الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th August,2006 العدد : 168

الأثنين 4 ,شعبان 1427

دِنّحي!
عبدالرحمن بن محمد السدحان

* كان الطريق الجبلي الوعر الذي أسلكه كل يوم ذهاباً إلى المدرسة وعودا منها محفوفا بالمخاطر التي لا يقوى جسدي النحيل على تحملها ناهيك بمواجهتها، وليس أدل على ذلك من (المواجهة) غير المتكافئة مع (كلب الطائفي) ذات صباح باكر في الطريق إلى المدرسة، ولم ينقذني منه بأسه، بعد الله، سوى رغيف من الخبز (اشتريت) به جوع الكلب.. وغنمت منه سلامتي! وكان مما يقلقني وأنا أسلك ذلك الطريق صُبحا وعِشيا أنه لم يكن لي رفيق درب يؤنس وحدتي ويبدد ضباب الصمت من حولي جيئة وذهابا!.
* *
* وذات أصيل، كنت أغذُّ السير عبر الطريق الجبلي متجها إلى قرية (مشيّع)، كانت الشمس تتهيأ للمغيب، والجبال المطلة على الطريق تنثر ظلالها ذات اليمين وذات الشمال، فتزداد خفقات قلبي تحسبا لمخاطر الظلام ولم أكد أتجاوز (جبل شمسان) الشهير منحدرا شرقاً في اتجاه القرية حتى لمحت أمامي عن قرب رجلاً عرفته للتو بقامته الفارعة، وشعره الأشعث، وغترته الملتفّة بغوغائية حول رأسه، وثوبه المشدود إلى أعلى ركبتيه، كاشفا عن ساقين ناحلتين كأعجاز نخل خاو! ولم يكن ذلك الرجل سوى (دِنّحي)، الشخصية (الفلكلورية) المثيرة للغط وشيء من الجدل في أبها! (ترى.. ما الذي أتى به إلى هذا المكان الموحش؟) سألت نفسي المبهورة بالمشهد، ثم توقفت لحظة عن السير وأنا أتمتم بالدعاء أن يجنبني الله شر ذلك الآدمي إن كان به شر، فيما كان قلبي يعزف إيقاع الخوف والدهشة من وجوده في ذلك المكان والزمان، ورحت أتمتم لنفسي وسط ذلك قائلا: رباه.. هذا هو إذن (دِنّحي) بلحمه وعظمه، و(طلته) التي تعيد عقارب الحضارة إلى الوراء.. مائة عام!.
* *
* لم يكن (دِنّحي) نكرة في ذاكرتي؛ فقد كنت أشاهده مرات ومرات في أسواق أبها وبعض حاراتها، كان حضوره مألوفا للناس عامة، والأطفال خاصة، وكان في الوقت نفسه (أليفا) لا يخيف أحداً، بل إن بعض الأطفال كانوا يسخرون منه على نحو أو آخر، فيزجرهم بالكلام قبل أن يتفرقوا عنه بعيداً خوفا من العواقب، ولم أكن أشاركهم فعلهم لسبب لم أفهمه، قد يكون الإشفاق عليه أو الخوف منه أو هما معاً، لكن الرجل في جُلّ أحواله كان مخْزنا من الأسرار، فلم يكن الكثيرون يعرفون عنه إلا قليلا، ولم يكن هو يبوح لأحد بما في نفسه، ولو وجد هذا الإنسان (الظاهرة) في زمننا هذا لتسابقت وسائل الإعلام والتلفاز خاصة، للتعرف عليه والتعريف به والاستماع إلى ما قد يكون لديه من رؤى تتعلق بعصره، تماما كما يفعلون الآن ب(المكوجي) شعبان عبدالرحيم أو (شعبولة) في القاموس الشعبي، الذي تحوّل بين عشية وضحاها إلى (مطرب) صاخب، صوتا وقيافة ومظهراً، ينشد للعشاق، ويؤلف (ملاحم الكراهية) لإسرائيل ومن سار في ركابها!.
* *
* وقبل أن أسترسل في وصف (لقائي) المفاجئ مع دِنّحي في سفح جبل (شمسان)، أورد هنا كلمات عن هذا (المارد) الذي لم يكن يعرف له اسم في أبها وضواحيها سوى (دِنّحي) بتشديد (النون) وكسر (الحاء)!.
* كان الرجل وقتئذ في منتصف عقده الثالث تقريباً، ويبدو من قيافته ونمط حياته أنه كان مشرداً بلا عائل، يفترش عتبات الدكاكين ليلاً، وأحياناً يصدح منشداً بكلمات غير واضحة، لكن صوته كان يسري في أحشاء الليل البهيم مسرى النار في الهشيم، فيُسمَع عن بُعد متنافساً بذلك مع صفارات رجال (العسّة)، ورغم ذلك كان إنشاده حزيناً مشحوناً بالشجن، وكأنه يشكو حاله إلى نفسه، أو يسامرها وجْدا وحنينا إلى مجهول!.
* *
* كان (دِنّحي) يتحدث مع هذا ويضحك مع ذاك، وأحياناً يخرج للناس صامتا لغاية في نفسه، وأحياناً أخرى، يغادر زنزانة صمته وهو يسير في السوق على غير هُدى، حتى إذا لمح أحدهم سائراً أمامه، حث السير باتجاهه حتى ليكاد يلمسه، ثم يرسل من فمه صوتا كريه السمع،قبل أ ن يطلق ساقيه للريح، وهو يضحك بلا حدود، فيما الرجل الآخر يصرخ فيه محتجا ومتوعدا، وقد يسمعه بضع كلمات تترجم غضبه، فيما الناس من حوله يستمطرون عفوه عن (دِنّحي)، مرددين: (إنه خبل يا رجال.. لا تهب عقلك بعقله..!) فيبتسم الرجل (الضحية) مسلماً بما قالوا، وينصرف لشأنه، وكان تحرش (دِنّحي) هذا قاصرا على الرجال، أما النساء فلم أسمع قط عن موقف مشابه معهن!.
* *
* كان (دِنّحي) غريب الأطوار والأدوار، مرة يضحك حتى لتحسب أنه لا يمل الضحك أو يمله الضحك، وتارة يبكي وحيداً في هجعة الليل، والناس نيام، وثالثة يمارس سلوكا هو أقرب إلى العقل مما سواه، فيسلم على من يراه، ويستفسر عن حاله وآله، ولذا، كان هناك دائماً من يعطف عليه أو يتعاطف معه، فيمنحه (المقسوم) من الزاد ليسد به رمقا، وقد يكلفه آخر بحمل أمتعة اشتراها إلى منزله، ثم ينفحه بريال أو نحوه جزاء ما فعل، فإذا لم يجد من يحنو عليه بمال أو غذاء، لجأ إلى العمة (غاموشة) صاحبة (السوبر ماركت) المتواضع جدا في أعلى (رأس أمّلح) وسط سوق أبها لتهبه شيئا من فاكهة الموسم، فيأتي عليها أكلا قبل أن يغادر المكان! وقد يكرر ذات المشهد مع (منافسها) المجاور لها، العم علي العريني، فلا يبخل عليه بما يرغب لاستهلاكه الآني.
* *
* كانت حياة (دِنّحي) مزيجاً عجيباً من البوهيمية الصارخة والبساطة المغرقة في العدم، نصف منه عاقل، والنصف الآخر يراوح بين (الجنون) أو التظاهر به، ومع ذلك، لم يكن يؤذي أحداً.. بل الكل منه وعليه مشفقون، لكن لا أحداً منهم يستطيع أن يفعل من أجله شيئا سوى أن يمد له يد العون، دراهم معدودات أو زاد بطن وربما (كسوة) عيد، لينصرف بعد ذلك معبرا عن امتنانه بابتسامة تفصح عن الرضا بما قُسِمَ له!.
* *
* بهذه الخلفية المزدحمة بصور من (فسيفساء) النفس المسكونة بالقهر والفراغ والتشرد التي تختزلها شخصية (دِنّحي)، أخذت استعيد بصري الشارد في فيافي الخوف من الرجل الواقف وحيدا على بُعد خطوات مني في الدرب الموحش عبر سفح الجبل المنحدر صوب القرية، فكّرت كثيرا فيما عساه أن يفعل إذا رآني.. وحيدا مثله، أسير في ذات الاتجاه، هل سيمسني بسوء؟ أم سيُعرض عني رأفة بطفولتي ويدعني أكمل مشواري؟ أم سيتحدث إلي؟ وإذا فعل، فماذا سيقول؟ وبِمَ أرد عليه؟! وربما كنت سأقول له (.. لا تؤذني، أرجوك، فليس بيني وبينك (فارق) كبير، سوى العقل مما قسم الله لي، وما عدا ذلك فكلانا (مهاجر) داخل نفسه، وكلانا يعيش حالا من (التشرد) داخل مجتمعه، وكلانا مرشح للرحمة لا العدوان..)!.
* *
* رحتُ بعد ذلك أخفف عن نفسي من غلواء الخوف قائلاً: (لم يعرف عن (دِنّحي) أنه مسَّ أحداً بأذى من قبل، فلِمَ أخاف منه أو أخشاه؟ كلانا يشكو الضعف، لسبب مختلف، أنا بطفولتي التي تاهت (بوصلة) مستقبلها، وهو بشقاء يومه وغده الذي أودعه ذمة المجهول!).
* *
* قلت هذا همساً لنفسي أو هي قالت لي إيحاءً، ثم سلمت أمري لله وواصلت السير مروراً به، لأفشي السلام، فيما أنا أهم بتجاوزه، ويرد التحية بكلمات لم يستوعبها خاطري المضطرب وقتئذ، لكنني أتذكر أنه سألني عن وجهة سيري، فأجبت مسرعا أنني عائد إلى منزلي وراء (ذلك الجبل)، وأشرت إلى جبل تخترق هامته جبين الأفق القريب، ولم أزد، وانقطع الحديث معه عند هذا الحد، ومرت لحظات كأنها دهر، وأنا أغذُّ السير باتجاه القرية، وقد تسمرت عيناي في الدرب أمامي، أتمنى لو ينطوي بسرعة طي السحاب، كي أبلغ مرادي سالما.. وفجأة التفت إلى حيث كان يقف (دِنّحي) فلم أر سوى ساقيه العاريتين وهو يعدو في الاتجاه المعاكس للقرية صوب أبها، كدت عندئذ أجثم على الأرض ساجداً لله أن كفَّ عني أذاه.. إن كان فيه أذى، وجنبني (مواجهة) غير متكافئة معه بأن ألهمني فضيلة التعامل معه برفق، حتى تجاوزته بسلام!.
* *
وبعد..
* فقد كان (دِنّحي) ظاهرة بشرية تسير على قدمين، بلا هدف ولا ماضٍ ولا مستقبل، ولو لم أشاهده بأم عيني، مرة أو مرات في اليوم الواحد، خلال مشوار طفولتي، ثم قرأت عنه اليوم حديثاً كهذا، لقلت لمن كتبه إن هذه أضغاث من كلام يوحي به الخيال، لكن (دِنّحي) كان شخصية طبيعية التكوين ككل البشر، وما عدا ذلك.. فهو (حكاية) صاغها القدر، وشكلتها ظروف لا يعلمها إلا الله، فتن بها الناس زمنا طويلاً استهجانا لدى البعض منهم واستحسانا لدى البعض الآخر، دون أن يعرفوا جميعاً صاحبها، أو يقرروا موقفا منه، أهو نفر من الإنس، أم شبح من الجان!.
* *
* وقبل أيام، اتصلت بأديب عسير الكبير الصديق الأستاذ محمد بن حميد أسأله عن (دِنّحي) وما آل إليه، فذكر لي أنه مات خلال عقد الثمانينات الهجرية، وأنه ينحدر أصلا من قرية تدعى (العرين) تبعد عن قريتي (مشيع) بضع كيلات قليلة، لكنه فيما يبدو لم يكن له عائل ولا قربى، ولعل تزامن وجوده معي رحمه الله في الطريق الجبلي الموحش المؤدي إلى قرية (مشيع) ثم (العرين).. أنه كان ينوي العودة إلى قريته تلك، لكنه لأمر ما عدل عن غايته لأمر يعلمه الله، وقَفِل عائدا إلى أبها!.
الثقافية:
جانب من إضافات جديدة إلى سيرة الأديب الأستاذ عبدالرحمن السدحان الموسومة (قطرات من سحائب الذكرى) ستظهر ضمن الطبعة الثانية وشيكة الصدور.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved