الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th July,2003 العدد : 22

الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1424

السينما والولع بها
عبد السلام العجيلي

أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا، من جيل اهتدى إلى المعرفة عن طريق القراءة لم أجد في القراءة المعرفة فقط، بل لقيت المتعة والفائدة أيضا. كانت هناك إمكانات للوصول إلى المعرفة عن طريق الاستماع إلى الأحاديث الشفهية من أهلينا وكبار الناس حولنا، إلا أن القراءة كانت أمرا آخر. وتتالت الأيام على جيلي والأجيال المقاربة له فانضم إلى المعرفة والمتعة والفائدة التي كنت نحصل عليها بالقراءة ثم بالاستماع ما أصبحنا نحصل عليه من هذه الأمور الثلاثة بالمشاهدة. مشاهدة المسرح، ثم ولاسيما مشاهدة السينما. أخذنا بنصيبنا من هذه الوسيلة الجديدة بقدر ما استطعنا إلا ان القراءة، بالنسبة لي على الأقل، ظلت هي المفضلة في اجتلاب المعرفة والالتذاذ بالمتعة والحصول على الفائدة.
بالنسبة لي، أقول. ومع ذلك لست أنكر ولعي شخصياً بالسينما في صباي وشبابي إلى أول كهولتي كنت أحيانا أرى ثلاثة أفلام يومياً وحين كنت عضوا في مجلس النواب في بلدنا سورية، في نهاية الأربعينيات من القرن الفائت، كنت أرحب بدعوة مدير المطبوعات في ذلك الحين، وكان هو الحاج رشيد الملوحي، لحضور عرض الأفلام عليه لرقابتها قبل ان تعرض على الجمهور. فتلك الدعوة كانت تتيح لي أن أنعم برؤية الأفلام الجديدة، حتى التي يحكم عليها الحاج رشيد بمنعها من العرض. وهذا يسوقني إلى رواية بعض وقائع مرافقتي صديقي مدير المطبوعات ذاك فيما يلي.
كان الحاج رشيد، رحمه الله، أديبا متمكنا، كما كان إنسانا طيبا. كان أكبر مني بسنوات عديدة، وكان بدينا عظيم الكرش، مولعاً بالطعام ودائم التدخين للشيشة، أعني الأركيلة. أصحاب دور السينما الذين يعرفون نقاط ضعفه كانوا، حينما يعرضون عليه فيلما لمراقبته، يهيئون له الأركيلة ويكثرون له من صحون الطعام التي ما ان يلتهمها حتى يتملكه النعاس ويستسلم إلى النوم، وبهذا تمر عليه بعض المناظر التي قد لا تجيزها الرقابة، ويوافق حين يستيقظ على الفيلم بمجمله، وأحسب ان هذا كان أحد أسباب دعواته الدائمة لي إلى حضور عرض الأفلام الجديدة، لعلي انبهه إلى مايمكن ان يغفل عنه مما يستحق المنع من عرضه على الجمهور.
في ذات يوم كان الفيلم المعروض للرقابة من تمثيل الراقصة المصرية تحية كاريوكا استسلم الحاج رشيد إلى النوم ومبسم الأركيلة في فمه، بينما ظللت أنا أتابع مشاهد الفيلم بالنيابة عنه، كان لابد ان تحتوي تلك المشاهد مناظر خلاعية بعض الشيء لن يسمح الحاج رشيد بمرورها، فيشترط حذفها من الفيلم ليسمح بعرضه للعامة. ولكن الحاج كان مستسلماً لرقدته. اقترب مني صاحب دار السينما وقال لي هامساً: أرجوك لا تنبه المدير إلى هذه المناظر التي ان حذفت خسرنا نصف رواد دارنا: لم أملك إلا أن ابتسم. لم أكن في طبعي بتشدد الحاج لأرى ان هذه المناظر تستحق حقا الإلغاء وحين انتهى العرض واستيقظ الحاج رشيد وجدتني أعطيه رأيي بأن ليس في الفيلم ما يستحق الاعتراض، وهكذا رقصت تحية كاريوكا للمشاهدين بكل الحرية وبكل موهبتها الفنية!
وفي مرة أخرى حضرت مع الحاج رشيد عرض الرقابة للفيلم المشهور «انا وملك سيام» وكان فيلما رائعا من كل الوجوه لم يجد المدير ما يعترض عليه فيه فسمح بمشاهدته. إلا ان بعض الصحفيين، ممن كانوا يشتكون من معاملة مدير المطبوعات لهم، وجدوها فرصة للاساءة إليه، فكتبوا في جرائدهم ينتقدون مديرية المطبوعات لسماحها بعرض فيلم فيه تمجيد للاستعمار وتغطية على معاملته السيئة للشعوب الشرقية. استدعى وزير الداخلية الحاج رشيد ليسأله عن الأمر فاتصل بي هذا وقال لي: أرجوك ان ترافقني في مقابلتي للوزير. أنت الذي راقب الفيلم، وليس أنا، فعليك ان تحميني مما يمكن ان يلحق بي في هذه الحكاية، ورافقته حقا كما طلب وقبل الوزير شهادتي التي بينت له فيها دواعي حملة أولئك الصحفيين على الرجل الطيب والمستقيم صديقي الحاج رشيد، فانتهى الأمر بسلام.
هاتان واقعتان حدثتا أيام فترة عملي النيابي، أعني أيام شبابي، وتعود بي الذاكرة الآن إلى قبل تلك الفترة بكثير، إلى أيام صباي كنت في سن الحادية عشرة حين اتممت دراستي الابتدائية، ولما لم يكن في الرقة، بلدتي الصغيرة، مدرسة ثانوية فقد انتقلت إلى حلب لأتابع تعليمي في مدرستها الثانوية الرسمية الوحيدة آنذاك. في كل أصيل كنت أخترق شارع الخندق الرئيسي في مدينة حلب، في انصرافي من مدرستي إلى بيت عمي حيث كنت أقيم ضيفاً عنده في أول سني دراستي تلك، أهم دور السينما كانت في ذلك الشارع. كنت أتوقف طويلا في مدخل سينما روكسي آنذاك لأمتع ناظري بالصور المعروضة في ذلك المدخل لبعض مشاهد الفيلم المعروض، في انتظار ان يأتي يوم الخميس وأقبض من وكيل أبي مصروفي الاسبوعي الذي يسمح لي ان أشاهد فيلما واحدا في الاسبوع.
في إحدى وقفاتي الطويلة في المدخل خرج قاطع التذاكر من وراء شباكه وتقدم إلي وأنا أتأمل الصور في لوحة الإعلانات وقال لي: إنه فيلم جميل، هل تحب ان تشاهده؟ قلت: نعم، ولكن... ولم أكمل جملتي. قال: يمكنك ان تدخل لتراه الآن من دون ان تقطع تذكرة، مجانا، سألته مستغربا: مجانا؟ كيف؟ قال: اسمع يابني.. لأول مرة في هذه المدينة نقيم حفلة سينما للسيدات خاصة، هي هذه الحفلة التي يبدأ العرض فيها بعد قليل. أنت صبي صغير ولن تستحي النساء من وجودك بينهن. تدخل الآن وتجلس على كرسيك لتشاهد الفيلم. وحين يشعل الضوء في منتصف العرض تقوم من الكرسي، وتحمل ابريق ماء تجده هناك، وتدور بين السيدات لتسقي العطاشى منهن. تفضل وادخل.
حدثت هذه الواقعة في زمن بعيد كما أسلفت القول، قبل ماينيف على سبعين عاما في ذلك الزمن لم تكن نساء حلب يسفرن عن وجوهن بأية حال أمام البالغين، بل كن يخفين تلك الوجوه وراء براقع ثخينة تصعب الرؤية من خلالها ولابد من القول إني كنت دوماً أعطي مظهراً لأقل من سني الحقيقية بكثير، بدوت لبائع التذاكر بلاشك اني في الثامنة أو التاسعة من عمري ومهما يكن فقد صدمت بهذا العرض الذي اقترحه ذلك البائع علي. هذا الرجل لا يعرف من أكون كيف يجرؤ ان يطلب مني ان أعمل خادما أحمل ابريق ماء وأدور به بين النساء؟!
هززت رأسي بعنف علامة رفض لاقتراح مخاطبي وسويت كتبي المدرسية التي كنت أحملها تحت ابطي وتهيأت للخروج من المدخل إلا ان الرجل لم يتركني، أمسك بكمي وهو يقول: ياولدي، ليس من عيب فيما أطلبه منك، ثم إننا سنعطيك نصف مجيدي مكافأة على معونتك لهؤلاء النساء العطاشى ألا يرضيك هذا المبلغ؟ نجعله مجيديا كاملا.. بل مجيديا ونصف المجيدي.. ماذا تقول؟
لم أكتف لهذا الالحاح بهز رأسي بعنف علامة الرفض القاطع، وأنا أسمع الرجل يساومني بدفع مبلغ مالي بعملة تلك الأيام على قبول عرضه المهين، بل جذبت كمي من بين أصابعه وخرجت مهرولاً إلى الشارع، والدم يغلي في رأسي لما أحسست بأنه استصغار لقدري. لم تهدأ أعصابي إلا حين بلغت منزل عمي ووجدت هناك اثنين من أولاد عمي كانا مثلي يدرسان في الثانوية. كنا في صف واحد، إلا أنهما كانا أكبر مني بثلاثة أعوام على الأقل رويت لهما وقاحة ذلك الرجل وعرضه المشين عليّ بأن أقبل أن أكون خادما لنساء حفلته لقاء مجيدي ونصف.
ضحك ابنا عمي كل الضحك وقال أحدهما، ابن عمي حسين: يا بائس الحظ.. مجيدي ونصف، ورؤية فيلم سينمائي مجانا، وتجوال بين النساء السافرات عن وجوههن وشعورهن وصدورهن، وترفضها نعمة؟! أنا مستعد ان أتنازل عن كل مصروفي الاسبوعي لأشاهد ما خسرت أنت مشاهدته!
لم آسف على كل حال على ما سماه حسين خسارة لي، عجبت أنا في ذلك الحين من توجعهما لي بسببها كل ما فعلته أني رجعت إلى كتبي التي كنت مولعا بقراءتها منذ ذلك الزمن، مكتفيا بما وفرته تلك الأسفار آنذاك لي، ولاتزال إلى اليوم توفره، من معرفة ومن متعة ومن فائدة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved