الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th August,2006 العدد : 168

الأثنين 4 ,شعبان 1427

أساطير العنف الجديدة (4)
فاضل الربيعي *

عندما حدث الهياج الجماهيري صبيحة الرابع عشر من تموز يوليو 1985م صاحبه وتلازم معه نوع من التمثيل الجماعي الذي انخرط فيه عدد هائل من المحتفلين الساعين إلى رؤية أنفسهم كأبطال لا كمجرمين الذين زجُّوا بأنفسهم في قلب المشهد السياسي من أجل أن يقرنوا أنفسهم بحدث ثوري استثنائي وخارق. كما صاحب هذا الهياج شعور طاغٍ منفلت من أي نوع من أنواع السيطرة، وكان من المستحيل في خضم التطورات المتسارعة ضبطه أو تقييده، بأن الجماهير يمكنها في هذه اللحظة أن تعيد تمثيل الواقعة الأولى: التهام الأضحية جماعياً. ولكن هؤلاء وفي اللحظة التي اندفعوا فيها من أجل لعب دور الأبطال انقلبوا بسرعة مذهلة إلى مجرمين حين اقترنت أفعالهم حتى العفوية منها بأعمال عنف راح يتشظى في كل مكان. لقد عجز السياسيون العراقيون عن تقديم أي تأويل مقبول لواقعة مطاردة الجماهير لرئيس الوزراء العجوز نوري السعيد في اليوم التالي للثورة، حتى مع حدوث صدمة وجدانية هائلة في أوساط البسطاء من العراقيين الذين هالهم ما سمعوه من روايات عن طريقة إعدام العائلة المالكة.
في اليوم التالي للثورة، وبينما كان المجتمع بأسره يعيش في قلب الصدمة، كان نوري السعيد الهارب من قبضة الجماهير الهائجة يتنكَّر في ثياب امرأة ويحاول عبور نهر دجلة (متجهاً صوب السفارة البريطانية)، بينما الحشود الجماهيرية الهائجة تفتش عنه في كل زاوية من بغداد، وليقع أخيراً في قبضتها. كانت في المشهد كل العناصر اللازمة للحكاية الشعبية: ليلى والذئب (وكل العناصر اللازمة أيضاً للنزاع المرير بين الجريمة والبطولة). ففي حين كان الجمهور الهائج ينظر إلى رئيس الوزراء بوصفه (ذئباً)؛ فإن صورة هذا الجمهور تراءت في أنظار رئيس الوزراء العجوز بوصفها صورة الذئب؛ الذئب ذاته الذي اقترب من ليلى أخيراً.
في تلك اللحظات اتسم سلوك الجماهير بالهياج؛ أي بانعدام أي أثر للسيطرة عليه. ولذا حدث تحول مذهل في الأدوار، وبدلاً من أن يرى الجمهور الهائج رئيس الوزراء في صورة ذئب كان رئيس الوزراء الهارب هو مَن يرى، على العكس، ذئباً جماعياً هائجاً في هيئة جماهير لا مبرِّر لغضبها. وبدلاً من أن تستوقف هذا الجمهور الدلالات الرمزية الفظيعة لتنكُّر رئيس الوزراء في ثياب امرأة (فتاة) كما في الحكاية الشعبية تماماً (وذلك عندما نقوم بدمج صورتي الذئب والفتاة) فإنه مضى قدماً في العمل الذي انتدب نفسه له. لقد بادر الذئب الجماهيري لافتراس الفتاة، وانتهى الأمر بتحوّل البطل إلى مجرم. مَنْ يبادر إلى التهام الأضحية يصبح تلقائياً كائناً آخر، وتنقطع بالتالي كل روابطه مع ماضيه. المجرم لن يصبح مجرماً إلا في اللحظة التي يبادر فيها إلى ارتكاب جريمته، وعدا ذلك فإن القانون سيقف متربصاً بانتظار هذه اللحظة. في تلك اللحظة حدث التحوّل المذهل في الأدوار والمفاهيم: أصبح البطل مجرماً، بينما أصبح المجرم ضحية. لم يكن الشخص المرتعد عند ضفة النهر المتنكّر في ثياب امرأة هو الذئب الذي فتَّش عنه البطل ليصرعه، بل إن الجماهير الهائجة نفسها، المؤلفة من كل الذين انتدبوا أنفسهم للعب أدوار بطولية، هي مَن انقلب إلى ذئب مفترس.
هذا الاحتفال الصاخب والجنوني لا يعكس حقيقة وجود قدر محدود من السيطرة على الجموع، أو حتى انعدام السيطرة كلياً، بمقدار ما يعكس وجود ثقافة عميقة قامت على أساس هذا النزاع المرير بين البطولة والجريمة، الماضي والحاضر، العنف والأضحية. وذلك ما سوف يفسّر لنا السبب الحقيقي للفكرة الشعبية الرائجة في الثقافة السياسية عند العراقيين المعاصرين القائلة بأن السيطرة على الجماهير تستلزم استخدام العنف، وهي فكرة رائجة بالفعل حتى اليوم.
في مجتمع الأضاحي يصبح الاستقرار رهناً بدرجة ما من العنف الجماعي، وتلك هي المفارقة. عندما يصبح العنف مشروعاً (وحتى مقدّساً) فإن التضحية في سبيل إتمام دورته وبلوغها الذروة سوف تغدو هي الأخرى مقدسة.
وتبيّن سائر التجارب التاريخية للجماعات البدائية، كما الجماعات المعاصرة اليوم، أن فكرة التضحية كانت تتلازم في الأصل مع تصور الجماعة المؤمنة للعنف. ما من أضحية مقدسة (ضحية في التعبير التقليدي) إلا واكتسبت قداستها من عنف مقدّس. إن الأضحية الأولى المقدسة التي عرفها الإنسان البدائي هي نتاج أول محاولة لملاقاة عنف قوى شريرة أخرى سعت إلى فرض السيطرة عليه. ولذلك بدا العنف في نظر هذا الإنسان ومع أولى تجلياته مقدَّساً وضرورياً وحاسماً لإنتاج أول أضحية مقدسة. هذه الأضحية الأولى، البدئية، هي العنصر الأكثر تقدمية في تاريخ الإنسان البدائي؛ لأنها ساهمت في حسم مسألة انتقاله النهائي من طور اللامعرفة إلى طور المعرفة ومن اللادين إلى الدين، ودفعت به قدماً نحو تنظيم نفسه.
لقد كان مجتمع البدائيين مجتمع (اقتصاد عنف) أسَّسته وأرست أسسه أول أضحية مقدّسة. هذه الأضحية هي التي ساهمت في تحوّله نهائياً إلى (مجتمع أضاحي). وفي وقتٍ تالٍ ومع نجاح الإنسان في تنظيم نفسه أمكن إعادة بناء هذا الاقتصاد وفق أسس أكثر صرامة.
في التاريخ البشري المكتوب (والشفاهي) أصبح عنف الآخرين (الأعداء) دنساً، قذارة، وأصبح ضحاياه جيفاً يمكن سلبها وتجريدها حتى من الثياب، فيما غدا أكثر فأكثر عنف الجماعة المؤمنة في المقابل، سواء أكان في حالة الدفاع أم في حالة الهجوم، عنفاً مقدّساً ومشروعاً ومبرراً ولا يقبل أدنى نوع من السجال حوله، وإلى الدرجة التي أصبح فيها ضحاياه قديسين وطاهرين. في هذا الإطار تكاد تتماثل أو تتساوى نظرة الجماعات المؤمنة القديمة والمعاصرة للعنف المقدّس.
إن الحادث المأساوي الذي درسته في كتابي (الجماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية في العراق 2005) وحللت فيه الحادث المأسوي لقتل العائلة المالكة في العراق 1958م يعرض على المتلقي صورة دقيقة عن هذا الترابط بين العنف والأضحية في المجتمع المعاصر، ومغزى ظهور الأساطير الجديدة، حيث ينتشر في العراق المحتل، مثلاً، عنف أهوج أعمى عصبته أقنعة دينية وطائفية مقيتة، جرفت معها بشراً عاديين ليصبحوا مجرمين بإرادتهم وقناعتهم.


* دمشق

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved