الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th March,2004 العدد : 52

الأثنين 8 ,صفر 1425

عبدالرحمن منيف:
(مياه كثيرة مرّت تحت الجسر)
أحمد الدويحي

لا شك أن السيرة الذاتية المتكاملة، هي رواية في حد ذاتها خصوصاً أن الكتابة الروائية فيها جانب كبير ومهم من السيرة الذاتية لدى كتاب الرواية، وما أكثر من يكتبون رواية في هذا الزمن، وتكون السيرة الذاتية محورها، وربما كنت واحداً من هؤلاء. لكن عبدالرحمن منيف خارج هذا التصنيف ولا شك، لأنه سيرة استعصت على التدجين.
بي فيض من المشاعر المكبوتة، ولست أدري من أي نافذة منها أطل إليكم وما يسعدني أن روح عبدالرحمن منيف بيننا بما فيها من شفافية، فأود أن يكون موضوع حديثي هنا محدداً لجملة من الأسباب، أهمها: أن هناك جوانب مهمة ومتنوعة حياتية وأدبية. قد تقتضي منا ساعات للحديث حولها، وهناك جوانب أخرى ربما كان غيري مؤهلا للحديث عنها، وما سنتناوله بإيجاز هنا يتعلق بأجياله الروائية. فقد عرفت أدب الروائي العربي الكبير عبدالرحمن منيف في سنوات مبكرة، أفتش فيها بين سطور فن السرد الروائي العربي وجمالياته الثرة. ولم يكن عالم هذا المبدع مجرد فسحة للمتعة أو نزهة سهلة, نتوه فيها تواطياً مع البطل ونبكي خيباتنا وجراحنا النازفة، ولم يكن ذلك النتاج الملحمي تاريخاً سردياً سرياً مزيفاً. فهناك مدن تظهر وأخرى تختفي. وشخصيات وملامح وأوصاف مستمرة، لترصد في تصورات مشبعة بروح احتمالات وغزارة تأويل ومجسدة مشروعه الإبداعي الضخم.
لكن بداهة دعونا نسأل السؤال الافتراضي في البداية.
لماذا الرواية..؟
يصف د منيف تلك الرحلة المبكرة بقوله : جاءت حرب 1948م وتركت جرحاً عميقاً وسؤالاً: الضعفاء الضائعون لا يستطيعون شيئاً، ولذلك، وبعد فترة غير بعيدة عن هذا التاريخ، أصبحت واحداً من كل، وأصبحت على يقين انني وصلت أو بدأت الوصول!، ومن ذلك الناريخ وحتى عام 68م وقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يقولون، وتغيرت الأفكار والمواقع والأولويات إذ بعد محاولات صوفية في الاندماج بالعمل السياسي، واستغلال أوقات الفراغ بالقراءة والذهاب إلى المسرح، ومحاولة اكتشاف ما وراء السياسة، وبعد التمعن فيما يقال وما يجري، اكتشفت الخيبة والفراغ. والسؤال الأول، سؤال اليوم، وليس سؤال السماء، كان هاجسي الأول: كيف يمكن إعادة (اللعب) مع الأشياء القابلة للتشكل من جديد، باعتبارها مادة قابلة ومرنة ومساعدة من أجل صياغة العالم ضمن منطق أكثر منطقية وسلامة وقوة وقدرة على الاستمرار، أما لماذا الرواية؟. ربما لأن الرواية تعني إعادة تشكيل العالم ضمن أنساق وأشكال أكثر انسجاماً!، وربما أيضاً لأن الحياة في النهاية لا تعدو أن تكون رواية من نوع ما، حكاية عن جملة من الأشياء التي يحاول فيها الإنسان أن يسلي نفسه بها، وهاجسي في الحياة أن أخرمش، أجعل الناس قلقين، أن أقول لهم كم في هذه الحياة التي نعيشها تحديداً من المرارات والخيبات، وكم فيها من المسرات المسروقة، وبالتالي يجب أن نحاول أن نكون أكثر شجاعة وأكثر وعياً من أجل صياغة حياة جديدة، لا تسيطر عليها المحرمات.
ويضيف الأستاذ منيف: توجهت للرواية ليس كوسيلة للهروب وإنما كوسيلة للمواجهة، فقد كان للهزيمة تأثير في روحي لا يمكن أن أنساه، عالم بهذا الاتساع وبهذه الإمكانيات وأيضاً بهذا الكم الهائل من الشعارات والضجيج يهوي ويتساقط ليس خلال ستة أيام, وإنما خلال ساعات. وقلت في نفسي: هناك خلل كبير في الحياة العربية ولا بد من اكتشاف هذا الخلل وفضحه، وتبين لي أنني من خلال هذه الوسيلة أستطيع التعرف على الأماكن والأشياء أكثر مما أتعرف عليها من خلال خطب الزعماء والقادة أو من خلال برامج الأحزاب السياسية وشعاراتها، مما ساعد على إقامة علاقة خاصة بيني وبين الرواية، أما المكبوتات التي أعالجها فهي السياسية بالدرجة الأولى، وإن تكن الاجتماعية هي الأهم، أحاول قدر الإمكان أن اختصر جزءاً من الأعداء الذين يريدون رأسي! أما هذا الواقع الاجتماعي الذي أكتب عنه، فإنه حالة خاصة الى أقصى حد، الجثث الساخنة إلى جانب أقصى حالات التطرف، النظم البدائية في السلوك والتفكير، إلى جانب عصر الفضاء والجيل الثالث أو الرابع من الكمبيوتر، أقصى حالات التعصب إلى جانب أقصى حالات الانحلال والعدمية، في البيت الواحد تجد عدة عصور، وكماً من العقائد والأفكار والهوايات داخل حزمة هلامية من العلاقات المستمدة من السماء والوهم، ولذلك فإن الواقع الذي أحاول أن أكتب عنه هو هذه الكتلة من التناقضات، وأن أحرك القشرة الخارجية لأرى ما تحتها، الله! كم تحت هذه القشرة، العفة والطهارة والتقوى من الفضائح والوسخات! مجتمع.. يعمل كل شيء وبشجاعة سرية فائقة، لكنه يخشى أي شيء، ولو كان بريئاً وسمحاً أن يظهر إلى الخارج، ليس ذلك فقط وانماهو يلاحق ويعاقب من يقول جزءاً من الحقيقة!، وأحاول أيضاً أن اجعل الآخرين يمعنون النظر في واقع لا يحتاج إلى الدفن للوصول إلى واقع أكثر ضرورة وإنسانية.(1).
وتحفظ له ذاكرة المشهد الروائي العربي بامتياز الرواية الشعرية المؤسسة فيما بعد لعالمه الروائي ( الاشجار واغتيال مرزوق) الممتدة كحالة ثقافية عربية، تشكل ملامح حقبة زمنية محددة بالسنوات في الواقع، بينما هي في الحالة السردية، لا تتجاوز أكثر من ثلاث ساعات على حدود عربية، هي رحلة قطار التحولات في ذات المكان والزمان، وشهادة مثقف على عصره، ورهاناً لذاكرة سردية نهضت من وسط الركام، ومن أودية أحلام الخيبات والانكسارات والضياع.
وللدلالة على هذا الهاجس في الذاكرة السردية العربية. وتشخيصاً لتلك الحقبة الزمنية نتذكر (منولوج) الموت ل (رجال تحت الشمس) رواية المثقف غسان كنفاني، وهي تتناول ذات الهاجس، وتنتقي مكاناً حدودياً لتدور أحداثها فيه (صفوان)، وليرمز برجل (خصي) فاقد للفحولة والرجولة، يقود الرجال ليموتوا في نهاية مأسوية داخل (صهريج) مياه في طريقهم إلى مياه الخليج الدافئة، وإذا كانت الرواية العربية قد شكلت لها حضوراً على خارطة الإبداع العالمي ممثلة في فوز شيخها الأستاذ نجيب محفوظ بجائزة عالمية. فإنها اليوم أكثر غنى وعافية ولديها من التراكم المعرفي زخم هائل مما يجعلها تتابع (سباق المسافات الطويلة) كما تابع عبدالرحمن منيف رحلة الصيد مع (الفارس) عساف الخيل من هناك مع مجانين الطيبة الذاهبين إلى (النهايات)، وليدخلنا في مرحلة تالية غرف (مدن الملح) ملحمة في خمسة أجزاء هي (التيه الأخدود تقاسيم الليل والنهار المنبت بادية الكلمات) وليكمل الجزء الأخير من المشهد السردي في (أرض السواد) وفي ثلاثة أجزاء، وكأنه يريد أن يغرقنا قبل الرحيل في أرض ملئت بالحزن والسواد في المكان والفضاء وروح الشخصيات والأجيال المغرقة في تفاصيل السواد.
ولعلي في هذه الجزئية، استدرك قبل أن أخوض في عالم هذا المبدع الملهم، لاستدل بمقولة أخرى له حول رؤيته لواقع الرواية العربية، إذ وصفها ذات مرة بأنها كالنهر. منها النهر الصديق وهو الذي يفيض وقت حاجة الزرع إلى مياهه. فيأتي حاملاً معه الطمي والخصب كما في النيل. وهناك النهر الشرس وهو الذي يفيض وقت نضوج الزرع. فتفسد مياهه الكاسحة الكثير من المزروعات في أغلب الأحيان كما في حالة دجلة والفرات. ليتغلغل هذا الفساد كشريان سرطاني يكتسح جسد الثقافة العربية، لتسهم كثير من النوافذ الثقافية في التعمية والتضليل، وبالذات الإعلام الموجه بهدف تغييب مبدع وتلميع آخر لأسباب غير ثقافية، وسأتجاوز تسمية هذا في ساحتنا المحلية المليئة بنماذج كثيرة.
ونعرف في الحالة السردية العربية أسماء ضخمها الإعلام مثل:( الغيطاني القعيد) في مصر مثلاً في حين أن هناك أسماء ذات قيمة إبداعية كبيرة، لم تحظ بذات الانتشار مثل:( بهاء طاهر خيري شلبي عبدالحكيم قاسم إدوار الخراط صنع الله وغيرهم). لكن فارسنا تجاوز كل تلك العقبات وقد انفرطت مسبحة القلب والذاكرة على (قصة حب مجوسية وشرق المتوسط وحين تركنا الجسر والآن.. هنا) وتجاوز بحرفية سردية بداية اللغة الشعرية، وليشكل له عالمه الروائي كنسيج مواز لواقع يمثل العالم العربي في قارة آسيا وعلى وجه الخصوص شمال الجزيرة العربية، دون أن يسقط في حدود الجغرافيا السياسية، وليكتب تجربة روائية جديدة في فترة نضوج واستراحة محارب مع صديقه الروائي الفلسطيني الراحل جبرا ابراهيم جبرا بمواهبه المتعددة شاعراً وقاصاً وناقدا ورساماً وروائياً، كتب روايتين (صيادون في شوارع ضيقة) و (السفينة) ورواية صغيرة مدهشة، أنا كتبت عنها من عشرين سنة (الغرف الأخرى) لرجل يصرخ في المرايا المتعددة، وهي ذات الرحلة الموسومة بالعذاب والتشرد ورائحة السجون لنماذج روائية متنوعة، وهما قد وجدا في الأدب غايتهما وتعويض ما ضيعته السياسة في (عالم بلا خرائط) ، وقد عرفت بينهما الجملة الشهيرة، حينما يسأل أحدهم الآخر عن مكان نومها تلك الليلة.
فعملاق الرواية العربية يرى وقد خاض في عمق الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية والعربية، أن الأزمة الراهنة ليست محصورة في الوعي والحرية وأزمة المؤسسات الثقافية بكل ما فيها من فساد. إذ لا يعتبر أن هناك سبباً واحداً يمكن اعتباره هو سبب الأزمة. فهناك أسباب تراكمت عبر أزمان طويلة، فالمشهد الذي نعيشه في حالة أزمة، نتيجة لتوفر تعارضات فكرية، وانعدام وضوح الرؤيا ولعدم تحديد الأهداف تحديداً واضحاً، بالتالي أيضاً هناك عامل الوعي وهو شيء تاريخي، يتكون بالتراكم عبر فترات طويلة من خلال التصور الواضح، ومن خلال عملية الاستمرار، يتكون مزيج من الوضوح، ومزيج من تحديد أفكار وصور كثيرة وبذلك لا يمكن اعتبار أن هناك سبباً منفرداً، ولا يمكن اعتبار أن المرحلة القصيرة هي سبب الأزمة، ويمكن القول إن كثيرا من العوامل التي نلاحظها في الفترة الأخيرة، هي عوامل كاشفة، أكثر مما هي عوامل منشئة، الأزمات والارتباكات التي صارت على أكثر من صعيد، على صعيد تهاوى بنى سياسة وأفكار وعقائد وصيغ، وحالة الارتباك وحالة التشوش، مظاهر لازمة مستمرة ويمكن القول إن الحالة التي نعيشها اليوم جذورها تمتد إلى ما قبل عصر النهضة، إنها عميقة ومستمرة، الرواد الأوائل في القرن التاسع عشر، حاولوا أن يقدموا شيئاً، مواضيع في نوع من الصيغ والأفكار الأولية، للأسف كانت بدائية أولاً.
وثانيا: لم تتواصل، وتبدأ أي مشاريع جديدة من الصفر غالباً، وبدون تراكم معرفي وفي فترات الانهيارات الكبيرة، في فترات الأزمات، نلاحظ مثل هذه الحالة، وهي حالة طبيعية تقريباً، يعني أن كثيراً من الشعوب وكثيراً من التجارب الإنسانية، تمر بها حتى تستكمل جزءاً مهماً، وكبيرا من ادواتها الفكرية وصيغها، وأصبحت أقدر على مواجهة الأزمة، ولديها القدرة على ايجاد آليات معينة، للتعامل معها تمهيداً لحلها، لذلك ربما الحالة التي نعيشها اليوم، إنما هي تعبير عن القلق ونوع من امتحان الاحتمالات ونستطيع بدقة مع الأيام أن نحدد أكثر الأهداف ويجب أن نكون متواضعين.
كنا نأمل أن يكون هناك حلول جذرية وسريعة للقضايا الكبرى بدون دفع الثمن، وتبين لنا، الآن أن كل شيء يجب أن يحدد بدقة، ويجب تحديد ثمن هذا الطلب، من اجل تحقيق هذا الحلم الآن بكل هذا التراكم والاستمرارية، يمكن إيجاد حلول ناضجة..(2)
ومن (هون) على طريقته في الكلام، حينما يردد مفردة من هنا، لابد أن ندخل إلى عالمه من خلال تشخيصه وشهادته عن أجياله الروائية في سؤال مباشر ومن عمق عالمه الفني، لئلا نتوه فيما نريد وما تريد عواطفنا، ولنخرج اولاً من جفاف الفكر وأسئلته.
ومرة أخرى قلت له: ونحن نجوس في عالم ملحمي ضخم، نريد أن نعرف كيف بنى عبدالرحمن منيف من الهم هذا المنجز، نريد شهادة لنعرف أوجه التغير في طبيعة أجيالك الروائية وصولاً إلى أرض السواد؟.
قال: هذا ولا شك سؤال كبير ومتشعب، وبالتالي لابد أن تقتصر الإجابة على ملامسة بعض الجوانب، لاننا بالتأكيد لن نلم بكل شيء، إنما على الإجمال عندما أكتب، أحاول أن أتناول موضوعاً محدداً بذاته كنوع من التصور الأولي من خلال موضوع العمل ومن خلال الشخصيات والمناخ الذي يتولد فيه العمل، تتضح الأمور تدريجياً، وزعم كبير أن يكون مفترضا أن كل شيء واضح من البداية، أو التصور الأولي للموضوع، او معرفة التوجهات او التوجه العام الذي سوف يصل إليه العمل، ولو أفترضنا ان شخصية (ما) ربما ليس لها وضوح وملامح، انما مجرد دخولها في الذات الروائية، تتضح بردة فعلها مع الآخر ومع الجو الروائي، وانه بدأت تتغير بفعل العوامل المحيطة، ثم تتكون تدريجياً من هذا الهامش البدائي، وتتحدد الملامح من خلال النمو مثل الطفل، هو مخلوق جميل له كيان، لكنه لا يأخذ فاعليته إلا من خلال الحياة، هناك اعتبارات تسرع وتضيف وتغير وتهول في الاشكال والموضوع والملامح، ومسألة جيل في حد ذاته هو جيل افتراضي، أنا كاتب ولي قارئ عام وليس لي قارئ محدد، هناك أجيال مختلفة تقبل على قراءة رواياتي، بهدف المعرفة والاكتشاف واكتساب معلومات، ومحاولة افتراض صيغ وأشكال معينة، ومن هنا انتفت فكرة انها لا تعني إلا نفراً محدداً او شريحة محددة، وتبين أن القضية فيها نوع من الفضول عند القارئ، ليعرف كيف تكون الحياة في العالم الروائي، وكيف نمت الشخصيات وكيف أخذت شكلها النهائي وهي مثل سباق التتابع الذي (حكينا) عنه البارحة، كل جيل يسلم الراية للجيل الآتي بعده، أجيال تتابع السباق وتسلم الرايات لأخرى، أي روائي هو إضافة، وهو فتح وشق لطريق جديد.
قلت له: عفواً دكتور.. أريد ان أحدد سؤالي في هذه الجزئية.. وصفت في مواقع أخرى أجيال عالمكم الروائية، بأن الجيل الراهن هو جيل ثورة المعلومات وثورة الاتصالات، ووصفت الجيل الأول من عالمكم بأنه جيل استمد افكاره وطروحاته ونشاطه وفاعليته في الحياة من الخرافات والغيبيات، وهناك من يصف ذلك بأنه أدب تدويني، بمعنى انه اقرب إلى التسجيل التاريخي، وتقول بأنك تضع الجذر وتبني عليه حتى أقمت لنا هذا البناء المتعدد الأدوار.. فما هي شهادتك؟
فقال: يا (أحمد) التصنيفات كثيرة ومتعددة من ناحية زوايا الرؤيا، ومن حق الآخرين أن يصنفوا ويعيدوا تركيب العالم ضمن افتراضات معينة، انا كاتب تنتهي مهمتي عند ما انتهى من كتابتي، الكتابة عندي تنتهي عند ما تصبح ملكاً للآخرين وكل جهد مطلوب يوضع قبل أن تنتهي الكتابة، وكل فرضية يراد امتحانها كاحتمال يجب أن تتم من خلال الكتابة، واذا اصبحت ناجزه، يعني انتهت..!
كتابتي في مرحلة ماضية لها اهمية تأسيسية، الكتابة اللاحقة كتابة تضيء، أخرى تقود القارئ إلى الكشف عن عالم أرحب، عالم جديد ومختلف، وعوالم الرواية تحديداً بمقدار ما هي محددة بصيغة معينة للأشياء، فإنها تفتح نوافذ للأسئلة الكبيرة، والأسئلة بمقدار ما هي ملك للكاتب، هي ايضاً ملك للقارئ ليعيد تشكيل الإجابات وفق قراءاته وثقافته وتجاربه في الحياة، الكتابة المهمة هي التي تطرح احتمالات وأسئلة وتضيء جوانب معينة، وتترك بعض الجوانب في الظلال وهي عملية مشتركة بين اكتشاف أشياء جديدة، وإعادة ترتيبها من جديد لتتناسب مع كم الوقائع المعدة والمستجدة.
وعودة إلى سؤالك عن عالم البدايات والكمبيوتر، فبين هذين العالمين فسحة من الوقت والتراكم التاريخي الطويل، ولو نظرنا في مقاربة إلى عدد الجامعات في عالمنا العربي حالياً بما هو موجود مع بداية القرن العشرين، لوجدنا فرقاً هائلاً وكبيراً حتى بعدد الخريجيين، يعني تحول مفهوم المعرفة والمعلومات والعلاقة مع الآخر، الاسئلة الكبيرة حينما تكون مفتوحة تكون أغنى، ليس من مهمتي أن اقدم لك عالماً ناجزاً، مهمتي اقدم لك كماً من الأشياء، ومهمتك أن تعيد بحرية صياغتها، وترتيبها في ظل تجاربك وهمومك!!(3)
ويحدد منيف هذه الرؤية في موقع آخر بقوله: قناعة الكاتب وهمومه ورغباته لا تبدو كذلك بالنسبة لكتاب آخرين، فالرواية الأولى تختلف عن الرواية الأخيرة وأن كان بينهما شيء مشترك، الرواية الأولى خطوة في الظلام، وهي ايضاً شهادة إذا حصل الاعتراف بالروائي او لم يحصل وايضاً هي الهم الأكثر وجعاً الذي يريد الكاتب أن يوصله كشهادة او رسالة، اما الروايات التالية وبمقدار ما كان الأساس ثابتاً او غنياً، فيمكن للكاتب أن ينوع ويسرع في (التقاسيم) الأكثر أهمية او ضرورة ضمن مقاييس معينة، فالهم الأساسي أن نصل إلى رواية عربية، بحثت بكثير من الصمت والتواضع عن صيغة هذه الرواية، حاولت ذلك بالاعتماد على الأسطورة في الرواية الأولى (الاشجار واغتيال مرزوق)، وحاولت في الأصوات المتعددة في (شرق المتوسط)، وواصلت البحث في (النهايات) حين جعلت القصة القصيرة جزءاً من الرواية، وحاولت مع صديقي جبرا ابراهيم جبرا في (عالم بلا خرائط)، وبدل الفرد، حاولت أن الحيوان بطلاً في الرواية الأولى (حين تركنا الجسر) لما اصبح الكلب وايضاً البطة مخلوقين أكثر قدرة على التعبير والإيصال من الذين مستهم الهزيمة، وسيطر عليه التلعثم، وحاولت ايضاً بالنسبة للمكان حين جعلت الأرض تصرخ، تستغيث طلباً للماء أو احتجاجاً على القسوة، واستمرت المحاولة في (مدن الملح)، اذ رفضت اشجار النخيل أن تهوي اول الأمر، ثم قاومت اما حين لم تستطع ان تستمر، فقد أخذت تصرخ ثم بكت، وظلت آثارها معلماً لا يمكن أن ينسى!، والشىء نفسه يمكن أن يقال عن البشر، فقد أصبح البطل الفرد أقل إغراء بالنسبة لي، يجب أن نقدم أبطالا مغايرين عن الأبطال الامريكيين، وهذا يعني أن البطولة تجسيد وتلخيص لحالة، وهذا ما حاولته بشكل اساسي في (مدن الملح)، حيث كان البطل اذا صحت مثل هذه التسمية التي تحتاج الى تدقيق هو تعبير عن لحظة، عن فكرة، عن حالة، وأكثر مما هو (سوبر مان)، هذه الفكرة تحتاج إلى كثير من التوقف والمراجعة، لنصل إلى معادلة لمفهوم البطل والبطولة، ومن هنا فإن مبدأ (التجريب) في الرواية مطلوب إلى أقصى حد.
وأذكر انه سألني في المرة الأخيرة وما أكثر أسئلة عبدالرحمن منيف التي بقيت في ذاكرتي ما بقيت حياً، وستظل مخزوناً مهما لم يحن وقته، إذ كنت قد قرأت الثلاثية الأخيرة (أرض السواد) المكتوبة باللهجة العراقية الدارجة (المحكية) ، فأبديت تذمري لجهلي الكبير بمفردات هذه اللهجة وصعوبة فهمها، فقال بدهشة:( لكنكم ترددون شعر مضفر النواب!)، فحاولت إقناعه بخجل أن الكتابة باللهجة المحكية مشكلة، لأنها تشتت الذاكرة وربما كانت هي النسيج الأم في الرواية، ولم يقتنع في حينه، فهو يرى الروائيين والمسرحيين والشعراء، هم اقدر الناس على تطوير اللغة بكثير من المجامع اللغوية لأنها جهات تفتح القواميس، بينما الروائيون يذهبون للحياة، وهذا ما يجعل أي روائي يفضل قدر الإمكان اختصار الحوار.
جاء عبدالرحمن منيف من السياسة للأدب، ووجد نتاجه الروائي صدى مهما في الأوساط الثقافية العربية والعالمية، وترجم الى اثنتى عشرة لغة، وقرأت مرة لأحد نقادنا بأنه يراه سياسياً او كاتباً تاريخياً دون أن يرى فيه الجانب الروائي، وتلك نظرة ترى من زاوية ضيقة. ولم تر كل الخراب الذي صوره المشهد الروائي، وكان عبدالرحمن منيف واحداً من أهم شهوده، لان الروائي يتكيء على اليومي والمحكي والسياسي والأسطوري والديني، ولم يأت منيف من دهاليز الف ليلة وليلة، بل جاء من لحم الواقع. وقرأت كلاماً مجانباً يتبنى مواقف لبعضهم تصل إلى حد السفاهة وله رأي يرد عليهم به في هذه الخصوصية، اذ يقول إن المكبوتات السياسية في نصه، قد تأخذ قدرا من الأهمية، لكن الهم الاجتماعي، هو الأهم، وأخيراً فقد كانت القيادة السياسية في هذا البلد أكرم منهم جميعاً تجاهه، حينما لبت رغبة بعض الكتابات بعد رحيل الرجل، أدع الآن هذا..
والآن.. هنا، وقبل أن أختم ما دمنا في حالة سردية، أروي حكاية صغيرة وطريفة ونحن ننظر للتنوع وننتظر التعددية فقد كتبت رسالة إلى المبدع الراحل عبدالعزيز مشري الذي صور في مشروع إبداعي كبير الحياة في المنطقة الجنوبية، برغم شدة ظروفه الحياتية الصحية الصعبة، دون أن يجد عوناً الا من بعض اصدقائه، ومنهم بطبيعة الحال الاستاذ محمد القشعمي، قلت في رسالتي المرحة بغير براءة للراحل المشري، بأن صديقه القشعمي اصدر (البدايات) لتكتمل الصورة السردية من الماء الى الماء، وبخبث مني في إشارة الى الروائي المغربي الكاتب (محمد شكري) وفرق بين طنجة ونجد.
وجدت أن القشعمي يقدمني الى صديقه الآخر عبدالرحمن منيف في معرض دمشق الدولي للكتاب، وكنت أظن انني اعرفه اكثر منه، فرأيته يتدفق بعذوبة في تواضع لا يكون الا للكبار فتقدمت اليه وقلت له:( أريد موعداً لحوار ادبي) فضحك في خجل ومنحنا عشر دقائق مجاملة للسلام والتعارف، وقد أحاط به العشرات من أدباء واصحاب دور نشر واصدقاء وقراء له، كان زاهداً في مثل هذه الحوارات، بسبب ظروفه الصحية وزعم بأن ما يقوله لا ينشر في الصحافة السعودية اخترت محوراً رآه حيوياً ومهماً يتعلق بأجياله الروائية، وحينما حانت منه إيماءة موافقة على الحوار، مال القشعمي ووصفني نكاية بشريحة بشرية محددة، فقدت في تلك الليلة الجمال (أمل أن تعذروا لكنتي الغامدية التي تعطش حرف الجيم، ولا اضطررت لرفع المفعول به ونصب الفاعل..!) فقد بلغ بي الغضب مداه في أطول ليلة في عمري، ونسيت إعداد اسئلة الحوار ونسيت انه يعرف تاريخنا السري جيدا، وضحك كثيراً على نكاية القشعمي بي، وكان معي في حواره نهراً من نوع (النهر الصديق)، نهر الروايات إذ يفيض نوعاً وكماً من احتشاد فضاءت ليحمل فيضانه الطمي والخصب والبشارة بحياة فيها كل الخير، ونشر حواره كاملاً في الصحافة السعودية، ومنها نقل الى أكثر من مطبوعة عربية.
وها هو التاريخ يعيد نفسه.. فإذا كان القشعمي قد ورطني في صداقة عبدالرحمن منيف، بحيث لم أكن في السنوات الأخيرة استطع زيارة دمشق دون رؤية (ابا ياسر) رحمه الله، فقد ورطني اليوم ومع هذا أعتز بصداقته، وسعيد بهذه الورطة الجميلة.
1 مجلة مواقف
2 البلاد السعودية
3 مجلة أدب ونقد
نص الكلمة المشاركة في الحوار حول تجربة رائد الرواية العربية بمركز حمد الجاسر الثقافي
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved