الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th November,2005 العدد : 131

الأثنين 26 ,شوال 1426

طه حسين: رائد العقلانية و الليبرالية العربية «3»
العميد في مرآة الماركسيين العرب
د. عبدالرزاق عيد*

لقد صدر العدد الأول من الكتاب الثقافي الدوري- المشار إليه سالفا- تحت عنوان (قضايا وشهادات) عن مؤسسة (عيبال) الفلسطينية التي رعت إنشاءها وتأسيسها الجبهة الشعبية وبمساندة مباشرة من حكيمها الدكتور جورج حبش، ومما له دلالته - في هذا السياق - أن يبدأ هذا المشروع بطه حسين (العقلانية، الديموقراطية، الحداثة).
ربما لا تكون الدراسات التي تناولت فكر طه حسين في هذا الكتاب تبرر عنوان العلاقة بين الماركسيين العرب وطه حسين، لكن القول بأن الكتاب ينطوي على مشروع رؤية يسارية ديموقراطية له ما يبرره، إذ تغامر إحدى النخب اليسارية العربية كي تتأمل وجهها في مرآة طه حسين...!
هل الحديث عن رؤية يسارية ديموقراطية تنتظم عقد الكتاب، هي محاولة يسارية مواربة لزج قسري لطه حسين في مصفوفة اليسار العربي وهو في ذروة أزمته العالمية والعربية؟ بالتأكيد ليس الهدف القيام بالتكسب السياسي على اعتبار أن المجموعة التي أشرفت بل وساهمت في وضع هذا الكتاب هي من خيرة كبار المثقفين والكتاب والمفكرين العرب الذين يحسبون على أهل اليسار لكنهم جميعا -أو قل أغلبهم- ينتمي إلى خط اليسار النقدي ممن يحملون لوثات هرطوقية تجاه المؤسسة الشيوعية (المسفيتة) والتي كانت تعيش حينها لحظة انهيارها مع بداية التسعينات من القرن الماضي (العشرين)، إذن فمشروع الكتاب أبعد هما وهمة معرفيا وأكثر طموحا سياسيا وحضاريا من الارتهان إلى تحقيق مكاسب ذات وظيفة إعلامية توضع تحت تصرف مؤسسة حزبية أو سياسية ما، سيما وأن الرجل (طه حسين) قد لحقه من التصنيفات الإعلامية والتوظيفات الايديولوجية والسياسية ما حجب عن ثقافتنا العربية الأهمية الجليلة لمشروعه الفكري والحضاري، فلقد أنهك مشروعه الطليق الرحب ضيق أفق نزوعات التصنيف والترتيب والتبويب والترهيب، ومن ثم التكفير دينيا والتخوين وطنيا وقوميا والإدانات والهجر طبقيا، ومن ثم زجه واعتقاله بزنازين حدود أحكام التأثيم (ملحد، فرعوني، برجوازي، شيوعي، رجعي، إقطاع فكري، مدعي، طاووسي، جاهل... الخ).
لكن الكتاب في كل الأحوال -إذ هو يبتعد عبر معظم أبحاثه عن التفكير الزنازيني والتصفيد الإيديولوجي، بما فيها زنازين وأصفاد البحث الأكاديمي الذي يدعي الحياد والنزاهة والعلمية - إنما هو مواجهة معرفية مع أمس الماضي لمنتجيه للانخراط في إشكالات الحاضر، عبر إعادة النظر وترتيب العلاقة المبتغاة تاريخيا ومعرفيا مع لوحة ثقافتنا المعاصرة المشتتة والمتناثرة المتضاربة الألوان والفاقدة الذاكرة في معظم الحالات... فأية ذاكرة نطمح لإنعاشها في اللحظة الراهنة..؟
منذ السبعينات وحتى اليوم وفكرنا العربي (فكر إنعاش الذاكرة) لتلمس مكونات وخصائص الهوية، لكن هذا الفكر الجامح باتجاه الحفر بالماضي والتفتيش ببهو الذاكرة عن: المادية والعقلانية والحداثة من خلال استعادة لحظة ابن خلدون وابن رشد، بينما كان على مرمى عصا من هؤلاء الباحثين عن ابن خلدون وابن رشد للانتظام في نهاجيتهما أساتذة كبار أسسوا فعلا لعصر نهضة عربي كطه حسين ورعيله التنويري، إذ هم يغطون في موتهم العميق وسط جلبة الحروب وضوضاء الشعارات والمساومات والهزائم الحضارية، وذلك بعد أن كانوا يطمحون منذ أكثر من نصف قرن لبناء مجتمع لا يهزم أمام إسرائيل وهو مجتمع العلم والمعرفة والحرية، لا كما يفعل منذ أكثر من نصف قرن مجتمع الشعارات والعسكر والاستبداد، مجتمع طامح للتقدم والارتقاء لكي يكون ندا حقيقيا لحضارة الغرب، وقد كان مشروعهم الفكري والثقافي (طه حسين) يمتلك كل مقومات المشروعية التاريخية لهذا الطموح الذي غدا الآن يوتوبيا.
(قضايا وشهادات) أرادت من خلال كتابها هذا أن تتواصل وتتواشج مع لحظة ثقافتنا المعاصرة لرمرمة هيكيلة الوعي بالمجتمع المدني وسط تقوضه على مرأى من العين المجردة بسبب رفع رايات الشعارات الكبرى (التفكير بالكليات) فغرقنا في محيط الجزئيات، إذ ونحن لا نقبل دون دولة العرب الكبرى بديلا، وجدنا أنفسنا عاجزين عن حماية أوطاننا الصغرى التي هبطت في بنيتها السياسية والقانونية إلى مستوى (ما دون الدولة) لتتحول إلى سلطات تتزيا بزي الدولة من خلال العلم والنشيد الوطني!
إن المشهد السياسي العربي المعاصر أنتج علاقة خرافية بالزمن إذ لا يتراكم الزمن في عقل عربي غدا أشبه ببرميل لا قاع له، حيث إتلاف الذاكرة بالتاريخ القريب، والقذف بها إلى مجاهل زمن لا تستعيده الذاكرة إلا عبر أطياف المتخيل، لكن الكواكبي وطه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى بوصفهم مثقفي شغب فهم لا يزالون يمارسون شغبهم حتى اليوم على سلطة الأحفاد، وما دام متعذرا اعتقالهم فيزيائيا، فيجب أن يلقوا في زنزانة النسيان، في برميل ذاكرة لا قعر له، إذ هو لا يجمع فحسب بل وفي المحصلة فإنه لا يراكم...
هذا التفكير السائد والمتسلط يعيد إنتاج نفسه كبنية كبرى في تشخصه وتعينه في الواقع المعاش من خلال اشتقاقاته المتجلية في البنى المضادة، أي (المعارضة) التي لن تكون بالمحصلة سوى وجهها الآخر أي: (قفاها)، حيث المؤسسة الرسمية الحاكمة منها وغير الحاكمة تقوم بعملية نفي، عندما تلغي بل وتنفي من الذاكرة: الكواكبي -طه حسين - سليم خياطة - رئيف خوري - ياسين الحافظ،... إلخ.
عندما يقوم الماركسيون العرب بإعادة قراءة طه حسين، فإنما هم يقومون بإعادة قراءة لمنهجهم ذاته في الفكر والسياسة والاجتماع بدلالة قانون الوعي المطابق، وهم إذ يعيدون ترتيب علاقتهم بطه حسين ورعيله النهضوي التنويري العقلاني الديموقراطي، إنما هم يعيدون ترتيب العلاقة مع مجمل هذه القيم الجليلة التي ضاعت في زحمة الشعارات.
إن رثاء طه حسين ليس رثاء لقيم العقل والحرية والمدنية فحسب، بل هو رثاء للذات -ذات اليساري - التي غاب عنها وهي تتطلع برومانتيكية حالمة، أن لا تقدم ولا عدالة دون أن تتحول مثل التنوير والعقلانية والنهضة والمدنية جزءا لا يتجزأ من الكيان الاجتماعي تسري في أوصاله وتتنفس برئتيه، أي أن يكون طه حسين في صلب مشروعها للتقدم.
هناك أمم كثيرة دخلت حضارة عصرنا دون أن يكون في تاريخها عمر بن عبد الخطاب أو علي بن أبي طالب، ابن رشد أو ابن خلدون، لكن ليس هناك أمة دخلت حضارة هذا العصر، دون أن يكون لديها طه حسين الخاص بها يفكك بنى العقل القديم ويؤسس للعقل الجديد.
وكل المزاعم الراهنة التي تتجاهل طه حسين ورعيله، يسارية كانت أم يمينية، حول دورها في التفكيك والتأسيس لبنية عقل عربي جديد، ليست متهمة بضميرها الأخلاقي بأنه تضليلي فحسب، بل هي ستكون تعبيرا مكثفا عن لحظة الوحل التي يغوص بها مشروع التحرر والتقدم العربي الراهن، لأنها تلغي قرنا من التقدم على هذا الطريق وهو العصر الليبرالي الذي بدأ تقنيا مع محمد علي وفكريا مع رفاعة الطهطاوي حتى المنتصف الأول من القرن العشرين، وذلك عندما تتوهم أنها بداية الشروع والتأسيس.
لقد ساهمنا جميعا بكل تياراتنا الفكرية والسياسية بتدمير الصفوة (صفوة العقل والمجتمع)، لقد غدا من المستحيل أمام هذه العدمية الظلامية أن تتشكل صفوة قادرة على قيادة الرأي العام في المجتمع، في ظل تلك القيادة الأسطورية للسلطة العربية التي لم يعد من الممكن والأمر كذلك، سوى أن تعلك النخبة نخبويتها من وراء ظهر السلطة والمجتمع معا، لتطرح نفسها -الصفوة - في زمن سديمي لا ينطوي إلا على الفراغ واللا جدوى.
ولتعيد هذه النخبة الجديدة- المفعمة بالحسد الضيق الأفق تجاه المشروع النهضوي- طرح الأسئلة ذاتها لجيل الرواد الشجاع، لكن بصيغة جبانة تارة بنيوية، وتارة طبقوية، وتارة ابستمية، وتقلب المجلدات فلا تجد لطه حسين أو أحمد أمين أو سلامة موسى موطئ قدم في أسفارهم الجليلة، وإذا ورد هذا الاسم فإما هو مؤثم طبقيا أو مؤثم قوميا، أو مؤثم دينيا، أو مؤثم منهجيا، في زمن يحكمه الإثم والتأثيم من السياسي إلى المفكر إلى الأديب والفنان.
منذ أكثر من نصف قرن (1923) أجاب جبران على استفتاء أجرته مجلة (الهلال) حول موضوع نهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية، يقول جبران: (في مذهبي إن السر في هذه المسألة ليس في ما ينبغي أن يقتبسه الشرق أو لا يقتبسه من عناصر المدنية الغربية - بل السر كل السر هو ما يستطيع الشرق أن يفعله بتلك العناصر بعد أن يتناوله).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved