الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th March,2004 العدد : 52

الأثنين 8 ,صفر 1425

مساقات
في معايير الفحولة!
د. عبدالله الفيفي

قال(ابن جنّي، الخصائص): (وكان الأصمعي يعيب الحُطيئة ويتعقّبه، فقيل له في ذلك، فقال: وجدتُ شعره كله جيّداً، فدلّني على أنه يصنعه. وليس هكذا الشاعر المطبوع: إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه، جيّده على رديئه). والعرب، كما يقول (ابن رشيق، العمدة): (لاتنظر في أعطاف شعرها بأن تجنّس أو تُطابق أو تُقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام، وجزالته، وبسط المعنى، وإبرازه، وإتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلام بعضه ببعض...).. فهو نوعٌ ممّا سمّوه بحُسن السبك، واطّراد البناء، الدالّ على صدق الشاعر ومهارته في آن، دون تكثّر يدلّ على كلفة ومشقّة وتعمّل مقصود، ممّا (لم يجز البتة أن يكون طبعاً واتفاقاً، إذ ليس ذلك في طباع البشر)، كما ذكر ابن رشيق.
ويقابل ذلك المستوى من الاعتماد على الطبع مستوى ثانٍ، هو ذلك الذي يجمع فيه الشاعر بين الطبع والصنعة، وقد اختاروا للشاعر في تلك الحالة لقب (الفحل).. وهو لقب اختُصّ به(علقمة بن عبدة)، ولكنه اتُّخذ لقباً عامّاً لكل شاعر يجمع في شعره بين الطبع والصنعة، فيُحْكِم عمله إحكاماً فنّيَّاً تامّاً، وقد جعلوا الشعراء طبقات متفاوتة في ذاك، كما يتمثّل هذا في كتاب (فحولة الشعراء) للأصمعي، أو(طبقات الشعراء) لابن سلاّم الجمحي. ومهما يكن الرأي في طبقاتهم تلك وتصنيفاتها، فإن في معايير الفحوليّة ومنها: طول النصّ، وإحكام بنائه، وكثرة نصوص الشاعر، ومن ثمّ ركوبه كل بحر وقافية دليلاً على احتفائهم بالصنعة إلى جانب الطبع في استحقاق الشاعر لقب الفحوليّة.. ولارتهان صفة الفحوليّة بالصنعة كانت الفحوليّة تعني الابتداع والتميّز، وأن يكون الشاعر مجدّداً لا مقلّداً، فكلام الفحل(لا يُنْحَل)، كما وصفه الفرزدق في شعره، لا ينتحله هو من شعر غيره ولا ينتحله غيره من شعره، وإلاّ لافتضح أمره لفرط تميّزه وشهرته.. أي أن للفحل مزيّة على غيره كمزيّة الفحل على الحِقاق، حسب تعريف الأصمعي، ولا يتحقّق هذا بطبعٍ لا تصحبه صنعة.. ولذلك كله عُدَّ(المهلهل) مهلهلاً لا(فحلاً)، (ولو كان قال مثل قوله: (أليلتنا بذي جشم أنيري...) كان أفحلهم. وأكثر شعره محمول عليه).. حسب (الأصمعي، فحولة الشعراء). ولقد استحق علقمة بن عبدة لقب الفحل، لا لأن هناك علقمةً خصيّاً في رهطه فمُيّز عنه بلقبه هذا كما زعم الزاعمون ومنهم (الجمحي) و (ابن قتيبة) ولا لأن أمّ جُندب مالت إليه ميلاً جنسيّاً ففضلته على بعلها امرئ القيس وخلفه على نكاحها وهو ما لجأ إلى الاعتذار به امرؤ القيس نفسه ولكنه استحق لقب الفحل قبل ذلك وبعده لأسباب فنية، هي:
1 لأنه قد أحسن من صنعة الوصف ما لم يحسنه امرؤ القيس، ففطن إلى جانب صنايع يتعلّق بما يجب في وصف الخيل، ممّا يفوت على صاحب الطبع الذي لا يُرجع البصر الواعي إلى شؤون خارجية تستدعي أن يعيد الشاعر خواطره الشعرية على أساسها.. وذاك كان أحد الأسباب التي اكتسبت لديهم بها قصيدة علقمة صفة الروعة، كما يشير (الجمحي).. وهو كذلك ذات السبب الذي شرطوا إمكانية وصف المهلهل بالفحل بتحققه لديه، وهو أن لو كان قد قال مثل قصيدته، المدونة في(كتاب البسوس): (أليلتنا بذي جشم أنيري...) كان أفحلهم، لما تميّزت به قصيدته تلك من صنعة وصفيّة للنجوم والكواكب.. هذا إلى معاييرهم الأخرى التي توفّرت عليها تلك القصيدة، كالجزالة، والطول، الذي يُروى أنه تجاوز الخمسين بيتاً.
2 لأن له قبل ذلك(ثلاث روائع جياداً لا يفوقهنّ شعر)، حسب رأيهم.
3 لأن العرب كانت(تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردّوه منها كان مردوداً، فقَدِمَ عليهم علقمة بن عبدة، فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:(هل ما علمت وما استودعت مكتوم)، فقالوا:(هذه سمط الدهر)، ثم عاد إليهم العامَ المقبل، فأنشدهم:(طحا بك قلبٌ في الحسان طروبُ...)، فقالوا:(هاتان سِمطا الدهر). (الأصفهاني، الأغاني).
وإذا كانت الفحوليَّة تمثّل ذروة المثالثة الفنية لديهم، لما تتميّز به من توازن بين الطبع والصنعة، فإن غَلَبَة الصنعة على الطبع تمثّل حالة من الجودة أقلّ مستوى من الفحوليّة.. وقد كان لقب (المحبّر)، الذي أُطلق على (طُفيل الغنوي، ت. نحو 610) يشير إلى هذه الخاصية، خاصية أن الصنعة لديه قد غلبت على الطبع. ذلك أن طُفيلاً كان أوصف العرب للخيل، (وكان يسمى طُفيل الخيل لكثرة وصفه إيّاها، والمحبّر لحُسْن وصفه لها)، كما يشير(البغدادي، الخزانة). وهناك من عمّم نعت التحبير على شعر طُفيل، فذهب إلى أنه سمي محبّراً لتحسينه شعره، ك (الأصمعي، فحولة الشعراء، والصولي، أدب الكُتّاب)، لأن(التحبير) إضافة إلى إيحائه بالحبر والكتابة عملية صناعية نظيرة(للنسج، والتأليف، والصياغة، والبناء، والوشي، وما أشبه ذلك، ممّا يوجب اعتبار الأجزاء بعضها من بعض، حتى يكون لوضع كلّ حيث وُضع علّة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وُضع في مكان غيره لم يصلح)، على حد وصف(عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز). ولا غرو، فقد كان المحبّر أحد أساتذة زهير بن أبي سُلمى رأس مدرسة الصنعة، الني لُقّب أصحابها بعبيد الشعر لكثرة ما يُعملون فيه التنقيح والتثقيف والتحكيك, ولا يذهبون به مذهب المطبوعين. ومع هذا فإن الصنعة لم تنزع عن المحبّر صفة الفحولة، التي يضفيها عليه الأصمعي، كما لم تنزع الصنعة صفة الفحولة عن زهير.
مقام:
يُشيعُ المرجفونَ بأنّ خَطْباً
طَوَى بالنَّثْرِ ديوانَ الجُمُوحِ
وأنَّ قصيدةَ اليومِ استقالتْ،
تنامُ على حروفٍ من صَفيحِ!
كذا كذبوا، وبعضُ الحَقِّ كِذْبٌ
يواري سَوْأَةَ الكِذْبِ الصَّريحِ!


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved