الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th August,2006 العدد : 168

الأثنين 4 ,شعبان 1427

العقل السعودي في الميزان 1
التغير ووعي الشراكة
سهام القحطاني *
يذهب ابن خلدون في بداية مقدمته إلى (أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو الاختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول... والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه.. وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر، فلا بد أن ينزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك، فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول، فإذا جاءت دولة من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء وكانت للأولى أشد مخالفة، ثم لايزال التدرج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة، فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة.. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله). (1)
قول ابن خلدون السابق يضعنا أمام معطى التغير الذي تخضع له المجتمعات، وحيثياته ونواتجه، التي قد تصل إلى حد القطيعة و التي تباعد بين جذور الأجيال كلما تصاعدت مراحل التغير حتى تنتهي بالمباينة بالجملة على حد تعبير ابن خلدون، ليصبح الجيل بعد الجيل خلقا جديدا عن أصله، وهو ما يلزمنا مساءلة عن جدية قوانين وأشكال الحماية لتراث الجذور عبر مراحل التطور المتصاعدة لتفادي التغيير الجذري بين الأجيال في رحلات التغير، إذا أن التغير بهذا الشكل يعتري النظم والأنساق الاجتماعية، وهو ما يُحمّل الفاعل الاجتماعي مسئولية الملاءمة بين علاقات الأشياء، لإحلال التوازن المطلوب بين قيمة المرجع وقيمة ناتج التغير، على العموم هذا مُتأمل سنناقشه فيما بعد.
يفهم ابن خلدون التغير كحتمية استنتجها من خلال قصص السرد التاريخي للمجتمعات الإنسانية، بما فيها العربية، بالطبع فإن ابن خلدون في تنظيره لتجربة تغير المجتمعات اعتمد على نموذجين، نموذج آني يتمثل في عصر ابن خلدون ونموذج ماضوي يمثله تأمل ابن خلدون لتجربة التغير في المجتمع المشرقي، وهو ينتهج المقاربة في رصد تحولات التجربة التاريخية، فالحادثة التاريخية التي تمثل جسد التغير عند ابن خلدون تخضع لضوابط وفنيات على المؤرخ أن يلتزم بها أثناء تحليل الحادثة التاريخية، ولذا عاب على كل مؤرخ لا يلتزم بتلك الضوابط، كما عاب على منهاج المؤرخين ما قبل عصره في تعاملهم مع تحليل الحوادث التاريخية، فلم (يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار،). (2 )
وهو بذا يدخل علم التاريخ منعطفا جديدة يختلف، أو قل يتجاوز مجرد حكي التاريخ، الحكي الذي يدخله ابن خلدون باب الزيف، لأننا لا نغفل عن الخلفيات الدرامية التي يضيفها الحكواتي على الحادثة التاريخية لأنسنتها والتي تضيع هوية الزمن الخاص بها، أهم ضوابط تجربة التغير.
كما أن ابن خلدون يرسخ لثقافة المؤرخ لتقترب أكثر من أدوات عالم الاجتماع، وهو بذا يدخل تحليل الحادثة التاريخية إلى مجال المهنة/ الأصالة، التي تتطلب أدوات وإعداد ومهارة وحينا يحتاج إلى موهبة، فيختلط العلم بالفن، وبذا يقول ابن خلدون في هذا الصدد (.. يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والإعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر ومن ذلك، مماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منه، والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا كل حادث، واقفا على أصل كل خبر، وحينئذ يعرض خبره المنقول، على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه). (3)
وكأن ابن خلدون بكل تلك المشروطات يربط حصول الحادثة التاريخية بالإنسان نفسه أي الفاعل الاجتماعي، وهو ما يلزم من أجل مصداقيتها، البحث في سوسيولوجية الفاعل الاجتماعي، المؤثر الأول في نشوء الحادثة التاريخية وتحولاتها، يقول بداية المقدمة (..وشرحت فيه من أحوال العمران، والتمدن، ما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها،).
كما ابن خلدون بتلك المشروطات أيضا يسبق بول ريكور في نظرية (التزامن يسبق التعاقب) وبأن (الأنظمة أكثر معقولية وقابلية للفهم من التغيرات التي تطرأ عليها) (وبالتالي فإن دراسة تاريخ التغيرات يجب أن يأتي بعد النظرية التي تتولى وصف الحالات التزامنية للنظام) فكانت هذه المسلمة كما يذهب ريكور هي الأساس التي استندت إليه النزعة التاريخية في القرن التاسع عشر.
وبصرف النظر عن نسبة التذبذب بين تجربة التعايش وتجربة التأمل التي وقع فيها ابن خلدون أثناء تنظيره لتجربة تغير المجتمع، والتي أوقعته بدورها في عدم ضبط حدود تجربة التغير المجتمعي، والخلط بين مفهومي التطور والتغير، والتعامل مع مواثيق العقل الجمعي كونها أحدى عوامل التغير، لا إحدى مؤسسات المواطنة المحلية للعربي، وهو وفق ذلك يخطئ ابن خلدون في التقدير الكافي لأثر البيئة على مواطنة الفرد، حينما اعتبر البيئة هي ضابط معيشي مهما زاد أو قلّ أثرها، لا تتجاوز محدودية نوع الضابط السابق بهويته كمنجز عمراني، فحركة التغير في الماديات مثل العمران حركة مستمرة وأفقية، لكنها بالتأكيد تختلف عن طبيعة استجابة الفرد لعوامل التغير، ومحتوى الاختلاف هو فعل المقاومة التي تميز الإنسان عن مادية العمران بفضل منظومة قيمه المتكررة من خلال النماذج المختزلة في وعيه، و لكن الملفت لقارئ مقدمة ابن خلدون، قد يلحظ، أنه يتعامل مع التغير عند الإنسان كما يتعامل مع العمران بأنه معطى للتعايش، وهو بذلك يمنحه صفة المقتضى في تصاعده الأفقي، والاعتراض هنا ليس على نظرية التعايش أو المقتضى، بل على فكرة التساوي بين الإنسان والعمران في الاندماج مع ذلك التغير، وهذا ما جعل فكرة وعي التغيير في نظرية العمران عند ابن خلدون تفلت منه، وهو ما سنواجهه فيما بعد في الأفكار التي بنيت على نظرية العصبية.
ويقول الأستاذ علي أوميل، أن مقدمة ابن خلدون (تتبع في بنائها إذن حركة العمران على مستويين، مستوى المعاش (ابتداء من أنماط المعاش الأكثر بساطة حتى الصنائع والعلوم وأنواع معاش الحضر) ومستوى السلطة الوازع الذي تتبع المقدمة تطوره ابتداء من السلطة البسيطة أي الأقل قسرا حتى الدولة بمختلف مؤسساتها الخطط). (4)
لاشك أن البيئة كإحدى ضوابط التغير، لها قيمتها في الأثر والتأثر، وهذا ما ألمح له ابن خلدون في مقدمته وإن لم يعتبره بمقدار المسلّمة، وخاصة إذا عرفنا اختلاف قيمة البيئة في المجتمع المشرقي عن المجتمع المغربي الذي عاش فيه ابن خلدون، إنه اختلاف بين قيمتي السلطة والمعايير التي تمثلها بيئة المشرقي، والثورة التي تتزعمها بيئة المغربي والتي تجعله دوما أكثر قربا من دائرة التكيف مع التغير، والتي لا تترك للثوابت اعتبارا أو للبني أشكالا محدودة، إضافة إلى أن سرعة التغير لا تتساوى بذات المقدار والنسب عند جميع بنى التركيب البشري للجماعات الإنسانية، فسرعة التغير مثلا أكثر سرعة عند العنصر التركي والفارسي، من العنصر العربي، ورغم ذلك أستطاع ابن خلدون من إيجاد توافق بين روح التجربتين، مجدولا من خلالها عوامل تغير المجتمعات، في محاولة رصد وفهم لتلك التحولات التي طرأت على المجتمع العربي في زمنه رابطا إياها بماضيها، وهو بذلك يترجح في أفكاره ما بين ثنائيات مختلفة للتجربة، مشرقي ومغربي، عربي وتركي وفارسي، وهو ما جعلته يلتزم بتحفظ شديد لمشكلة الأنا والأخر، كإحدى عوامل الصراع في تجربة تغير المجتمع العربي، وخاصة على المستوى الشخصي له وعلاقته بتيمورلنك، والتي قد تفهم من الوهلة الأولى مفهوما نفعيا لكلا الطرفين.
على العموم ليست مقدمة ابن خلدون هي محتوى هذا المحور، وإن كنت اعترف أن بعض أفكاري نحوها هو استنتاج على عجالة، يحتاج إلى إعادة القراءة وإعادة التأمل، لكن التطويل السابق، لأن المقدمة ستصاحبني خلال هذا المحور.
أعود للمجتزأ من مقدمة ابن خلدون الذي بدأت به هذا الموضوع، نلاحظ من خلال ذلك المجتزأ، أن ابن خلدون يستعمل مصطلحي(الاختلاف والانتقال) للتعبير عن تغير المجتمعات، ولا أعتقد أن رجل لغة وبلاط من الطراز الأول مثل ابن خلدون، يستخدم مصطلح الاختلاف قاصدا التغير، لأن تبادل المقاصد هي سمة الحوار، لا سمة التمييز، بل قاصدا الاختلاف، وبذا فلا مجال هنا للبحث عن فائض يحتويه المصطلح، لأنه أراد بذلك المصطلح التعبير عن حزم علاقات التجربة بنواتجها، وبذلك فالمصطلح يقترب في خواصه الجوهرية متجاوزا خصوصية الفروق وخاصية المحور التبادلي إلى قيمه الايجابية، وهذا يعني أننا نقف أمام مظهرين للمعنى، أي (التعقل الصوري للقصد) و(تعقّل المضمون الخالص للقصد) كما يقول هوسرل، أو المغزى والإحالة عند فريغه، المغزى (الدلالة المستحصلة من المضمون الفعلي الذي ينقله الخطاب)، والإحالة (هي المدلول الخارجي الذي يحيل عليه) والمعتمد على (نقل التجربة للغة كشرط انطولوجي للإحالة) ومشروط قبلي للمغزى.
إن الاختلاف الذي يفتتح بها ابن خلدون فكرة التغير، يربطها فيما بعد بمعطى القطيعة، أو المباينة بالجملة التي يرتكز عليها في تقويم منتوج التغير عبر الأجيال، فالاختلاف يعني التباين بين شيئين ووحدة المحيط كرباط تزامني لا تحتفظ دوما بتوافره، وهو المعنى الذي يحمله لنا القائل، وهو ما بنى عليه ابن خلدون فكرة التغير، وهو المعنى الذي ينقله لنا خطاب المقدمة، أقصد المزج بين نموذ جي التعايش والتأمل، وهما نموذجان لا يرتكزان على رباط تزامني متصاعد، لكن هذا بدوره لا ينفي وحدة التجربة بينهما، وإن تفاوتت نسب الاندماج بناء على قوة الإمكانيات المتاحة، بما فيها الفنون و الرموز التي خصص لها ابن خلدون جزءا من مقدمته، متجاوزا أثر الاختلاف الفئوي في الصراعات الاجتماعية في النموذج المشرقي، (ولكنكم كنتم رعاة بين الإبل والغنم) هكذا كان يقول الشعوبيون (الذين اعتبروا أن سكنى الحضر لم تنس العرب عاداتهم البدوية)، ويقول الشافعي (وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي، ولا يجوز أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسانهم تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم أتباع دينه)والمقولتان السابقتان قد تتقاطعان مع ما يذهب إليه ابن خلدون بفكرة المباينة بالجملة. فاللغة عند الشافعي هي التي تظل دائما رمز هيمنة السلطة العربية على غير العرب، كما تظل وحدة الأجيال المتلاحقة.
على العموم استطاع مصطلح الاختلاف عند ابن خلدون أن يوصل المعنى بواقعية نتائج الأحداث، أي الأفق (الأخير الذي تستقر فيه الدلالات اللغوية في السياق).
فإنك لا تنزل البحر مرتين، فإن مياها جديدة تجري من حولك أبدا، كما يقول هيرقليطس، والانتقال من حال إلى حال كما يقول ابن خلدون، وإن كان هيرقليطس يقصد التغير كقانون للوجود، فابن خلدون يقصد الناتج(التطور) وهو هنا يقفز فوق سلسلة النظم الاجتماعية المترابطة بنائيا ووظيفيا، وإن كان بعض علماء الاجتماع يعنون بالتغير كمفهوم تطور هو (التغير الثقافي)، لكن ما أنبه له أن مفهوم التطور كشكل من أشكال التغير عند بعض علماء الاجتماع ومنهم هربرت سبنسر هو ناتج أثر النظرية الداروينية البيولوجية، لكن هل ابن خلدون في فكرة تطور الجماعة الإنسانية كان يعتمد على مثل هذا القبيل شبيها أو غير شبيه.
من خلال قراءتي للمقدمة قد يكون هناك إمكانية لمثل هذا الأمر، وخاصة وأن ابن خلدون قد قارب بين مراحل حياة تاريخ الدول الأمم ومراحل تطور عمر الإنسان بيولوجيا، من الميلاد إلى الهرم ثم الموت، أي نظر إلى تطور التاريخ كتطور بيولوجي، من خلال الانتخاب الطبيعي نتيجة الوراثة والتغاير وتنازع البقاء وبقاء الأصلح، وهو ما يجعل إمكانية إيحاء الفكرة البيولوجية لفلسفة تطور الجماعات عند ابن خلدون متاحة، لأن التطور في علم البيولوجية يتم نتيجة تغير منظم لروابط الأشكال القديمة، والتي تظهر بدورها أشكال جديدة، وهو ذات المنهج الذي يتم تنفيذه على خلية الجماعة الإنسانية، والتي تتدرج بدورها من الأبسط في التكوين إلى الأعقد في التركيب على كافة مستويات سلم التطور الاجتماعي، وهو بتعبير ابن خلدون الانتقال من حال إلى حال.
الإحالات:
1 مقدمة ابن خلدون/ تحقيق د/حامد أحمد طاهر/دار الفجر للتراث. ص48
2المرجع السابق. ص12
3 المرجع السابق ص47
4 /الخطاب التاريخي، دراسة لمنهجية ابن خلدون/علي أومليل/المركز الثقافي العربي. ص83


* جدة

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved