الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 29th September,2003 العدد : 30

الأثنين 3 ,شعبان 1424

ما أشبه الليلة
عبدالسلام العجيلي

خلال الحرب العالمية الأولى، وفي المعارك التي دارت بين الجيوش البريطانية وجيوش السلطنة العثمانية في العراق، خسر البريطانيون آلافاً من مقاتليهم، أغلبهم من الهنود، في حصار كوت العمارة الذي استمر خمسة أشهر، إلا أنهم استطاعوا بعد ذلك ان يستعيدوا قواهم وأن يقهروا الجيش العثماني وأن يدخلوا بغداد. حدث ذلك في آذار من عام 1917. وحين دخل الميجر جنرال ستانلي مود العاصمة العراقية على رأس قواته ألقى خطابا على الأهلين الذين كانوا في استقباله قال فيه: إن جيوشنا لم تدخل مدنكم وبلادكم كقوات غازية، بل جئناكم محررين!. فما أشبه الليلة بالبارحة..
جملة الميجر جنرال مود في خطابه ذاك، في قوله إنهم جاؤوا محررين لا محتلين، هي نفسها التي يقولها للعراقيين اليوم جنرالات الجيش الأمريكي وحكام الولايات المتحدة الأمريكية ومسؤولوها الكبار. أترى تماثل القولين يتوقف على محتوى هذه الجملة أم أنه سيستمر في مراحل تشبه مراحل احتلال انكلترا للعراق بعد ذلك التاريخ الذي بدأ في ذلك العام، عام 1917؟.
البدايات تتماثل بدون شك. فقد تبين للبريطانيين في الحرب العالمية الأولى ان وجودهم في العراق بعد غلبتهم للجيش العثماني لم يكن نزهة. وصف ونستون تشرشل، وكان أمين وزارة المستعمرات آنذاك، العراق بأنه بركان لا يهدأ ولا يرحم. وهذا قريب كل القرب مما يراه الأمريكيون اليوم بعد قضائهم على نظام حكم صدام. إذ تبين لهؤلاء ان وجودهم في هذا البلد ليس نزهة كما كانوا يتوقعون. فهذا الجنرال جون أبي زيد. القائد الأمريكي الجديد للمنطقة، يقول ان قواته أصبحت تواجه حرب عصابات كلاسيكية. لقد اكتشف الأمريكيون، ما اكتشفه اسلافهم الانكليز قبلهم، ان العراقيين إذا كان يكره بعضهم بعضا فإن كرههم للغازي المحتل يظل أقوى وأكبر.
بدايات البريطانيين في نزهتهم العراقية استمرت من عام 1917 حتى عام 1921. عانوا في هذه البدايات من مقاومة أهل العراق، من القبائل الكردية في الشمال حتى قبائل الشيعة في الجنوب، الأمرين. في عام 1920 وحده بلغ عدد قتلاهم 425 قتيلا، فيما تجاوز قتلى المقاومين الثمانية آلاف ضحية. لم ينفع الانكليز تفوقهم التكنولوجي وتهديداتهم بمحو القرى والمدن بكاملها من الوجود. وما استطاعوا الوصول الى الهدوء والسلام واستقرار القدم في الأرض المغزوة إلا باللجوء الى حل سياسي نسجت خيوطه تلك المغامرة الانجليزية الداهية غرترود بيل، يعاونها في ذلك الكولونيل لورنس، لورنس العربي كما يسميه الغربيون، ذلك الحل كان في تولية فيصل بن الحسين عرش العراق بعد ان انتزع منه الفرنسيون عرش سورية.
تلك كانت بدايات البريطانيين أمس البارحة، ترى كم ستطول اليوم بدايات الأمريكيين في هذه الأرض التي جاؤوها، كما يدعون، محررين لا محتلين؟ أترى نزهتهم التي تصوروها، ستتحول الى ورطة وغوص في مستنقعات مثل التي غرقت فيها أقدامهم في فيتنام؟ على كل حال إن الذي يبدو هو ان المخططين السياسيين من المحافظين الجدد في بطانة الرئيس بوش أقل ذكاء بكثير من غيرترود بيل والكولونيل لورنس. هذان الأخيران وجدا أن السلام لن يبلغ إلا بتشكيل دولة عراقية جديدة من ثلاث ولايات عثمانية مستقلة في هذه الأرض العربية، الموصل في الشمال وبغداد في الوسط والبصرة في الجنوب. أما المحافظون الأمريكيون الجدد، وهم يعملون في الواقع لتنفيذ الخطط الاسرائيلية في تمزيق البلدان العربية، فينوون على ما يقول المحللون السياسيون، السير بعكس الاتجاه الذي سلكه البريطانيون بعد الحرب العالمية الأولى، ما ينويه هؤلاء المحافظون الجدد هو تمزيق العراق بتحويله الى ثلاث دول مستقلة: كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب!.
مهما يكن فإن معاناة الغزاة الأمريكيين اليوم في البدايات تشبه معاناة أسلافهم البريطانيين فيها. وتمتلئ صفحات الجرائد الأمريكية كل يوم بشكايات جنود الفرقة الثالثة من مدفعية الجيش الأمريكي، وبشكايات أهليهم، من أنهم لن يعودوا الى موطنهم في أمريكا في الوقت الذي وعدوا به. أما وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد فلا يجد بداً من الاعتراف بأن نفقات احتلال العراق يكلف خزينة بلاده ما يقارب أربعة مليارات دولار شهرياً، وهو ضعف التقديرات التي سبق وقدرت لهذه النفقات. أما عن الروح المعنوية لجنود الاحتلال فإن الحديث عن تدنيها وهبوطها يدور على كل الألسنة. وهذا واقع الروح المعنوية لجيش منظم وكبير في أرض متسعة لا يمكنه حراسة كل أجزائها بصورة فعالة، في مواجهة عصابات مقاومة قليلة عدد الأفراد وخفيفة الحركة. جنود هذا الجيش يظلون على حذر وفي هلع من تعرضهم لبروز هؤلاء المقاومين في مكان وفي زمان ليسا على الخاطر أو في البال، وهذا ما يعانيه ويقر به جنود الفرقة المدفعية الثالثة وأفراد المارينز والقوات الخاصة الأمريكية في الأرض العراقية اليوم.
وما دمنا في حديث تدني الروح المعنوية اليوم عند الجنود الأمريكيين، وفي حديث الكولونيل لورنس وعلاقته بظهور العراق كدولة بعد الحرب العالمية الأولى، فلا بد من الاشارة الى ما كتبه لورنس نفسه في بدايات تورط البريطانيين في غزوهم وتعرضهم لحرب العصابات بعد تلك الحرب، عما كان يخفيه الرسميون عن مواطنيهم وعن العالم من سوء حالة محاربيهم في تلك البدايات. وما كتبه لورنس حول هذا الأمر آنذاك يسوقنا الى مقارنته مع ما يفعله الرسميون الأمريكيون اليوم في المجال نفسه فيما يتحدثون به عن الأحوال السياسية والعسكرية لقوى الاحتلال في العراق.
فقد كتب لورنس في صحيفة الصنداي تايمس اللندنية، بتاريخ 22 أغسطس عام 1920، وهو يصف ما يكتبه الحالة في العراق في ذلك التاريخ، ما يلي:
«يقول محلل عسكري متميز ان الجماهير قد قيدت الى فخ سيكون الخلاص منه بكرامة وشرف عسيراً كل العسر. قيدت اليه عن طريق كتمان المعلومات الصحيحة عنها بصورة مستمرة. فالبلاغات التي تصدر عن بغداد هي دوما متأخرة، غير موثوقة، وغير كاملة. وادارتنا هناك أكثر دموية وأقل كفاءة مما يتصور الجمهور. ويبدو أننا اليوم لسنا بعيدين كثيرا عن الوقوع في كارثة مقبلة ومخيفة».
هذا الذي كتبه لورنس في عام 1920 من القرن الفائت هو عينه ما يردده المحللون العسكريون صادقو النظر اليوم. فما أشبه الليلة بالبارحة؟!.
ما أشبه الليلة بالبارحة، أقولها بالنسبة لأمريكا وحكامها ومحاربيها ولجماهير شعبها. أما بالنسبة لنا في هذا الجانب من العالم، نحن العرب، فإن الشبه بين الليلة والبارحة يأخذ شكلاً آخر. أو أنه يجب أن يأخذ شكلا آخر، أو أشكالا متعددة أخرى. والحديث عن ذلك الشكل، أو هذه الأشكال، له وقت غير هذا الوقت ومكان غير هذا المكان...
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved