الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th April,2003 العدد : 9

الأثنين 26 ,صفر 1424

مطالعات
عبدالله العروي في رواية «اليتيم»:
قصة خريف يحكيها رجل قتلته الوحدة وشاخ قبل الأوان
عبدالحفيظ الشمري

الكاتب المفكر المغربي عبدالله العروي يطل على القارئ العربي من خلال عمل روائي جديد وسمه بعنوان «اليتيم»، ومغزى هذه الاطلالة فيما يبدو هو إذكاء روح الفكر في رجل الشارع الذي تمر من أمامه العديد من الظواهر الاجتماعية.. تماماً مثلما يفعل بطل حكاية «الدار البيضاء» بدروبها التي تتقطاع في الشبه مع «البندقية» و«تريستا» و«جنيف» و«الإسكندرية».. بل إن هذه الشخصية المحلية تغرق في ضجيج العالم الصباحي في «زنقة باب مراكش»، ليصف لنا هذا الرجل حالة العباد في هذا الجزء الفريد من العالم الذي لا يذيع سر مفاتنه إلا للأصدقاء الأوفياء، والأخلة والمقربين.
ها هو «إدريس» يصف شاهد من شواهد «باب مراكش» «علية المرأة الكادحة.. تلك التي أمعن في أعماقها حينما قال: «عليه ما بك.. اسمك خفيف يشير إلى أي فتاة، لا إليك بالذات» ويضيف: «لم أذكر لها اسماً يهيج الذكرى»..
هي رحلة يقوم بها الرجل في أعماق الإنسان والمكان.. في زمن ساكن لا يتحرك.. عبق المكان يفضي إلى وصف خريف العمر الذي تبدد على وعد بالشفاء من هذه الآلام المربحة.. الوحدة الخانقة هي رمز ذلك العناء الذي يصفه على وجوه الخلق هنا.. في هذه الممرات التي تتشابه في تكوينها الإنساني إلى حد كبير..
حديث الذاكرة.. تزين بالمقولات
يفصح الكاتب العروي من خلال روايته «اليتيم» عن أمر يشده دائماً إلى قاع تلك الحكايات الموغلة في عتقها.. تلك النازة من مسامات الذاكرة الصلدة حيث تتوارد تلك الأحداث على هيئة افصاح يرتبط دائماً بالتوق إلى الخلاص من جحيم الوحدة والغربة والضياع.
حديث الذاكرة هذا ينبعث من هذا الانغماس التلقائي في آلام الغير.. فجميع هذه القصص والحكايات مسنودة إلى هؤلاء الذين يقيمون على قارعة حزن الراوي:
«سكنت بنت المعلم المكناسي مرتين في الدرب، ثم حكت لي قصتها وهي واقفة، قصة حياة كلها بكاء وندم، اشغال منزلية وانتظار..» (الرواية ص 21).
ذاكرة تتسع لهذا العالم الذي يشغل حياة «إدريس»، عالم البسطاء الذين لا نستطيع أن «نفلسف» حكايتهم، أو نهيل عليها من خوارق الصور ما يجعلها عالماً يفوق حالة الحكاية المألوفة.
ها هم الشخوص يهذون، يقولون، يستعيدون كل شارة واردة في إضمامة حياتهم العابرة إلى الفناء.. مقولات تزينها الذاكرة على نحو ما يرد في هذه الفسحة التي ينظر فيها «الراوي» من خلال المطار عمق العالم الذي يتماوج أمامه إلى خلية مصغرة من العالم الذي يحلم به دائماً ذلك المتمثل بالخروج من الوطن دون مضاعفات الآلام الممكنة على القلب.
حديث شاق، وأحداث أليمة.. ذكريات يعيد القلب فعلاً إلى بئر الفراق ليأخذ «إدريس» زمام المبادرة. ليفتش وبمهارة قد يحسد عليها عن أسرار هذا العالم الذي يحيط به.. عالم الشارع المغربي الذي يحمل في ذاكرته حكايات التاريخ كاملة غير منقوصة.. هي رحلة للبحث عن معاضد جدلي يجعل المقولات تفاسير ممكنة لنزف الذاكرة التي تصف الإنسان على نحو محير.
العروي ينحاز في شخوصه نحو الألم
لا تجد صعوبة تذكر في كشف حالة الألم التي يعيشها شخوص رواية «اليتيم» هؤلاء الذين أثخنت حراب الزمن المر جراحهم، زادتها ألماً لاعجاً، وهماً مطبقاً يفوق في فواجعه:
«لا تأتِ وحيداً.. البندقية لا تحتمل الوحدة، ولا تشفي من الوحدة، إنها تزيد من كآبة الكئيب، وشؤم المشؤوم».. هي فواجع يقتنصها الكاتب ليضمها في ايقاع سردي متسارع، فليس صعباً أن يصف لك أي عربي بعض منغصاته الكبيرة، لكن أن يتفنن هذا المخلوق في تقديم لواعجه على هيئة خطاب إنساني معبر فإنه عين الإبداع، فالقضية لدى «إدريس» في هذه الرواية ليست مجرد حكاية تحكى إنما هي شحنة من عقلية تستنطق المخبوء، وتفتش في خبايا الذاكرة عن قضية هذا الماضي الذي يسكن اهتمامه منذ الوهلة الأولى لعودته إلى أرض البلاد محملاً بالهزائم وبجراح الغربة التي كابدها حتى أن هذه اللواعج لم تعد غارقة في بحر النسيان إنما ظلت شاهداً واضحاً على حجم معاناة الإنسان الكادح.
التاريخ لم يعد هو ذلك المشهد المغادر دائماً كالمسافرين الغرباء إنما هو ضيف مقيم، و«زبون دائم» كما في هذه المقاهي في مدينة «الدار البيضاء» الحابلة بالتناقضات والأوهام والمفارقات، تماماً مثلما يجلس «إدريس» أمام «مارية» في مطعم الاسباني.. كأن هناك ترابط عضوي فاعل بين حالة «اليتم» التي وسم فيها الكاتب «العروي» روايته وبين هذا الحزن والألم الذي يسد منافذ التفكير.. لتتحد في هذا السياق هواجس الممكن الواضح «المكان» بخيالات المستحيل الوعد بزمن أفضل، ففي هذا التجاذب رؤية استشرافية لالتقاط مفردة «دوام الحال» تلك التي لم تتغير منذ أن غادر «إدريس» البلاد وعاد، وحتى عودة «مارية» بعد غيابها منذ خمسة عشر عاماً، فلم يطرأ أي تغير بل ظلت الحالة منافية لمقولة مشهورة «دوام الحال من المحال»، لتزول الحالة اليأس والاحباط على هذا النحو الذي يقتفي أثره الكاتب ويورده على هيئة حوار طويل بين الشخوص، في هذه الرواية حتى أنه وفي الجزء السابع والعشرين يقف عن معضلة الكاتب الشخصية تلك التي يلخصها بالليل والكتابة والكاتب واللغة.
خطاب الفلسفة.. معضلة الإنسان الكاتب
ينصرف عبدالله العروي ومن خلال الجزء الثاني من روايته «اليتيم» إلى اقتفاء حساسية الخطاب الفكري ذلك الذي يبزغ من حسابات عقلية صرفة تذهب دائماً في أعماق المجهول الموحش.. وحدها لغة الكاتب الرصينة من تبحث في هذا الجانب لنراه وقد زاوج في رحلته نحو العقل بين حقيقة الإنسان تلك التي تتوارد على لسان الراوي الآخر والذي لا يكف بين فينة وأخرى عن ترديد مقولته «يقول أبي»، لنراه وقد تكفل بتوسيع خصوصية هذا الخطاب ليجعله معاناة عامة تتداخل فيه عدة فعاليات أهمها (الإنسان، والمكان، والتاريخ، الحكاية)، فالإنسان يظهر على هيئة «إدريس» ومن يأتي بعده من شخوص، وهذا الحشد الذي يظهر على مسرح الأحداث وكأنهم شهود المرحلة التي يعيشه «البطل» الذي لم تعد تجدي معه كل المحاولات.. حتى أننا لنقرأ مشهد الهزيمة ولا سيما الحزن على وجه رجل يدمن الهواجس، ويداوم الجلوس في المقابر على نحو ما فعلنا حبيبنا «إدريس» الذي اكتشف ولكثرة ما ارتاد المقابر أن العالم من حوله أقزام كان يسمع عنهم القصص عندما كان صغيراً.. فهو كشف ينير الطريق ويضيء نهاية هذا الإنسان الذي نعلق بظاهرة «الأمل الكاذب» أن تصبح الحياة في مدينته أكثر فألاً، وأقل حزناً على أقل تقدير.
تبقى رواية «اليتيم» للعروي نموذجاً للبوح الذاتي الذي يزاوج بين عدة متطلبات كتابية، بين توثيق واستقصاء، وبوح ومشاهدات، ونعلق ببعض الهواجس المعاندة على نحو ما يقال عنها «آمل كاذبة» لا زال «البطل» فيها مغرماً بتخيل الأمور التي تكشف زيفها سريعاً ليعود من حيث بدأ توصيف حالته الشاقة.
إشارة:
* «اليتيم» (رواية)
* عبدالله العروي
* المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب
* الطبعة الأولى 2001م
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved