الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th July,2003 العدد : 22

الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1424

الذاكرة النسوية
قراءة في رواية وجهة البوصلة 2/1
حسين المناصرة

«الآخرون: علامة، ثامر، حمود، أبي، عمي. كل واحد بلون.. كل منهم يقف على حافة البئر فمن منهم سيمد لي الحبل.. لأصل إليه.. أريد أن أشعر بلذة الوصول إلى كبده..»
«صوت الرواية/ البطلة، ص123»
تبدو الكتابة عن رواية «وجهة البوصلة» لنورة الغامدي تحتاج إلى غير قراءة، أو أنها تحتاج إلى قراءة عميقة بطريقة أو بأخرى، حيث تؤكد الغامدي من خلال هذه الرواية على جماليات التغلغل إلى العوالم الجوانية، أو أغوار النفس العميقة لبطلة روايتها وراوية أحداثها، حيث تنتهي الرواية الواقعة في مئتين وثمانين صفحة دون أن نعرف اسم هذه البطلة، بل يمكن التوقع بأن اسمها «ناريمان»، والتسمية بحد ذاتها غير مهمة، مادامت الرواية كلها تنشىء بناء فعليا لسيرة الراوية/ البطلة، متداخلة من خلال ضمير المتكلم مع أصوات أخرى عديدة من العالم المحيط بها أو «الماحول»، لعل أبرزها صوت البطلة الأخرى المشابهة للراوية وهي شخصية «فضة»، لتغدو شخصيتا الراوية/ البطلة وفضة في نهاية المطاف شخصية واحدة لما بينهما من أشياء كثيرة مشتركة.. مع وجود فارق واضح يكسر هذا التشابه، وهو أن الكاتبة لا تتحرج من ذكر بعض القضايا الخاصة واللافتة عن شخصية فضة، خاصة في مجال جرأتها في التعبير عن علاقتها غير الشرعية بثامر انطلاقا من كون العالم كله من وجهة نظرها «قليل أدب» «ص98»، وهذا الكشف يعود إلى بناء المفهوم الاجتماعي عن فضة بوصفها في النهاية «أمة بنت أمة» على عكس الراوية/ البطلة المحصنة بجذور أسرية واضحة، مما يجعل حياتها تتصف بالرصانة والمسؤولية على طريقة أنها «بنت عائلة»!! هذا ما تعبر عنه الساردة بوضوح في قولها على لسان الراوية البطلة التي تصور العلاقة الحميمة بينها وبين فضة على النحو التالي:«فقد اكتشفنا معا ونحن نتجاوز مرحلة من العمر أننا من عائلة واحدة، لكن بلونين متغايرين، ولهجتين مختلفتين.
وطبقة اجتماعية بعيدة كل البعد عن الطبقة التي تنتمي لها الأخرى..» «68».
تبدو الرواية من خلال الذاكرة النسوية التي تتولد من التجربة النسوية تحديداً، مسكونة بالصراع بين معاناة الواقع المأزوم بقيود كثيرة، وبين حلم العلاقة المغايرة المختلفة عن المألوف والعادي، من هنا تصبح الرؤية النسوية أساس السردية، ليس لأن الكاتبة امرأة فحسب، وإنما لكون جمالية الثرثرة السردية لا يمكن على أية حال من الأحوال أن تخرج من قلم مذكر، سواء اتفقنا مع التنظيرات النسوية أو اختلفنا، فالكتابة في رواية «وجهة البوصلة» تعني للمتلقي كتابة نسوية في تفاصيلها كلها، لأنها تكشف عن عالمين متناقضين ومتكاملين في الوقت نفسه، لأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر.
عالم ذكوري مهيمن «بكسر الميم الثانية»: ينقسم بدوره إلى مسربين: مسرب الغلظة، والبطش، والتناقش، وعقد البطالة الفكرية المتأصلة، ممثلا بشخصيات الجد العظيم، والعم الكبير «عبدالرحيم السبتي»، ووالد الراوية، وعبود السبتي/ وحمود عبدالرحيم السبتي، والدكتور ثامر الزبيدي.. وهذا المسرب مزواج، مثل السبتي وابنه حمود، أو مغامر في أجساد النساء بطرق غير شرعية مثل عبود السبتي وثامر الزبيدي.. ومسرب الأمان والحب ممثلا بشخصيات محدودة، لا تتجاوز «علامة» الشخص المحب للراوية، المختلف عن الذكور جميعهم، والعم «جبر» الفلسطيني الذي شردته الهزيمة فجعلته يجد في أرض السبتي علاقته الإنسانية الحميمة بالحياة، مما جعل منه شخصية مثالية في العطاء والألفة، وخاصة في تعامله مع أفراد عائلة السبتي، تصفه الراوية بقولها:«خلق فقط ليسمع، وليقول قليلا بل أقل من القليل ومع الأيام عرفت أنه هارب مثلي إلى هنا.. قادم من الأرض البعيدة.. من عبثية التاريخ ..«ص120»!!
أما العالم الآخر فهو عالم نسوي مهيمن «بفتح الميم الثانية» عليه، ينقسم أيضا إلى مسربين: مسرب النساء المستكينات، المستسلمات، أو اللواتي أجبرن على التعايش مع القيم والعادات بطريقة سلبية، بحيث غدون يتقن الثرثرة والخرافات، وكل امرأة من هؤلاء تحمل حكاية نسوية مليئة بالمعاناة، وخاصة شخصية فضة الجدة/ الأميرة الحضرمية التي غدت جارية في بيت السبتي بعد اختطافها خلال «معصار الأحقاف» فصارت مخطوفة الجان بالنسبة لأهلها، وقد افتضها عبود السبتي وداس بنعاله على وجهها، ولم يعترف بها بوصفها واحدة من أسرة السبتي إلا بعد أن أنجبت ابنيها من عبود السبتي يوسف وبركة التي غدت بدورها العمة بركة بعد أن مكثت عشرين عاما عانسا على ذمة السبتي، وماتت وهي عذراء، يراودها حلم لا يموت.. وهو كيف يمكنها أن تدوس بقدمها على رقبة «السبتي» في يوم ما من أيام عمرها «ص105»، وجميلة زوجة السبتي الأولى، وزينة بنت الرعيان «المجنونة» زوجة السبتي الأخيرة، وعذبة زوجة حمود.. ومسرب النساء المختلفات أو اللواتي حاولن أن يكن مختلفات مثل أم الراوية التي رفضت أن يتزوج عليها زوجها، فانفصلت عنه وهربت، ومثل الراوية وصديقتها فضة، كما أسلفنا.
ليس المهم تعرف خصائص هذين العالمين، لأنهما عالمان معروفان من خلال العادات والتقاليد التي تعطي دورا عظيما للرجل، وأحيانا كثيرة بطريقة سلبية، وتهمش دور المرأة بطريقة سلبية أيضا، مما يجعل من الحياة في ظل هذه الظروف حياة غير مستقرة أو آمنة، لأنها تؤمن بالعادات والتقاليد السلبية التي غالبا ما تكون مستمدة من تكوينات جاهلية على وجه العموم!!
تتداخل الأصوات في الست والثلاثين لوحة المكونة للرواية، بحيث لا تكتفي الكاتبة بإظهار صوت الراوية/ البطلة التي يبدو أنها تتداخل بطريقة أو بأخرى من ناحية التفاعل في البيئة الجنوبية مع حياة الساردة نفسها، وإنما تظهر الأصوات الأخرى فنرى صوتا واضحا لشخصية «فضة» البطلة الحاضرة الغائبة، التي تشكل أذنا مصغية لتداعيات الراوية، بحيث تصبح فضة في تصرفاتها لا تفترق كثيرا عن شخصية الراوية نفسها، خاصة أنهما، كما أسلفنا عاشتا الظروف نفسها، بل إنهما مرتا بالتجربة الحياتية نفسها في الدراسة في مدرسة واحدة، والحب لرجل واحد، والزواج بالإكراه من رجل واحد.. والفرق الأساسي أن فضة ماتت، وأن الراوية حية، بل إن غياب جثة فضة عند موتها يفضي بطريقة أسطورية أو خرافية إلى أننا أمام الراوية/ البطلة التي تصير فضة موتا وحياة.. تقول البطلة/ الراوية عن علاقتها بفضة:«فضة الوهم الذي يطوق أيامي.. أسألك.. هل أنت.. أنا..» «ص50» وتقول أيضا:« فضة تعيش حكاياتي برمتها.. حتى بعد موتها تسمعني ما كان يجب أن يكون.. وأنا ليس بمقدوري أن آخذ الوضع ذاته.. لكنني أسير خلفها كأنما أنا ظل يلاحق صاحبه، بل هو ذاته بينما الشخص المعني هو ظل لحياة لا يدري كيف دخلها.. بعد موت فضة ما عدت أعرف من أنا» «ص25» لكنها كما تقر رضيت بعد موتها أن تكتسح حياة فضة الماضية كلها، تقول:«رضيت أن أكتسح كل مكان كان لها.. سريرها.. ذاكرتها.. روحها.. «ص78».
يبرز الصوت الثقافي المتميز في شخصية «علامة» الذي يبدو أنه لا ينتمي إلى عالم البشر، من وجهة نظر السرد، كما أنه لا يرتفع إلى عالم الملائكة، بحيث يصبح هذا الصوت هو المنقذ للبطلة المعلقة في حياتها والمغتربة في داخلها، مما هي فيه.. تقول البطلة/ الراوية عن «علامة» في نهاية الرواية:«كم أحب الله.. الذي خلق من أجلي كائنا مختلفا بنكهة مميزة لا علاقة لها بالأرض ولا بالسماء.. ولا بالموت ولا بالحياة.. ولا بالجن ولا بالإنس» «ص281».
ويعد صوت «العم جبر» هو الآخر صوتا مليئا بالعطف والحكايات، وهو صوت مكسور لأنه اغترب عن وطنه «فلسطين»، فوجد العلاقة بالأرض والآخرين في البلدة معوضا عما يعانيه، حيث تتعاطف الساردة كثيرا مع هذا الصوت، إلى حد أنها تختزل من خلاله المأساة الفلسطينية كلها، يصف نفسه بقوله:«وها أنا أشبه فلسطين، قضية أثارت العالم، ثم هدأت بكذبة كبيرة اسمها «السلام»، رجل تتوالى عليه الأجيال، وكل جيل لا يلقن من سبقه سوى اسم «جبر» الاسم فقط.. كلانا.. منسي.. ورجل يموت مؤنسوه واحدا تلو الآخر، وهو معلق كالصورة القديمة في جدار الزمن » «ص 269270».
ثمة أصوات أخرى أزعجت الراوية/ البطلة، وسببت لها الاغتراب والضياع، منها: صوت «السادي الطيب» عبدالرحيم السبتي الذي بكى لأول مرة عندما ختن وهو في السابعة والستين من عمره، و«المستعمر الكلب» صياد النساء ثامر الزبيدي، و«الحذاء الغبي» حمود، وقاطع الطرق التائب عبود السبتي.. فأصوات هؤلاء الرجال تقليدية مليئة بأمراض التخلف والجشع، ومن ذلك ما نراه في صوت الطبيب ثامر الزبيدي الذي يتفاخر بانتهازيته في عالم القرية قائلا:«الرجال في القرى يكرمون الغريب برائحة التراب.. بالندى.. بالنساء اللاتي يتنافس على إطعامه..«» النساء هنا يتنافسن أيضا على زيارتي.. كطبيب مخلص من كل ألم يضاجعهن في الليل الطويل». «ص117» وتصفه الراوية/ البطلة أيضا بهذه الصورة السيئة المتداخلة مع صوته القبيح:«ضاقت عيناه، كان نذلا، وكانت فضة تعرف أنه «نذل»..والوحيدة التي لا تدري أنا، حذف على مرمى يده بحجر نحو «بومة» تطل برأسها من جذع نخلة.. تنهد وقال: ما أجمل المكان.. في المساء.. وما أجمل صباحاتي بطيورها. وما أروع فرح النساء بي وهن يتأملنني كأنني كائن هبط من العلياء..» «ص119».
وفي حال المقارنة بين صوتي ثامر الذي لم «تعصر قلبه أنة عشق صغيرة حقيقية وواضحة..» «ص38» وعلامة بوصفهما مثقفين، نجد الفرق شاسعا، حيث يعبر صوت «علامة» عن رؤية رجل مختلف، وقد مكنت الساردة هذه الشخصية من التعبير عن نفسها بحرية مطلقة، تصل أحيانا إلى أن تضع المتلقي في دائرة الملل من تكرار الأفكار المثالية التي يصعب تصورها في شخصية واقعية.. لكن هذه الشخصية تغدو ذات ذاكرة خاصة، ذاكرة ذكورية مختلفة تشير إلى التفرد بقدر إشارتها إلى صدق البحث عن علاقة إنسانية حميمة بالمرأة التي يخاطبها عن طريق الهاتف «الراوية/ البطلة»، يقول علامة عن نفسه :«أشعر أحيانا بغربة لدرجة أن كثيرا من الأصدقاء شككني في أمر نفسي، وبأني لست طبيعيا، فأنا لم أبك يوما، وربما كان ذلك بسبب رواسب طفولة قاسية.. أو تربية جادة» «ص15».
وقد استطاع هذا الصوت المنقذ أن يقدم بديلا لحياة جديدة تنقذ الراوية/ البطلة من أزمة كبيرة، عاشتها في أوضاع مأساوية تتمثل بهروب الأم وتركها لطفلتها المراهقة تعاني الغربة في بيت عمها، وفشل حبها الجنوني لثامر الذي يهمه من المرأة أن يغدر بها فيصطاد جسدها، فاستطاعت أن تحافظ على نفسها، وتتخلص من حبه.. كما فشل زواجها التقليدي الإجباري من حمود، حيث استطاعت أن تميت العلاقة به، وأن تسعى إلى أن تحرر نفسها منه في ظروف أسرية قاسية تحالفت ضدها، مما جعلها امرأة معلقة لا هي بالمتزوجة ولا هي بالمطلقة..
وكان موت صديقتها فضة كارثة أحاطت بها فجعلتها تعيش غربة مضاعفة، لأنها لم تعد تجد أذنا تصغي لها، كما أصغت لها فضة في حياتها وموتها.
نخلص مما سبق إلى أن الساردة استطاعت أن تقدم رواية متماسكة رغم هيمنة الثرثرة والتداعيات على بنيتها السردية، وأنها بالتالي استطاعت أن تكشف عن قضية نسوية، هي القضية التي تعالجها أكثر النساء، وهي قضية اضطهاد المرأة في المجتمع وتحويلها من خلال الاستلاب إلى امرأة ضحية تعاني الاغتراب والشلل الفكري، وتفقد الثقة بما حولها، لكنها هنا لا تصل إلى درجة العزلة أو الجنون، بل تعيد ثقتها بالحياة من خلال حنجرة الآخر وصوته المثقف الذي يعيد إليها الثقة بنفسها وبإمكانية التعامل مع الآخرين في سياق التوازن الاجتماعي الذي لابد من أن يتعلق به المثقف سواء أكان هذا المثقف رجلا أم امرأة!!
إن الذاكرة النسوية في هذا السياق ذاكرة التوازن والبحث عن العنقاء الجديدة التي تلد من عنقاء الدمار، فهل كان موت فضة هو بداية الحياة للراوية؟! أم أن موت العم السبتي هو البداية الحقيقية؟ أم أن الانفصال العاطفي عن ثامر، والشرعي عن حمود هو البداية؟ ربما كانت صدفة اللقاء بصوت علامة هي البداية؟!
إن الراوية/ البطلة حققت في نهاية الرواية وجهة بوصلتها، فكانت علاقتها بعلامة هي البداية في الحياة الحقيقية من وجهة نظرها، لكنها حياة لا تخلو من التخوف في الباطن كما يبدو من الحوارات بينهما!!.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved