الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 30th January,2006 العدد : 138

الأثنين 30 ,ذو الحجة 1427

صانعو الأساطير الجديدة.. عصر جديد ومتلق مختلف(1-2)
فاضل الربيعي

(بعد 12 عاما) رأيتُ خوليو كورتاثار أمام حشد في متنزه فيما ناغوا، مسلحا (بصوته الجميل وإحدى أكثر قصصه تعقيدا) (ليلة ما نكويلا نابولس). إنها عن ملاكم عاثر الحظ يحكي قصته باللونفاردو(لهجة العالم السفلي في بوينس أيرس. كان من الممكن عدم استيعابها تماما) لو لم نكن نعرف مذاقها، مصغين إلى (تانغوات) كثيرة في الحياة. على رغم ذلك كانت تلك هي القصة التي اختارها كورتاثار ليلقيها من على منصة حديقة مضاءة واسعة أمام جمهور مكون من مختلف الطبقات: شعراء بارزين عمال عاطلين عن العمل، قادة الثورة وخصومهم.. كان العرض مدهشا.
غابريال غارسيا ماركيز
في وداع خوليو كورتاثار 1914-1984
مَنْ تراه يجرؤ، سوى كورتاثار نفسه، النحيف والطويل كما لو أنه أطول رجل في العالم، على الجلوس في منصة في حديقة مضاءة وأمام جمهور من العاطلين عن العمل والمشردين والمتخاصمين حول الثورة ومن الشعراء أيضا، ليخلق قصة هي الأكثر تعقيدا من بين سائر قصصه؟ ولأنها - كذلك - مكتوبة بلغة العالم السفلي لبؤساء ومشردي بوينس أيرس أو مهمشيها الضائعين، التي يصعب استيعاب محمولاتها الرمزية ودلالاتها وإشاراتها الماكرة من دون انشداد عميق إلى النص. لقد تخيل الكاتب نفسه (وهو يخلق الأبطال ويصنع الأحداث ويصور الانفعالات ويحدد عناصر التفجر والصراع) في صورة ملاكم لاتيني تعيس الحظ يتوجه إلى جمهور مماثل يعيش تعاسة الحظ نفسها، من أجل أن يتشاركا معا في صنع رؤية واحدة عن الحياة في العالم السفلي. يقول ماركيز: (وعلى رغم أنه لم يكن من السهل متابعة معنى القصة، عاش كل منا مع مانكويلا نابولس (الملاكم تعيس الحظ) وأحس بالكلمات التي تلقاها في عزلة الحلبة، بل وأراد أن ينتحب على حياته الكاذبة وبؤسها). إذا كان الجمهور يحصل، في النهاية، وهو يكاد ينتحب، على عمل معقد وصعب من هذا النوع ومكتوب، فوق ذلك، بلغة لا يعرفها ولا يستطيع استخدامها، ولكنه برغم ذلك سيتمكن من التفاعل معها ويتعاطف مع معاناة الأبطال والشخصيات في النص؛ فهذا يعني أن النص ارتقى، فعليا، من مجرد سرد أدبي مألوف إلى مستوى سردٍ غير مألوف واستثنائي، فيه كل ما يلزم من غرائبية وسحر وغموض وقدرة على اجتذاب المتلقين وربما السيطرة عليهم. إن كل َمنْ أصغى إلى كورتاثار في تلك الأمسية الصيفية أراد أن ينتحب.. فماذا يعني هذا بالنسبة إلينا؟ هل يعني هذا أن ثمة عناصر أخرى، بالفعل، في السرد القصصي والروائي لم نجرب بعد اكتشافها والتعامل معها، هي الأكثر تأثيرا ونفوذاً على المتلقي حتى من اللغة ومن التراكيب الفنية ومن الشكل القصصي نفسه؟ وأن هذه العناصر قد تكون تنتمي إلى نظام السرد الأسطوري بأكثر مما تنتمي إلى جهاز السرد الروائي؟ وهل من المنطقي التساؤل عمّا إذا كان الروائي اليوم هو خالق أساطير جديدة؟ وأن نصه يمكن أن يكون مماثلا، من حيث تراكيبه اللغوية الغامضة وعوالمه السحرية المثيرة، لبنية الأسطورة القديمة، وإلى الحد الذي يظهر فيه السارد كما لو كان رجلا من قبيلة بدائية، جاء بنفسه ليروي لمستمعين غرباء يجلسون فوق العشب في الغابة، حكاية سحرية من حكايات أجداده؟. كان اريك فروم يردد دائما وهو يتحدث عن الأساطير من وجهة نظر علم النفس أن لغة الحلم والأسطورة واحدة. وهذا صحيح تماما إذا ما قمنا بمقاربة جريئة بين لغة الحلم ولغة الأسطورة. كلتاهما تستخدم نظاما إشاريا يتضمن ما يكفي من الدلالات والرموز، ومن الرسائل الخفية أيضا في إطار من السرد غير المتتابع وربما غير المترابط. بوسعنا أن نضيف إلى ما يراه فروم، أن كلا من الرواية والأسطورة يمكن لهما أن يشتركا في بنية واحدة أيضا شبيهة ببنية الحلم. ولكن، إذا كان نموذج كورتاثار السردي، يثير مسألة العلاقة بين الواقع والأسطورة داخل النص الروائي (أو ما يعرف بالواقعية السحرية التي فجرها ماركيز تاليا)، حيث يتحول الواقع إلى أسطورة فاتنة ومدهشة وحتى جارحة في قسوتها؛ فإن هذا النموذج يعيد طرح إشكالية العلاقة بين الروائي (كسارد) وبين الجمهور. ترى، ما الذي يجذب جمهورا من العاطلين عن العمل والمشردين والشعراء والمتخاصمين حول الثورة من اليساريين في أمريكا اللاتينية، إلى الجلوس ساعات طويلة من أجل الاستماع داخل حديقة مضاءة، إلى قصة معقدة ومتشابكة من قصص كوتاثار، لو لم تكن تلك مناسبة لتفجير لغة العالم السفلي، وتحويلها إلى معانٍ حية وعميقة. هذه اللغة التي يتكلم بها ويعرف أبجديتها جيدا العاطلون عن العمل والمشردون والمهمشون في مجتمع بوينس أيرس.. هي لغة الواقع المعقد والأسطوري نفسه الذي يشعر كل فرد فيه بأنه يعيش، في آن واحد، داخل الواقع وداخل الأسطورة. وهذا هو، بالفعل، الوضع الحقيقي لمجتمعنا العربي الراهن. أن النموذج التطبيقي المقترح يمكن أن يستخدم هذا النوع من الأسئلة من أجل إثارة نقاش حقيقي وخلاق.
ما يثير اهتمامي كقارئ للرواية السورية الحديثة، في هذا النطاق وحده وعلى وجه الحصر، قدرتها على تقديم مقاربات فكرية وثقافية لهذا النوع من الأسئلة. ولعل تجربة الروائي خيري الذهبي (أكثر من عشر روايات ومجموعات قصصية عدة) تكتسب أهمية خاصة؛ فهي من بين أكثر تجارب الروائيين السوريين استلهاما للموضوعات والأفكار الجديدة، التي تنفذ وفي الصميم ومن دون تردد إلى عمق المشكلة: الكشف عن عجز المجتمع وفشل نخبه.
إن صيحات فياض في رواية خيري الذهبي (فياض) وهو يتساءل عن هويته الحقيقية، وما إذا كان هو الصبي الراعي الذي التقطه الفرنسيون، أم الصحفي الثائر، مجرد رجع صدى للصيحات المخنوقة في مجتمعاتنا العربية الراهنة. ولئن كانت تجربة نجيب محفوظ، انتهت فعليا إلى تقديم صورة دقيقة عن أزمة البرجوازي الصغير (أفندية المدينة وطبقة الإدارة في الدولة الوطنية) فإن تجربة الذهبي انتهت إلى عرض تصور موازٍ عن أزمة وعي أعم، يكون المثقف أحد أكثر أطرافها مأساوية.
إن أبطال خيري الذهبي، الذين يتسمون بمأساوية مصائرهم وأقدارهم الشخصية الحزينة، يمتازون بكونهم صورته الشخصية الأخرى، أناه الثانية التي تبزغ من قلب عالمه الروائي. ولكنها ليست بالضبط أناه الأنانية الضيقة؛ بل إناه المتحفزة، القلقة والمتوترة الخائفة على انزلاق المجتمع نحو التدهور الفظيع في أوضاع البشر وفي درجة تماسكهم. ومن خلال هذا القلق وعبره، سوف نرى الروائي المعاصر وقد تقمص شخصية راوي الأسطورة القديم، وربما استعار صوته من أجل أن يخلق لنا أسطورة جديدة تدور أحداثها في حاضر شبيه بالماضي وعن أبطال وشخصيات تشبهنا - نحن القراء -.
وقد ينتابنا الإحساس بأن كل واحد منا، إنما هو وعلى نحو ما، فياض الذي يصرخ في البرية متسائلا عن هويته التي تغدو، شيئا (فشيئا) ومع الوقت هي مأزقه أو ورطته أو هي مأساته.
إن إعادة صياغة شخصية البطل في إطار أسطوري ليست بالضبط هي العمل الذي ينشده القارئ. ما يرغب به وببساطة هو رؤية بطل قابلٍ للمماثلة مع أبطال آخرين حيث يغدو مألوفا (وحميما). خذوا، على سبيل المثال شخصية فياض (في رواية فياض لخيري الذهبي): إن أسطورة قتل الأب التي عالجتها الكثير من الأساطير والأعمال الروائية، تصبح ذات نكهة خاصة مع رواية فياض، فالروائي لم يشرع في أي نوع من أنواع إعادة إنتاج أسطورة قتل الأب حتى في ذروة الصراع بين روجيه الفرنسي (والده بالتبني) وابنه الشرقي الملتقط من قلعة شيزر (أي الراعي الصغير فياض). وبدلا (من ذلك، قام الروائي بتوظيف الفكرة المركزية في الأسطورة القديمة من أجل معاينة واقع مجتمعه الراهن، ولكن منظور) إليه من خلال اللحظة التاريخية، حيث خرج المجتمع للتو من رحم تجربة مريرة مع الاستعمار الفرنسي.
تتحدث رواية فياض عن صبي من قلعة شيزر التقطه روجيه الفرنسي أثناء رعيه الخراف عند القلعة، ثم قام روجيه بتبنيه، حيث نقله إلى باريس، وهناك تلقى ثقافته. لقد تلقى فياض تاريخ مجتمعه من خلال الفرنسيين مباشرة، ولكنه يوم قرر العودة إلى دمشق وجد نفسه في قلب مواجهة مزدوجة ومكشوفة: مع والده بالتبني روجيه ومع ثقافته. لقد خلق خيري الذهبي هذه الأسطورة عن الراعي الصغير العائد إلى موطنه القديم، لا ليضعنا أمام إطار تقليدي لأساطير الابن الضال، ولا لأساطير المواجهة بين الابن والأب كما صورها دستييفسكي في (الأخوة كرامازوف) بل في قلب مواجهة من نوع مختلف تماما، هي في الجزء الأهم منها مواجهة مع الوعي الزائف للمجتمع، ولنقل أمام وعينا الاستشراقي الذي تلقيناه من الآخر في حقبة النضال من أجل الاستقلال. وإذن، فنحن لن نكون أمام قصة عن مصير شخصية روائية وجدت نفسها في قلب مواجهة مأساوية وحسب؛ بل أمام إشكالية وعيها للمجتمع الذي تريد استرداده. وكما أننا أصبحنا أمام أسطورة جديدة عن راعٍ صغير التقطه الغرباء وعاد بعد رحلة مثيرة إلى مضارب قبيلته، ولكن ليجد نفسه وهو يصارع من أجل استرداد وعيه الحقيقي وهويته الحقيقية، إلى الدرجة التي راحت فيها نذر الثورة تعتمل في أعماقه، فإننا سوف نكمل الرحلة مع البطل بوصفه مثقفا شاءت الظروف أو الأقدار أن يكون في قلب معركة ضارية.
إن مذكرات فياض تعطي فكرة دقيقة عن هذا الصراع؛ فهي تكشف عن محاولة المثقف السوري القيام بمحاولة استعادية للتاريخ المحلي، من أجل تأكيد الانتساب إليه. ليست هذه مشكلة هوية بالمعنى الضيق والمحدود، بمقدار ما هي إشكالية وعي المثقف لمجتمعه ومشكلاته وموضوعاته الكبرى.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved