الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th July,2003 العدد : 22

الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1424

عشت في حياتهم
أحمد الصالح العراف الذي لم يسقط 22

في هذه الحلقة عن رفيق دربي «أحمد الصالح» الشاعر «مسافر» سيكون الحديث عن رحلة العودة من القاهرة وما مر بها من مصادفات طريفة:
كانت ميزانية رحلتنا إلى القاهرة «مائتين وخمسين جنيهاً» غطت مدة اقامتنا لما يقرب من شهر وعشرين يوما، وسكناً مميزاً في حي «الزمالك» ودعوات مستمرة لأصدقائنا الجدد من الكتاب والشعراء، ومجموعة من الكتب تزن حوالي مائتي كيلو، ولذلك حينما كنا في مطار القاهرة نتأهب للعودة لم يكن معنا جنيه واحد، وقد انقذنا الأستاذ «حمزة عابد» المستشار الثقافي والتعليمي في القاهرة حينذاك، فتصادف ان ذهبنا للسلام عليه، بحكم انني كنت أعمل معه في وزارة المعارف، وهو من الرموز المهمة في حياتنا المعاصرة، فطلب منا ايصال كرتون صغير للأستاذ «عبدالوهاب الواسع» ورحبنا بذلك وتفضل بأن أرسل معنا سائق الملحقية لايصالنا للمطار، وكان في وجود شخص من مكتب المستشار الثقافي له صفته الرسمية، مما سهل مهمة الوزن الزائد، فحينما سأل مسؤول الخطوط عن الوزن الزائد بما يعادل مائتي كيلو، قلنا له ان هذه كتب وليس معنا أي مبلغ، ثم ان هذه الكتب من طرف مكتب المستشار الثقافي، وقد أمّن على كلامنا السائق الذي قلنا له ابلغ الأستاذ حمزة بالواقعة، وهكذا تم تمرير هذه الزيادة في الوزن، لكن المفاجأة حدثت في مطار «الرياض» إذ كيف يمكن تمرير هذه الكتب من الرقيب الإعلامي، كان في استقبالها حشد وافد أكثره من أسرة «أحمد الصالح» وعلى رأسهم عمه المربي الرائد الشيخ «عثمان الصالح» الذي كان في وجوده اضافة من الاهمية لنا، لكن المنقذ الحقيقي لتمرير «كراتين الكتب» هو «العسل» إذ ان بعضاً من القادمين على الطائرة جاءوا من القاهرة بكميات من العسل، وقد تسرب جزء منه على الكراتين، وحينما سألني المرحوم «إبراهيم المسلم» المسؤول عن مراقبة المطبوعات بالمطار عما بداخل هذه الكراتين، فضحكت وقلت له عسل وكان العسل قد أصاب كل ما حوله، وكان المطلوب التخلص بسرعة مما أحدثه العسل من لزوجة طبعت على كل الأمتعة، لكن جزءاً من كتاب صغير كان يطل من قعر أحد الكراتين، ولم يكن ذلك الكتاب إلا ديوان «تعليق على ما حدث» لأمل دنقل، فسارعت بدفنه في جوف الكرتون، وقلت في نفسي يُصر «أمل» على ان يفضحنا، كما فضحنا في جمعية الأدباء بالقصر العيني، أو هو بمعنى آخر يصر على ان يكون معنا في كل لحظة، حتى ساعة وصلنا كما لو قد جاء معنا إلى هنا. وكان «إبراهيم المسلم» يراقب المشهد ويضحك عارفاً بما أدبره، وجاء صوت الشيخ عثمان الصالح متهدجا، «أحمد وعبدالله أدباء وصحفيون لابد ان يأتوا بالكتب، رحلتهم من أجل الكتب، الله يصلحك» وهكذا تتكرر المعجزة، لتصل معنا مجموعة من الكتب من أهم ما صدر في فترة الفوران الثقافي في الخمسينيات إلى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وفيها اهداءات من نجيب محفوظ ويوسف السباعي وغيرهم.
حينما تفرقت بنا سبل الحياة، ظل «أحمد الصالح» هاجساً ملحاً في ذاكرة أيامي، لم يغادرها، انشغلت بأعمال مشروعي النشري، بشكل محموم لم يتح لي الالتقاء بأعز رفاق دربي وباعد بيني وبينهم، لكنهم كانوا دائما في وجداني، وكان عزائي ان مكاني لا يزال في قلوبهم، وحينما أبادرهم الاتصال، أو حينما يفعلون ذلك احس اننا لم نفترق، لم تكن هناك نوازع العتبى المتكلفة كان حدس المحبة وصدق النوايا طيف المحبة الذي لا يخبو، تكرر ذلك مع كثيرين منهم، لكنني أدين لواحد من أولئك بأنه مشعل ذلك الوجد، وواصل حبل المودة والتواصل «حمد القاضي» جامع الشتات، وموحد قلوب المتباعدين، الذي يعيد تواصلي مع من فرقت بيني وبينهم سبل الانشغال بأمور الحياة، المعادل الآخر «لأبي بدر» صديق آخر لا يفتأ هو الآخر ان يجمع رموز الشتات هو «أبو يعرب محمد القشعمي».
حينما عدت إلى أحمد الصالح وعاد إلي بعد سنوات لم نلتق فيها، كأننا لم نفترق، كأنني تركته يوم أمس، أو كأنني وهو نسير في شوارع القاهرة، أو كأننا لازلنا نجلس سويا في منزله ومعنا صدي قنا الراح ل الشاعر «محمد سعد المشعان» اقرأ اشعار «أمل دنقل» ومحمد المشعان يتهكم بطريقته المألوفة في السخرية والتهكم، وأنا أقرأ مقتطفاً من قصيدة «فقرات من كتاب الموت» من ديوان «تعليق على ما حدث»:
«كل صباح..
افتح الصنبور في ارهاق
مغتسلاً في مائه الرقراق
فيسقط الماء على يدي.. دماً!
......
وعندما..
اجلس للطعام.. مرغما:
ابصر في دوائر الأطباق
جماجماً..
جماجماً..
مفغورة الأفواه والأحداق!!»
فيُعرض «المشعان» بهذا الشعر والشاعر، وينتقده بأسلوبه المعهود.
حينما بدأت مشروع النشر، كان ديوان الشاعر أحمد الصالح «مسافر» «عندما يسقط العراف» أول كتاب انشره، الطبعة الأولى عام 1398ه/1978م» تسلمت نصوص القصائد وطلبت من الفنان «مصطفى حسين» الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير المعروف في مؤسسة أخبار اليوم وهو الآن نقيب التشكيليين في مصر ان يضع شكلا للديوان، وأخذ المادة لقراءتها ووضع التصور الفني، فعهد إلى خطاط لكتابة القصائد، ثم رسم عناوينها ووضع لبعضها رسوما واختار لون الورق وحجم الديوان، ورسم الغلاف، وكان «مصطفى حسين» هو الذي اختار اسم دار المريخ ورسم «اللوجو» الشعار المميز للدار، وكنت أتناقش معه في هذا الشأن، وفي أقل من خمس دقائق كان قد انتهى من رسم الشعار واختيار الاسم وقد كان.
ولأن هذا الديوان، هو الأول للشاعر، فقد فكرت في تقديمه للقراء، من خلال ناقد معروف يقدمه ويقول رأيه فيه، ووقع الاختيار على الناقد الراحل «جلال العشري» وكان حينها من جيل نقاد الستينيات الذي أفرز مجموعة من أهم النقاد والمبدعين، وبدأ اسمه يلمع بين نقاد الأدب، ولمن ليست لديه هذه الطبعة من هذا الديوان، والتي أصبحت «نادرة» اقتطف جزءاً مما قاله الناقد جلال العشري في هذه المقدمة وكان عنوانها «هذا الشاعر.. المسافر ابداً»:
«الفطرة والفكرة.. هذان هما الجناحان اللذان يحلق بهما هذا الشاعر المسافر أبداً، عبر الزمن الغارب، عبر شفتي الجرح، عبر مواجع العشاق، عبر الفرح الذبيح ورحلة الجراح..
كأنما يبحث وسط زمجرة الأنواء عن اللؤلؤة ذات الأصداف السبعة، وكأنما يفتش في طيات الحب الكثيفة عن أحضان شمس دافئة، أو صدر قمر مضيء.
وهو في رحلة سفره الأبدي، يرسو بقاربه كل حين عند شاطئ الأعراف، يصغي لدقات المجهول، وهو يعزف أنشودة الحب والحرية والحياة، «الحاءات» الثلاث التي جعلها مدارا لقصائده الشعرية، تلك التي يحاول فيها ان يستبق الرؤية البصرية المحدودة، إلى الرؤيا الحدسية غير المحدودة، معلنا سقوط العراف الذي كان يوما مبشرا بميلاد الانسان الذي يكونه يوما بعد يوم.
على انها ليست الفطرة العفوية الساذجة التي تجعل من قصائد صاحبها مرايا عاكسة لما حوله من أشياء ومن حوله من بشر، ولكنها الفطرة الواعية المجربة التي تقف به فوق أرض التجريب والممارسة، جاعلة من تلك القصائد نظائر مشعة لمعطيات الواقع والحياة.
وليست كذلك الفكرة المذهبية المستبقة، التي تعتقل صاحبها في أطر تقليدية جامدة بل وهامدة، ولكنها الفكرة المتفتحة على كل جديد وجريء، حتى ولو ألقت بشاعرها على الشاطئ المهجور الذي قد لا يفضي إلى شيء!
على انه إذا كانت الفطرة والفكرة سويا، هما جناحا هذا الشاعر المسافر في رحلة بحثه عن الطريق الجديد لشعره الجديد، فإن قلب الطائر الخفاق هو البيئة.. بيئة الإنسان العربي المؤمن بكل ما تحمله على كتفيها من رواء.. وراء العقيدة ووراء التراث..
من هنا.. لا من هناك.. ولا من أي مكان آخر، كانت رحلة هذا الشاعر المسافر، هي رحلة القارب المزود بأصالته، المتجه بشراعه صوب الحداثة والمعاصرة».
كما أتذكر ان «أحمد» قد ساعدني في تمويل تكاليف الطبع، حيث استلفت منه مبلغا لا اتذكره، ولا أتذكر هل اعدت إليه هذا المبلغ، فقد كانت علاقتنا تسير على هذا النحو التلقائي المتآخي.
والآن يأتي السؤال الذي ربما يطرحه المقربون مني وربما يدور في ذهن أحمد نفسه وهو: لماذا لم اكتب عن شعر أحمد الصالح، واكتفى دوري بنشر شعره في الملحق الأدبي بجريدة الرياض، ومن بعد ذلك في أول ديوان له؟! لقد قفز في ذهني وانا أكتب هذه الأسطر قبل الاجابة، مثال دار في ذهني، وهو انني كمثل أهل مكة أو جدة، ممن لم يقوموا بفريضة الحج أو العمرة حتى آلان، لشعورهم ان مكة قريبة منهم وانهم فيها وفي أي وقت يتيسر عليهم القيام بذلك، فلديهم أمل الحياة الذي يشعر به كل إنسان في هذه الحياة لكن الجواب الجاهز في ذهني منذ أمد بعيد، هو ان أحمد وشعره، هما جزء مني، هو يكتب الشعر، وأنا اكتب النثر، ولم يستقر في تفكيري حتى الآن ان أُباعد بينهما، وفيما يُشبه الاعتراف، وللذرائع التي سقتها، فإنني اعترف لأحمد وتحت طائلة هذه المشاعر انني مسؤول أمام نفسي عن هذا التقصير، لقد كنت أطلب من أحمد حينما تحين المناسبات دواوين شعره فأبعث بها إلى الآخرين، لشعوري انني مازلت في مكة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved