الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th August,2006 العدد : 168

الأثنين 4 ,شعبان 1427

حب في جحيم بغداد
إبراهيم الوسيدي
* التقيا بعد ستة عشر عاماً بأحلام اغتالتها أيدي حاكم مستبد
* ومستقبل جثمت فوق أنفاسه دبابة محتل
* هي عرفت روحه.. لكن استنكرت.. كرسيه المتحرك
* وأثر جروح غائرة غيّرت معالم وجهه
* هو عرفها من روحها ومن ابتسامتها التي تذوب بنعومة بين خدَّيها الممتلئين
* على الرغم من استنكاره لطفل كان معها
*
* فزت إليها روحه واحتضنتها بقوة.. بعمق حتى شعر أنّ دفء روحها كمد جراح قلبه.. صهرها بين ذراعيه
* حتى تساقطت على كبده الحرى.. كحبات المطر
*
* ناداها متسائلاً بصوت ما زال يتردَّد صداه بين جنبات قلبها : سامية ؟
*
* هزّت رأسها.. بأي نعم
*
* حاولت أن تسأله: هل أنت... فغصت بشهقة سكنت حلقها.. ولم تكمل..
* أطرق بنظره إلى الأرض وقال: * نعم.. أنا مروان لكن بلا ساقين وروح وقلب ومستقبل
* وأردف قائلاً بسخرية موغلة بالألم.. (يعني) نصف مروان
*
* وكأنّه أضاف بإجابته هذه كلّ حزنه إلى حزنها.. فانهار في لحظة ذلك السد المنيع الذي ضربته حول دموعها لمدة ستة عشر عاماً
*
* أنقذت الموقف إشارة مسموح العبور للمشاة.. فأعطت سلّة كانت تحملها للطفل الذي معها
* وأمسكت بمقبضي كرسيه المتحرك ودفعته لعبور الشارع.. وقد أطلقت العنان لدموعها غير مكترثة بالآخرين، وكأنّها أرادت أن تفضح ألمها المكبوت أمام كل العالم
*
* هو.. تهاوت بصدره صروح مزيفة كان قد بناها لتتصدّى لذكرى سامية
* حتى لا ينبض قلبه ويجرى الدم بشرايين وأعضاء لا تقوى على الحياة
* كان قد اكتفى من سامية.. بجذوة في روحه تدفئ برودة لياليه وتضيء عتمة قلبه
*
* مسحت دموعها بطرف خمارها نهرت دموعها.. أرادت أن تكون أقوى على الأقل أمامه.. ففيه ما يكفيه
* أرادت أن تسأله عن حاله.. ولكن رؤية الحال أغناها عن السؤال
*
* فسألته إلى أين كنت ذاهباً؟
* لم يبادر بالإجابة وكأنّه يريد التخلُّص من نشيج بكاء قد يتسلّل إلى صوته
* فقال بعد برهة: إلى ملعب الحارة.. عادتي أذهب هناك كلَّ يوم في مثل هذا الوقت
* هذا الملعب فقدت فيه بعد رحيلكم بسنة.. ساقي وأخي عدنان وابن عمي توفيق وخمسة من أعضاء فريقنا فريق الشجاعيين (الشجعان) عندما ألقت علينا طائرة أمريكية قنابلها.. وذهب غيرهم كثير من أهل الحارة
* إلاّ أنّ هذه المأساة لم تسلب مني أجمل أيامي بهذا الملعب
*
* فهمت أنّها المقصودة بعبارته الأخيرة، فقد كان هو كابتن الفريق وأفضل لاعب بالحارة، وكانت تجلس قليلاً لتتفرج على مباريات الفريق أثناء ذهابها إلى دكان أبيها
بتوصية من أبناء الحارة.. حتى يجتهد هو بتسجيل هدف
* من أجل أن يركض ناحيتها كتعبير عن الفرحة
* ويؤشر عليها بيده لتزهو أمام رفيقاتها بهذا التكريم من مروان أطيب وأذكى وأشجع أولاد الحارة
*
* فقالت: الحمد لله على كلِّ حال.. إذا سنرافقك فأنا ذاهبة إلى هناك ليرى ولدي الحارة التي ضمّتني وأنا صغيرة، سأسرق له طفولة من طفولة أمه
* فهو لم يعرف غير حياة معسكرات اللاجئين
*
* كرر مروان متعجباً.. معسكرات اللاجئين!
*
* قالت : نعم.. طوال الستة عشر عاماً كنت بمعسكر للاجئين الذين فرّوا من بطش أجهزة المخابرات
* لم يرد أن يجعلها تسرد قصتها حتى لا يثير أحزانها من جديد
*
* فقاطعها قائلاً: سامية.. أستطيع أن أدفع عربتي بنفسي لا أريد أن أتعبك
*
* فقالت له: لا عليك لم أتعب بعد على الأقل هذه فرصة أسدِّد دَيْناً لك في رقبتي
* هل نسيت حين كنت تنتظرني عند باب المدرسة لتحمل عني حقيبتي
*
* ضحك ضحكة شقت طريقها من بين الدموع بكلِّ سهولة، فهذه هي سامية توأم روحه والوحيدة التي تستطيع أن تتغلغل بداخلها وتقلبها كيف شاءت
*
* هي شعرت بالارتياح وكأنّ الزمن عاد بها إلى سني الطفولة
*
* في هذه الأثناء وصلوا الملعب فقالت مداعبة له: وهذا هو ملعب فريق الشجعان.. آسفة الشجاعيين
* الذي لا يقهر.. يا كابتن مروان
* على فكره أكيد مدرِّس مادة العربي في مدرستكم كان (تركماني)!
*
* ضحك من أعماق قلبه، فهذه هي سامية خفيفة الدم والمشاغبة لم تتغير
*
* فقال: هو صحيح لا يقهر ولكنه قهر مرة واحدة بسببك يا دلوعة الحارة
* هل تذكرين عندما خرجت من الملعب ولم استأذن من الحكم لأذهب ركضاً لبيتكم عندما كنت تبكين فسألتك من الذي ضربك فأشرتِ إلى أمك فصرت أبكي معك فلم استطع أن أفعل لأمك شيئاً غير أن أهز أمامها يدي الصغيرة
* وأقول لها لماذا تضربيها يا خالتي هذى طفلة صغيرة لا تفهم
*
* وعندما قلت لا تفهم قلتِ لي أنت الذي لا تفهم وأنت الطفل
* لنتشاجر مع بعض.. فتضحك أمك من تصرفك وتصالحك لأذهب أنا مغضوباً عليه، وأجد فريقي مهزوماً
*
* ضحكت سامية بملء قلبها.. ضحكة كتغريد طيور الجنة
* هطلت على قلبه كرذاذ المطر غسلته ولمّت شتاته وأشعلت أنفاسه الخامدة تحت رماد روحه
*
* سألته أين تريدنا أن نجلس فقال: هناك تحت تلك النخلة، ولكنه استدرك وقال لا بل هنا.
*عرفت بأنّه لا يريد أن ترى بيتهم القديم، فأكملت المسير لذلك المكان
*وقالت: لا تخش عليّ يا مروان فسنين الهم والغربة أعطتني بعض القوة لأجابه واقعي مهما كان مراً..
* وقفت وتناولت السلة من يد ابنها وأخرجت بساطاً صغيراً وفرشته على الأرض بجانب الكرسي الذي يجلس عليه مروان ولكن للوراء قليلاً
* جلست و أجلست ابنها بجانبها وأخرجت ترمس شاي فصبت كأساً ومدّته لمروان
*
* أخذت ابنها ووضعته بحضنها ثم سكبت قليلاً من الشاي على كأس وضعت به قطع بسكويت.. فصارت تخرج البسكويت المتشبع بالشاي وتضعه في فم ابنها
*
* سرقت نظرة أولى سريعة إلى بيت أهلها.. فشعرت بتداعيات تلك النظرة
* فحاولت أن تلهي نفسها بإطعام ابنها.. لكن انهارت قواها من الداخل فلم يعد ذلك القلب يحتمل أكثر
* وضعف أكثر هذه المرة مع وجود مروان شريك روحها والحال الذي هو عليه
* فأجهشت بالبكاء وضمّت ابنها.. فلم تسيطر على نوبة بكاء حادة تمكنت منها
* وكأنّها تريد أن تبكي عنها وعن مروان.. وعن هم شعب كامل ضاعت أحلامه
* وصار مستقبله بين كفي عفريت مستعمر..
* لم تهدأ.. بل صار يعلو نحيبها.. ليقطع نياط قلب مروان ويمزق شرايينه
* فيحتار ماذا يعمل..
* فترفع رأسها وتتعوّذ من الشيطان الرجيم وهي تحاول أن تجد مكاناً جافاً من خمارها لتمسح دموعاً غسلت وجهها
*
* فقالت وهي ما زالت تغمر وجهها بين كتفيها وتحضن ابنها: أعذرني يا مروان فقد تذكرت تلك الليلة التي رحلنا بها عن الحارة حين فقت من نومي على صراخ أمي المذعورة وهي تقول: هيا سنرحل فرفضت وصرت أبكي لتغلق فمي بيدها وهي تقول لي هل تريدين أن تري أباك يسلخ أمامك!
* فخفت على أبي وركضت نحوه فتعلّقت برقبته وذهبنا خارج الحارة
* لنركب سيارة ونتجه صوب الحدود مع طرق صحراوية وعرة لينفد البنزين
* ولنحمل الماء فوق ظهورنا فمشينا حتى حفيت أقدامنا وعندما أوشكنا أن نهلك من الظمأ بعث الله لنا بدواً أنقذونا وعبروا بنا الحدود ودخلنا
هناك تجمُّعاً للاجئين الفارين بحياتهم
*
* هناك وبعد أسبوعين وصلنا خبر قتل المخابرات لأخوي ثامر وناصر بدلاً عن أبي الذي توفي بالحال إثر هذا الخبر، فصرت مسئولة عن أم أقعدها المرض وأنا ذات عشر سنوات..
* فصرت أكافح من أجل أن أقيم أودي وأود أمي فأبيع الآيسكريم على أطفال اللاجئين
* وأذهب سراً لامرأة عجوز فأنظف بيتها مقابل مبلغ زهيد من المال وأنا كما تعرف ابنة العز والدلال.. ولكن نسيت من أنا مقابل أن أعيش
* استمرت بي الحال هكذا وعندما أصبح عمري أربعة عشر عاماً. عرض علي رجل طاعن في السن الزواج مقابل أن يعالج أمي فوافقت لأجل ذلك ولأجل أن أحمي نفسي من الآخرين.. الذين بدت نظراتهم تلتهم جسدي
*
* بعد شهر.. مات زوجي تاركاً خلفه طفلاً بأحشائي وأم مقعدة لم يسعفه العمر بعلاجها
*
* فعشت في بيت زوجته المسنة كالخادمة مقابل أن ترضى ببقاء أمي معي
* وبعد موت أمي عدت للوطن عن طريق الأمم المتحدة، وكنت أنت أول من أقابله من معارفي في بغداد
* قال بحروف تتكسر من التأثر: الحمد لله على سلامتك
*
* بعدها خيّم السكوت على المكان يقطعه دعاء سامية لأهلها بالرحمة والغفران ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .. يقولها مروان بين الفينة والأخرى ليخرج من حزن يعتصر قلبه
*
* دفع مروان كرسيه المتحرك للخلف وأداره ناحيتها ونظر إلى ساعته فقال لسامية لم يبق على موعد حظر التجوُّل في بغداد غير عشر دقائق..
*
* نظرت إلى ابنها وإذا هو نائم.. ضحكت وقالت يبدو أنّ ابني رفض أن يسمع معاناة أمه
* تزحزحت قليلاً للوراء فأخذت البساط الصغير ونفضته ثم لفّته على ابنها
* وقالت لمروان ضعه معك، أخذه وقبِّله قبلة حانية جداً، لاحظت ذلك وقالت له وهي تلم أشياءها وتضعها بالسلة : هل عندك أولاد يا مروان ؟
* فقال : لم أتزوج ولا يحق لي ذلك، فقالت بإشارة لها: حتى لو وجدت من تريدك لروحك فقط؟
*
* فقال: وكيف أحميها بزمن فَلَتَ فيه الأمن وأنا لا أستطيع حتى حماية نفسي!
* قالت وهي تعلِّق السلة بجانب الكرسي: سيكبر ابنها ويحميها ويحميك من بعد الله
* فلمحت ابتسامة على محياه ذكّرتها بابتسامته وهو طفل عندما تأخذ قبلة من فمها وترميها له بالهواء
* أمسكت بمقبضي كرسيه وهي تديره لجهة الطريق وقالت : هاه وش قلت؟
*
* فضم ابنها إليه وقال بلهجته التي تحبها كثيراً : أقول أحبك
* كانت هي متأكدة من روحه التي تهفو إلى روحها كما يأوي الطير إلى عشه
* كانت متأكدة من حاجته لها كحاجة الظمآن للماء
* كانت متأكدة بأنّ مشاعره وأحاسيسه وكلّ ذرة بكيانه تتجه شوقاً إليها فقط كما تتجه البوصلة لجهة الشمال، ولكن عرضت عليه الزواج لأنّه لن يعرضه عليها بسبب عجزه ذلك
*
* وهما سائران بالطريق تنسج أحلامها حياة جديدة أساسها
* وجود الشريك الثالث النائم
* فجأة يسمع دوي انفجار يهز بغداد تفزع منه أسراب الحمام وتطير في السماء ...
* وتطير معها الأحلام.


harb_999@hotmail.Com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved