الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 29th August,2005 العدد : 120

الأثنين 24 ,رجب 1426

قصة قصيرة
بائعة النعناع
بدأ قطار العمر يمضي وخيوط الكبر تنسج ملامحها على وجه رقية بائعة النعناع، بدأ الشيب يغزو مساحات واسعة من رأسها.. وكأنه ثلج تساقط على قماش أسود.. خطاها مثقلة بهموم الكد مازالت تمارس الركض وطرق الأبواب من أجل توفير الطعام للصبية العاطلين عن العمل.. جسدها النحيل تلتف من حوله عباءة سوداء مليئة بأحزان وهموم.. وفي يدها.. كيس تفوح من وسطه رائحة النعناع الحائلي بنكهة رقية كما تسميه عادة.. كانت تأتي من آخر الحارة ويستقبلها الأطفال بكل حب وهم يرددون (رقية.. نور الحارة) وهي تستقبلهم بابتسامة ملؤها الحنان والعطف على الرغم من تلك الأوجاع التي تعتصر قلبها والأحزان التي تملأ صفحة وجهها الرقيق.. تحمل الكيس وتجلس خلف أحد البيوت تنتظر نساء الحارة لكي تعرض ما معها من (نعناع)، قامت هي بتجفيفه بنكهة (رقية المعهودة) تجتمع عليها نساء الحارة وتبدأ سلسلة الأحاديث التي لا تنتهي بين شراء.. وضحك بنكهة نعناع رقية وفي آخر النهار تعود.. إلى بيتها البعيد خطواتها مليئة بالتعب والإرهاب.. بعد أن نالت نصيباً من حرارة الشمس.. لتصل إلى بيتها.. في آخر الحارة بجانب مدرسة الحي.. لتدخله.. بكل أسى وتعب وتستقبل أبناءها بصدر حنون وعاطفة جياشة تسلم على الكبير.. وتقبل الصغير.. تدلف إلى الحمام وتتوضأ لتصلي.. ومن ثم تنظر ماذا يريدون من عشاء؟!.. تبدأ بكلماتها المعهودة التي تنادي بها أبناءها (يا ثمرات حياتي.. العشاء جاهز).
تنزعج من تأخرهم.. تنتظر.. وحيدة أمام العشاء وتكرر عبارتها المعهودة.
يأتون.. بخطى ثقيلة.. تبتسم رغم الغضب بابتسامة تغطي الكدر.. وتقول: لابنها الصغير ترى لعيونك بس عشانا اليوم ما فيه مثله بالحارة.. عشانا اليوم (كوسة... محشي).. لا تكسر بخاطري... قال: ابنها الصغير لعيونك أكل الصحن كله.. ضحكت أمه.. مبسوطة من كلامه... وتقول في نفسها المهم (تعشى الجميع).
تعود إلى غرفتها.. بعد يوم متعب.. وتستلقي على فراشها... تنظر إلى أكياس النعناع نظرة ألم وحرقة وهي تتذكر شريط الذكريات.. كيف مرت أيام الصبا والمراهقة عبثاً وتعباً.. تنظر إلى يديها وكيف أصبحت (خشنة) يابسة من كثرة طرق الأبواب.. لم يفارق مخيلتها أصوات خطواتها المثقلة بالهم والتعب وهي تلف الحارة.. مازالت رقية تتصفح كل ليلة ذاكرتها لكي تنسى بعض مآسيها.
ومع فجر جديد.. تبدأ رقية الاستعداد لكي تنشر رائحة النعناع وسط الحي القديم.
خرجت رقية من بيتها واضعة كيساً كبيراً فوق رأسها.. مليئاً بأحزان وهموم خائفة من حافة المجهول، تلف بجسدها النحيل شوارع الحارة وتنادي بعبارتها المشهورة التي تخترق صمت الحارة (نعناع رقية مع الشاهي غير)...
استقبال جماعي لأطفال الحي طابور ينتظر رقية على أحر من الجمر.. هتافات غير متوقعة.. انهمرت دموع رقية بسبب هذا الحب الجارف من صبية صغار وبدأت تردد (هلا.. هلا بعيالي أبشروا..) أخرجت من جيبها بعض الريالات وهي تقول: تقاسموا الريالات كل واحد له نصف ريال... زين عيالي؟!
وفجأة.. بدأت السماء تتلبد بالغيوم والرياح تهز أبواب الحارة ومع كل اهتزازة تهتز دقات قلب رقية الموهن وتبدأ تجمع أكياس النعناع وتلملم أشياءها مسرعة إلى بيتها التي تكاد خطواتها تسعفها بالمشي إليه عبر شارع ضيق لم يكتمل رصفه بعد.. لتصل إلى بيتها وتدخله بهدوء كما خرجت منه، تدلف إلى المطبخ لكي تعد طعام الغداء لأبنائها العاطلين عن العمل.. رائحة الطعام بدأت تنبعث من المطبخ معلنة انتهاء (الكبسة) التي أصبحت جاهزة.
تنطلق كلماتها المعهودة وهي تنادي أبناءها (يا ثمرات.. حياتي الغداء جاهز)
يبدأ الأبناء بالجلوس حول الصحن.. ورقية ترقبهم وهي تقول (عافيه إن شاء الله)، وتتبع هذه العبارة بكلمات لا تخرجوا خارج البيت اليوم مطر وغبار.. فهمتم ما أقول...؟
تعود إلى حجرتها كي تستريح فيها.. ترمي بجسدها النحيل على ذلك الفراش البالي وتلك الوسادة المكتوب عليها (صباح الخير) تحتضن رأسها المليء بالشيب وبالأفكار المزحومة بهموم التربية ومسؤولية العيش بدأت الدموع تملأ صفحة وجهها وهي تفكر في المستقبل المظلم لأولادها العاطلين عن العمل.. لم تستطع أن تنتزع ذلك الانكسار وتقذف به إلى حافة المجهول بل كان ملازماً لها (كالظل).
بدأت تسأل نفسها.. من يتحمل هؤلاء الصبية بعد موتي؟! من سينفق عليهم؟!
بدأت رقية صراعاً مع الذات، تقف أمامه أيام بكل وجل؟ تسأل هل بقي متسع من العمر أم تلك خيوط الكبر بدأت ترسم ملامحها على خدي؟.. ثمة أشياء أخرى جاثمة على صدرها.. تجعلها سراباً يلوح بعيداً بدون أي اهتمام.. يذهب مع أحلام الماضي وذكريات الصبا..!! تمتمت كل هذه الآهات (بصمت مفزع)
خرجت من حجرتها.. لتلقي نظرة وداع.. إلى نهار مليء.. تعب وكدر.. وتستقبل نهاراً جديداً.. سينسيها نهار تذمرها من أولادها.. ونهار ذكرياتها اليائسة.. برائحة النعناع....!!!


محمد عطا الله العنزي / حائل

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved