراهة.. أشرت بيدك السمراء إلى كل ما حولك، وطلبت منهم أن يأخذوا حق هذه الأرض وحق أمثالك من المشردين.. أجابوك بكلام جاف خارج عن دفتر انتصاراتهم.. وردت عليك أرضك بصمت مشوب بالحيطة والحذر، أما تلك التي تركن جارة لغرفتك فقد اكتفت بيد وداع رخوة، وأنت تطيل النظر إليها بحسرة وتصبح على حافة بكاء كبير. لم تقاوم بكلمة تائهة في شفتيك أو تنهيدة عابثة تجر شهقاتها من أعماق قلبك، بل احتميت كذلك بالخرس، واتكأت على الخوف الخوف من أشياء أخرى ككائن يمدك بالأمان ورحلت إلى اللامكان.
لقد أصابوك بزلة قدم بعيدة.. وخلقوا لك مساحات ضيقة الامتداد.. وفواصل ساكنة متباعدة.. ولا زلت تبحث عن حظك العاثر منذ زمن في سبيل العودة إلى مكانك الصغير الكبير.. العودة كما كنت مخلوقاً مليئاً برذاذ الطفولة ومسرات الأرض وكلام الأجداد.. وقصص الحب التي قلتها كثيراً في تلك الممرات. تصمم بعد ذلك على المضي قدماً.. تنتعل الزمن.. وتبحث عن عشبة أمل قد تكون طافية على السطح تقيك الحرمان والجوع والتشتت.
هل تصبح المسافات البعيدة تعيسة حينما تلتصق بالضياع؟!
تتثاءب خطواتك.. وتسير ببطء سلحفاة مترقباً أي مصدر لصوت ينبعث من هنا أو هناك.. ترتاح قليلاً بين المحلات المتناثرة والأجساد شبه النائمة في الممرات المزدحمة التي ما زالت تحتفظ برائحة الحب وطعم اللقاء.. وتؤكد بحسك أن ابتعادك عن الأرض هو ابتعاد عن حرية العيش، وابتعاد عن حرية الكلام، وابتعاد عن حرية العشق. تشد رحالك مرة أخرى وتمضي مع أحلامك مثل ظل متناسق، وحينما تصل.. تمرّغ ذاكرتك بهذه المساحة الترابية الحميمة التي تشعر أنها خلقت لك وحدك.. تسري طمأنينة في أنحائك عندما تشلح عباءة النسيان من على أكتاف عقلك.. وتعلن أن دائرة التشتت من هنا قد تكومت، ومن هنا انمحت لغة التفاوض ومن هنا مات العنفوان.. وتبادلت مع أقرانك الألم.. وأصبحت علامة مسجلة في تاريخهم الحافل بالسواد.
تطل من شرفات الفضيحة.. وتفسح للذاتك بأن تمارس عشقها القديم تتأمل البيوت والأزقة والأصدقاء النائمين تحت قبعة العتمة.. وتتحسس أنامل البيوت الرطبة.. تتدثر بلحاف ذاكرتك.. وتغفو للحظات.. تستيقظ على صوت صراخ هواء.. وطائر ينكس دموعه المنسدلة على خديه الدافئين.. تقوم كالمفزوع من حلم تحمل في يدك اليمنى نقطة ضوء والأخرى تحمل فيها قهقهة حياة.. وتبقى هنا مثل أفق أزرق يفترش غفوة الدروب.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved