الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 29th August,2005 العدد : 120

الأثنين 24 ,رجب 1426

منوفي لـ «المجلة الثقافية »
باحث إسباني يتغلغل في جوهر الثقافة الإسبانية لينصف الحضارة العربية
أمريكو كاسترو يؤصِّل التأثير العربي الإسلامي في إسبانيا
حاوره: عباس المدهش
للحضارة العربية الإسلامية تأثير متأصّل بل ومتجذّر في تراث وتراب الأمة الإسبانية، ولا ينكر تلك التأثيرات إلاّ جاحد للشمس في وهج الظهيرة .. وللمزيد من الحقائق التاريخية، التقت (الثقافية) أستاذ اللغة والأدب الإسباني سابقاً بكلية اللغات والترجمة جامعة الملك سعود، الدكتور علي إبراهيم منوفي، الذي له العديد من المؤلفات في هذا الجانب، منها العمارة المدجنة، الشعر الإسباني خلال القرن العشرين، وتاريخ إسبانيا المسلمة .. وسيتمحور حوارنا معه حول الكتاب الذي ترجمه أخيراً: إسبانيا في تاريخها (المسيحيون والمسلمون واليهود) للباحث الإسباني أمريكو كاسترو، والذي صدر عن المشروع القومي للترجمة مصر 2003 وأحدث بدوره ضجة إعلامية في الأوساط الثقافية الإسبانية والعربية.
* بداية حدثنا عن أمريكو كاسترو الباحث الإسباني المنصف لحضارتنا.
يعرف جميع المختصين في الدراسات الأندلسية (الأدبية منها والتاريخية على وجه الخصوص) الكثير عن أميركو كاسترو .. إنه أحد أبرز علماء الدراسات الإنسانية الإسبان، وهو تلميذ العلامة اللغوي والناقد الشهير رامون منتديث بيدال، وقد نشر العديد من الأبحاث، غير أن أبرز كتابين صدرا له في ميدان الدراسات اللغوية والتاريخية هما (فكر ثربانتس) وكتاب آخر حاز شهرة واسعة بين المتخصصين في الدراسات الأندلسية ألا وهو كتابنا هذا (إسبانيا في تاريخها) ففيه أخذ طريقاً غير طريق السرد التاريخي ليحدثنا، ليس عن الوجود العربي الإسلامي في شبه جزيرة إيبيريا كسلسلة من الأحداث التاريخية فحسب، وإنما كمكوّن أصيل وفاعل في تكوين الهوية الإسبانية، وبأسلوبه وقدرته العجيبة أرانا كاسترو ما لا نراه، وكشف النقاب بموضوعية شديدة في التناول، جوانب مغيّبة، فكانت النتيجة الملموسة هي الانتصار للفاعلية الإيجابية للوجود العربي الإسلامي. وإذا ما تأملنا محتوى الكتاب المذكور جيداً لوجدنا أنه من أكثر إسهامات المؤلف ثراء، وأبرزها في ميدان تكامل العناصر الثقافية الإسبانية، بمعنى أنّ الثقافة العربية الإسلامية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تكوين البنية الثقافية والحضارية الإسبانية، أي أنه يدخل بنا إلى دائرة تتجاوز حدود التأثير والتأثُّر على طريقة الأدب المقارن، فليس من المعقول أن يتساوى تأثر دانتي بقصة الإسراء والمعراج، عندما كتب الكوميديا الإلهية، مع ما أحدثته الثقافة العربية الأندلسية في شبه الجزيرة الأيبيرية، مع رسم ملامح الهوية الثقافية والحضارية لإسبانيا والبرتغال، التي جعلت مؤلف هذا العمل أمريكو كاسترو يقول إنّها هوية لا شرقية ولا غربية، ومن هنا نرى أن الدكتور سليمان العطار لخص هذا الكتاب وعنونه ب(حضارة الإسلام في الأندلس). غير أن الدكتور الطاهر مكي يعترض على مثل هذه التلاخيص بشدة، حيث يرى أنّ كلَّ عنصر في الكتاب مهم للغاية في قراءة تاريخ إسبانيا خلال العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة.
* ما أهم تيارات التاريخ الإسباني؟
أشير ها إلى وجود تيارين لقراءة هذا التاريخ، أحدهما ذلك الذي يتزعمه المؤرِّخ الشهير (كلاديو سانشيت ألبورنوث) حيث يشير إلى وجود كيانين هما إسبانيا الإسلامية، إسبانيا المسيحية. ويرى أنّهما كيانان مختلفان ومتضاربان. وإسهاماته في هذا المضمار كتاب بعنوان (إسبانيا لغز تاريخي) وهنا يقف ألبورنوث موقف الرافض لمبدأ دخول الثقافة العربية الإسلامية كعنصر رئيس في تكوين الهوية الثقافية والحضارية المعاصرة لإسبانيا.
أما التيار الثاني فيتزعمه أميركو كاسترو في هذا الكتاب (إسبانيا في تاريخها) يقدم رؤية وقراءة مغايرتين، إذ يرى أن مكونات هذه الهوية أخذت تتمحور منذ البداية في شكل حياتي معيّن يختلف عن الشكل الإسلامي وعن الشكل الأوروبي، رغم أنّه نسيج من كلا العنصرين. وبدخول إسبانيا في ذلك الإطار ومسيرها في ذلك المجرى الذي حفرته لنفسها أخذا تواصل حياتها طوال قرون عديدة.
ويعد أميركو كاسترو في قراءته هذه على وجود عناصر مؤثرة في تكوين هذه الهوية الثقافية والحضارية الإسبانية، وهي أولاً: العنصر الضاغط من الشمال والقادم إلى تلك الأراضي عبر جبال البرانس، وقد تمثلت ملامحه في عناصر سياسية تحاول أن تفرض هيمنتها باسم الدين من خلال جماعات مشهورة مثل جماعة المعبد وجماعة كلوني، وهي جماعات اعتمدت فكراً دينياً يُستخدم كستار لتحقيق غايات نفعية حياتية، وبالتالي تكتسب منطقية المقارنة بين ملحمة رولان أورولدان، وبين ملحمة السيد في هذا الكتاب. ثانياً يعتبر المؤلف أنّ العنصر العربي الإسلامي هو العنصر الضاغط الثاني الذي أسهم إسهاماً كاملاً وفعّالاً في تشكيل الهوية الإسبانية، وعلى هامش هذا العنصر هناك اليهود الذي كانوا يدورون في فلك الثقافة العربية الإسلامية، ثم أصبحوا بعد التحولات التي طرأت على وضع الحكم العربي الإسلامي (في عهد المرابطين والموحدين) يدورون في الفلك القشتالي، غير أن وضع المعادلة بالنسبة لهم قد تغير في هذه الحالة الأخيرة، فلم ينتقلوا إلى المعسكر الآخر وهم خالو الوفاض، حيث إنهم كانوا أكثر تفوُّقاً ثقافياً وحضارياً من القشتاليين، ولعبوا دورهم غير المحسوب الذي أدى بهم إلى التنكيل والطرد وبدء ظهور محاكم التفتيش، وأثروا كثيراً في الأدب الصوفي.
* ما أبرز الفرضيات والملامح التي اعتمدها كاسترو في كتابه هذا؟.
اعتمد كاسترو الفرضيات التالية:
عدم القبول بالتجريدات القائلة بأنّ إسبانيا لها ملامحها المسبقة على الأرض الأيبيرية، حيث يرى أنصار هذه المقولة بأنّ الوجود الإسلامي غير المرغوب فيه قد هبط فوق هذه الصورة المفترضة لإسبانيا، وعندما ذهب استعادت البلاد كينونتها الأبدية بعد فترة انقطاع أليمة.
يرى أن وعيه يدرك ما هية ما هو إسباني وأنه ذو ملامح وشكل لا يمكن له البحث عن جذوره فقبل عام 711م، أي أنه يرفض التضخيم أو المبالغة في الإعلاء من شأن العناصر الرومانية والمسيحية والقوطية في تكوين الهوية الثقافية والحضارية لإسبانيا المعاصرة.
يرى أن ما يطلق عليه (بالمسار الحيوي) الذي هو في الكيان التاريخي والإسباني الناجم عن الوجود المسيحي والعربي واليهودي، يجعل من غير الملائم القول بأنّ ما هو إسباني كان أوروبياً أو مشرقياً، وبالتالي لا بد من البحث عن ماهية ثالثة أطلق عليها في ثنايا الكتاب (بالقنطورية) لا شرقية ولا غربية، وهنا يكون من السهل فهم الإشكالية المتعلقة بالهوية الثقافية والحضارية لإسبانيا. ويكتسب كل شيء ملامحه بجلاء مثل الأبعاد المتعلقة بالقديس شنت ياقب، ورخوان رويث مؤلف كتاب (المحمود) وهو واحد من المدجنين حيث سار على نهج ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة، كما تظهر محاكم التفتيش وكأنها النقمة العمياء والحانقة بالنسبة للضياع أو التيه اليهودي. إذا ما كانت هذه الفرضيات أو بمعنى أصح (نظريته) الخاصة بقراءة تاريخ إسبانيا، وتحديد ملامحها الحضارية، فما هي يا ترى خطوات العمل أو البراهين الي أعدّها لإثبات هذه النظرية القائلة باختلاف إسبانيا عن الشرق والغرب، وأن المكوّن الثقافي الحضاري العربي والإسلامي عنصر رئيس في تكوين تلك الهوية، وبدونه لا يمكن فهمهما وقراءتها قراءة صحيحة؟.
* وما المنهج الذي اعتمده كاسترو في كتابه؟.
يبدأ كاسترو بإحداث مقارنة هادئة بين ما خلّفته الثقافة العربية الإسلامية منذ أن دخل المسلمون شبه الجزيرة الايبيرية، وما خلّفته الغزوات البربرية، فالمسلمون جاءوا مدفوعين بقوى تثير الإعجاب، وهي الوحدة السياسية والوازع الديني، كما أنهم توسعوا في أرجاء العالم بمرونة وهم يحملون على ظهورهم ميراثاً دينياً وسياسياً، وكذلك أصداء أفضل ثقاقات العالم القديم، وسرعان ما أعادوا الحياة إلى تلك الأصداء, كما امتلك الأدب العربي منذ القرن السابع ثروة هائلة من الأفكار ووسائل التعبير التي لا يمكن أن نجد لها مثيلاً. أما الغزوات البربرية فلم تخلِّف وراءها إدارة مركزية يمكن الحديث عنها. وعودة إلى ما خلّفته الثقافة العربية الإسلامية، نراه يركز على التسامح (حيث بقيت أعداد كبيرة من الجماهير المسيحية تحت السيطرة الإسلامية واستمر هؤلاء في ممارسة حياتهم طوال أربعة قرون، إلى أن هبّت الغزوة المرابطية ثم تلتها الموحدية).
* ما أهم البراهين التي اعتمدها كاستروا ومن خلالها كان التأثير العربي الإسلامي في شبه جزيرة ايبيريا إجمالاً؟.
بهذه العجالة سأركز على تلك البراهين التي ساقها كاستروا لقراءة منطقية في نظره لهوية إسبانيا، والتي تتلخص في الأبعاد اللغوية والجوانب الأدبية والحديث عن ميلاد بعض الشخصيات، أو التوجُّهات مثل الدنجوانية ورواية العظيم (ثربانتس) دون كيخوته.
أولاً الجوانب اللغوية:
يرى المؤلف أهمية تأثير البعد اللغوي فاللغة مؤشر على منهج حياة، ويؤكد مع هذا أنه لا يدخل في عملية بحث لغوي، فليس هذا المقام لجمع الطريف من القول في نظره، بل لتأمل ميلاد بعض العبارات كجزء من محاولة بناء هيكل تاريخي، والأمر لا يتعلق بالحدث في حد ذاته، بل بما يعكسه وما نعمل على إبرازه، اي أن اللغة شواهد على شيء أو وسيلة تعين على نهج نسيج الحياة الإسبانية بشكل أكثر جلاءً.
أ المفردات اللغوية:
ويشير المؤلف إلى أنه كان من حسن الطالع استمرار وجود العرب (الموريسكيين) في إسبانيا لأكثر من تسعة قرون، ففيما يتعلق باللغة هناك الآلاف من الألفاظ والمصطلحات العربية، التي ما زال بعضها حياً، بينما عفا الزمن على بعضها الآخر, وقد تأصّل ذلك في لغة الأدب ولغة الحياة اليومية.
ويضيف بأنّ التراكيب النحوية لم تتأثر بالعربية، وذلك لأن التراث المكتوب ذا الأصل اللاتيني الروماني، لم يفقد بكامله، بل تم التأكيد عليه متزامناً مع درجة الوعي القومي الذي كانت عليه الدولة المسيحية، لكنه يقر بوجود هذه الألفاظ، فهذا أمر بدهي وواضح للعيان ويقوم به الكثير، غير أنه يذهب إلى أبعد مما وصل إليه الدارسون الآخرون في هذا المقام، ألا وهو اكتشافه لمصطلحات لاتينية مهجنة لغوياً بفضل الوجود العربي الإسلامي، أي أن هذه الألفاظ أخذت تحمل معاني لألفاظ عربية، وهذه المعاني لم تكن لتحملها لو لا احتكاكها باللغة العربية، فعلى سبيل المثال نجد كلمة(oio) (عين) في الإسبانية تحمل معنى (عين ماء تفيض في السهل) وهذا مفهوم لا يندرج في أفق ما هو روماني. وما يفسر وجود هذا المعنى الجديد هو كون الكلمة جزءاً من اسم علم .. نذكر لفظاً آخر الظل ( sombra) حيث اكتسبت إحدى دلالاته العربية، فنقول مثلاً بالإسبانية إن فلاناً ثقيل الظل أو خفيفه(fulano es de buena) وهذه معاني لا توجد للكلمة في اللاتينية أو الرومانية. وفي هذا المقام نجد المؤلف يخصص عنواناً جانبياً لشرح كيفية دخول معنى آخر إلى لفظة (hidago) بمعنى الشريف حيث هي مكونة من لفظتين هما ابن (higo) وشيء (algo) أي أنهما تضمان المعنى العربي الذي يندرج تحت تركيبة مثل ابن الأيام، وابن الذوات، وابن الليل ..... الخ. وهي تركيبة تشير إلى الإنسان وظروفه.
ب التأثيرات القرآنية:
يرى أن من يقرأ القرآن الكريم بعناية سيعثر على الكثير أو بمعنى أصح الآلاف من الأقوال والأمثال الإسبانية المتأثرة به، وأشير هنا إلى عبارة إسبانية ترجمتها بالعربية تقول إن فلاناً حمار محمل بالعلومlibros es nu burro car) (gado de بمعنى أن القيمة الثقافية لذلك الإنسان ضعيفة رغم أنه يصرف الكثير. وهنا نعثر مرة أخرى على صدى الرغبة في التكامل، أي الحالة المثالية التي تعني التوافق بين الفرد وعمله، أي توافق وانسجام بين الداخل والخارج. ويواصل قائلاً: إننا لو نظرنا إلى هذه العبارة قاموسياً لوجدنا أنه ليس هناك تبرير منطقي يشير إلى أن واقعاً غير مادي (الآداب والعلوم) يمكن ان ينسحب على واقع مادي فظ هو ظهر الحمار. لكن عندما ننتقل الى الوراء قليلاً ونلاحظ اللغة في أحوالها القديمة تتضح الأمور أمامنا، ففي البرتغالية عبارة مرحة تقول (إن الحمار المحمل بالكتب دكتور) وهنا يتضح معنى الاستعارة بشكل أفضل وتنزاح الأستار ويتضح الفهم بجلاء عندما نقرأ الآية القرآنية {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الجمعة حيث لام القرآن الكريم اليهود على أنهم لم يعملوا بما جاء في التوراة رغم أنّهم يعرفون الرسول جيداً وهذا نوع من عدم الانسجام، أي الخلل الذي يحول بين تكامل المعرفة الإنسانية والسلوك، وقد تم التعبير عنه في صورة أدبية وفي منطقة جغرافية كان الحمار فيها يستخدم كوسيلة نقل.
ثانياً العادات الاجتماعية:
يتحدث عن أن بعض الأنماط التقليدية للحياة ووسائل التعبير في إسبانيا والبرتغال وأمريكا اللاتينية تفتقر إلى معنى واضح خارج السياق الإسلامي. ويرى أن الأمر يستوي عنده أن يدين المسلمون الإسبان ببعض عاداتهم إلى بيزنطة أو فارس أو أي شعب آخر والمهم أنهم أصحابها والذين نقلوها، والعادات التي حافظ عليها المسيحيون الإسبان ما هي الا انعكاس حي للحضارة الإسلامية التي تصيبهم أحياناً بالاكتئاب وتذلهم (طبقاً لمقولة منذيث بيدال) ومع ذلك فهي حافز لتقليد غير واعٍ حتى بعد أن ولى الازدهار السياسي والعسكري للمسلمين ومنها:
عادات الاستحمام وانتشارها بفضل المسلمين، وتغسيل الموتى.
جلوس النساء على الأرض (وهي عادة كانت تمارس في إسبانيا حتى نهاية القرن الثامن عشر).
عندما يرى أحد الأصدقاء شيئاً جديداً ذا قيمة ويثني عليه فإن التقاليد تشير إلى أن تقول (تفضل) أو تقول للأصدقاء الذين يدخلون منازلنا (البيت بيتك).
عندما نتناول الطعام ويمر شخص ما عادة ما ندعوه لتناول الطعام.
عبارات كثيرة مثل إن شاء الله وحفظك الله.
عادة تقبيل اليد وتقبيل القدم عندما يتعلق الأمر بالسيدات (الحب العذري وتعرض الموازين الاجتماعية إلى تغيرات ضخمة رأساً على عقب في هذا المقام).
استدرار الشحاذ للصدقة والدعاء بالبركة أو عندما تحل النقمة.
وهنا يتحدث المؤلف عن استمرارية الوازع الديني لدى الإسبان واستمراره كأفق عظيم لا يراه أحد إلا عندما يحاول البعض إلغاءه وقد حملت إسبانيا على عاتقها لواء الدفاع عن الكاثولويكية التي اتخذت مفاهيم مختلفة لا يمكن فهمها إلا من إطار القرون التسعة من الصلات المسيحية الإسلامية.
ثالثاً: الجوانب الفكرية
يشير المؤلف إلى أنه كان من المستحيل على المسيحي الإسباني أن يقلد العلوم والفلسفة العربية دون أن يقرر عن وعي تربية نفسه على أيديهم، وهذا ما لم يخطر بباله .. أما دراسة الفلسفة فقد كانت أمراً استثنائياً مثلما هو الحال مع دومنيك غوندي سالبوس خلال القرن الثاني عشر، وهو الرجل الذي سار على نهج الفكر الإسلامي، أي أنه الممثل للشيء الوحيد الذي يعتبر فكراً بمعنى الكلمة في اوروبا حتى القرن الثالث عشر، وقد اتخذ الإسبان المسيحيون موقفاً عدائياً بصفة عامة ضد العلوم العربية الوحيدة في الساحة، وهم في هذا يشبهون ما فعلته روما برفضها الفلسفة والفكر اليونانيين، إلا أن الفارق يتمثل في أن روما بقوتها وسطوتها لم يكن لديها من الأسباب ما يجعلها تخشى من العبقرية اليونانية مقارنة بالإسبان المسيحيين خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين حيث عاشوا موقفاً دفاعياً أمام جحافل جيش خليفة قرطبة.
ولا شك ان المفاهيم الدينية كانت وما زالت حجر الأساس في رسم ملامح الهوية الثقافية والحضارية الإسبانية، وكان الباعث الديني هو الأساس الأولي في ميلاد الجماعات الحربية أو الرباط على الطريقة المسيحية، وكانت في إسبانيا جماعات كثيرة منها ثلاثة تعتبر النواة لما سيكون عليه الجيش الدائم للملوك الكاثوليك ابتداء من القرن الثاني عشر وحتى الخامس عشر. ويرى المؤلف ان المسيحية الأوروبية قد اتخذت نظرية جديدة وتوجهات كانت في الإسلام منذ عدة قرون ألا وهي الرباط دفاعاً عن المقدسات، أي أن المشهد المسيحي كان يعيش في ظل الأفق الإسلامي. هناك بعد آخر في هذا الميدان وهو التسامح الإسلامي الذي فرض نفسه على الآخر وجعله ينظر إلى الصراع آنذاك بأنه ليس صراعاً دينياً، حيث يشير إلى آراء السيد (خوان مانويل) القائلة بأن محاربة الموريسكيين على ارض شبه جزيرة أيبيريا لا لأنهم يعتنقون ديانة مختلفة بل لأنهم يحتلون أرضنا وهي أرض الإسباني المسيحي. ويرى كاسترو أن هذه الفكرة هي من تأثيرات الإسلام إذ تقول الآية الكريمة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (193) سورة البقرة، ويقول تعالى أيضاً {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(256) سورة البقرة، كما يتحدث عن التسامح الإسلامي من خلال مفاهيم الصوفية والزهد.
رابعاً الجوانب الأدبية:
ينبه المؤلف إلى وجود فارق نسبي كبير بين مجيء المسلمين إلى شبه جزيرة أيبيريا (بداية القرن الثامن الميلادي) وبين تأليف أول عمل أدبي قشتالي (ملحمة السيد). ويؤكد أن الأدب الإسباني استلهم الكثير من المصادر العربية ووضح هذا الإلهام في كثير من الكتب ومنها كتاب (قواعد الكهنوت) إذ من خلاله انتشرت في إسبانيا المسيحية وأوروبا ابتداءً من القرن الثالث عشر ثلاث وثلاثون حكاية ذات أصول مشرقية.
ويرى المؤلف أن اللغة العربية تنتقل بسهولة من مفهوم يتعلق بالشيء من الداخل إلى مفهوم يتعلق به من الخارج، والانتقال من الذاتية إلى الموضوعية فهو لا يعزله في مفاهيم مجردة ومن خلال هذه الفكرة المحورية يعرض لنفاذ الثقافة العربية الإسلامية، خلال مؤلفات كثيرة أبرزها لديه مؤلفات ابن حزم الأندلسي وخاصة كتابه طوق الحمامة الذي أفرد له قرابة 100 صفحة ومؤلفات ابن عربي، ففي معرض حديثه على كتاب الحب المحمود لخوان رويث يشير إلى أن الكتاب لا يمكن فهمه في الإطار المحض الخاص بالآداب المكتوبة بالرومانية، لأننا لو فعلنا ذلك لكنا كمن يضع أصابعه في أذنيه ويباعد حساسيته عن واقع يقول بأن شبه جزيرة أيبيريا كانت محكومة بالحضارة الإسلامية طوال قرون عديدة وسعيدة بها. كما أن خوان رويث قد تحدث عن اطلاعه على الكثير من الأغاني والآلات الموسيقية والرقصات العربية واستخدام الكثير من المفردات العربية، ولا يزال بعض هذه المفردات في نظر كاسترو في حاجة إلى الشرح وعمق البحث حتى الآن.
ويربط كاسترو بين هذا الكتاب وبين (طوق الحمامة) لابن حزم في أمور كثيرة منها الاعتراف أو السيرة الذاتية والروح الرقيقة المفعمة بالأفلاطونية الجديدة والتجرد الزاهد، ويدخل في هذا الإطار ايضاً أن الأنا العربي السابقة على الإسلام أو الإسلامي هو بمثابة جزيرة تدرك ماهيتها عندما تشعر أنها محاطة ببحر ليس فيها. ولا يمكن لهذا الأنا أن يتصور نفسه كقذيفة تخترق الفضاء في عراك مع الجو المحيط، فالأدب العربي في نظره يفتقر إلى الدراما والرواية. والسبب هو أنه لا يتصور الصراع بين الشخص وعالمه أو بين الأنا وأنا آخر، ولا يمكن أن نجد به ملاحم على الطريقة الغربية. كما ان تدخل الإرادة الفردية ضئيل، فالوجود مرهون بإرادة الله أو مرهون بالحب الذي خلقه الله مثل باقي مخلوقاته، ويسقط فوق رؤوسنا وكأنه المطر الذي ينعش أو يغرق، ويرى إذن أن الثنائية العربية الإسلامية تنتقل إلى الأدب الإسباني: الروح والجسد والشعر والنثر والحب الجسدي والحب العذري .. إنه الأرابيسك من جديد أو وجها العملة الواحدة أو ازدوادجية المعنى، ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حيث يتحدث عن تأثير هذه الثنائية في فن الرسم وهنا يقدم للقارئ قصة طريفة يقول فيها: لاحظت منذ سنوات أن الكاتب أو الفنان أحياناً لا يهتم بأبعاد الجو أو الإطار الذي ألهمه الموضوع عن الموضوع نفسه، وعن عملية الإبداع، فكل شيء نراه في العمل الذي يتبدى أمامنا وقد تضمن انعكاسات وإضافات جاءت من كل ما هو قائم في ضمير الفنان، ومن هنا نجد أن بيلاثكيث يضيف إلى لوحته الشهيرة (الوصيفات) الحامل ولوحة الألوان وعملية الرسم وهؤلاء الفضوليين الذين يطلون برؤوسهم على ما يدور في المرسم. وقد رأيت ذلك بداية الأمر على أنه نوع من البدائية حيث لا توجد المسافة المطلوبة والحد الفاصل بين الآلهة والبشر، وبعد ذلك لاحظت نفس عملية الدمج بين الأسطورة الأدبية والتجربة المباشرة في ملحمة السيد، وربطت تلك الظاهرة بالسرد القصصي حيث يمثل ثربانتس أعلى وأكمل درجاته، فملحمة السيد تشير من بعيد إلى السرد القصصي الحديث.
* ما أبرز السمات المؤثِّرة إذاً في الأدب الإسباني؟.
هناك شخصيات في الأدب الإسباني اكتسبت شهرة عالمية وهي كثيرة نبرز من بينها:
دون خوان: يرى كاسترو أنه كان يشعر دوماً أن شخصية المؤلف المسرحي الإسباني تيرسو دي مولينا تشكل لغزاً بالنسبة له. وعموماً يؤكد كاسترو أن شخصية دون خوان التي خلدها تيرسو دي مولينا في إحدى مسرحياته تصبح ذات معنى، إذا ما أدخلناها في إطار حياة إسبانيا الإسلامية، حيث تطرح أمامنا هذه الشخصية جوانب للحب في أرابيسك لا ينتهي ودون أن يستقر على قرار.
ويرى أن النمطية الأولية الممكنة لتحقيق مثل هذه نراها في العالم الإسلامي في بداية القرن الحادي عشر من خلال كتاب ابن حزم طوق الحمامة، وبالتحديد نراه في شخصية أبي عامر الذي كان يرى الجارية فلا يصبر عنها: ويحيق به من الاغتمام والهم ما يكاد يأتي عليه حتى يملكها لو حال دون ذلك شوك القتاد فإذا أيقن بتصيرها إليه عادت المحبة نفاراً وذلك الأنس شروداً، والقلق إليها قلقاً منها ونزاعه نحوها نزاعاً عنها فيبيعها بأبخس الأثمان.
* لننتقل إلى (البعد الخامس) المؤثر في الهوية الإسبانية:
تمحور الفصل العاشر من الكتاب حول دور اليهود في إسبانيا. وفيما يقرب من مائة صفحة، كانت منطلقاته، أي كاسترو في الدراسة أنه يمكن فهم تاريخ باقي الدول الأوروبية دون الحاجة إلى وضع اليهود في المقام الأول، لكن الحالة الإسبانية تختلف، ثم يشير إلى أنهم أي اليهود كانوا يكتبون العبرية بحروف عربية. ومن الواضح أن تفوقهم على أقرانهم في أوروبا يرتبط بتفوق الإسلام على المسيحية، ولو لا احتكامهم بالإسلام لما عنوا بالفلسفة الدينية. كما يثخن باللائمة عليهم في أنهم عندما انتقلوا إلى المعسكر المسيحي لم يترجموا إلى القشتالية إلا القليل من الكتب العربية، كما جعلوا أنفسهم أداة طيعة في يد النبلاء وعلية لقوم للضغط على الشعب في جمع الضرائب، الأمر الذي جر عليهم الويلات.
ويخلص أستاذ اللغة والأدب الإسباني الدكتور منوفي في ترجمته لهذا الكتاب أن الشواهد والبشائر تقول لنا بملء السمع والبصر أن هذا الباحث الحصيف والمدقق كان ولا يزال على حق في هذه القراءة الواعية للوجود العربي الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية. وهنا أوضح بأنّ الثقافة الغربية في العصور الوسطى اعتمدت في نهضتها على ثلاثة عناصر رئيسية (المسيحية، اللاتينية، الموروث العربي الإسلامي) .. أما في العصور الحديثة فتم الاعتماد على اللاتينية, والمسيحية واستبعد الموروث العربي الإسلامي عن عمد، ومن هنا أتى الصراع بين الثقافة الغربية والآخر العربي الإسلامي، ولا يمكن أن تتغير طبيعة هذا الصراع إلا بإحداث تغيير كامل في المفاهيم الموروثة من العصور الحديثة، إذ إنّ المكوّن العربي الإسلامي هو جزء أساسي في الهوية الثقافية الأوروبية وفي الإسبانية تحديداً التي تجد صعوبة في الاعتراف به، رغم وجود تيار فكري يناصر هذا الاعتراف، ويجب تفعيله من قبل أبناء الثقافة العربية أنفسهم، وكل المقومات والموارد متاحة لإنجاح ذلك، وما ينقصنا سوى الإرادة والعزيمة فقط.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved