الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 30th January,2006 العدد : 138

الأثنين 30 ,ذو الحجة 1427

مسرح النهار
قاسم حول*

لم تكن المسارح ليلية عندما تحركت الشخصيات على المنصة وهي تلبس القناعين الضاحك والباكي، لأن الكهرباء لم تعرف عندما قدمت أول مسرحية في وضح النهار عام 490 قبل الميلاد، فكانت متذرعات أسخيلوس تقدم صباحا وفي الهواء الطلق..
وعندما تطورت الحياة الاجتماعية والحضارية ونجح توماس أديسون أو (قديس أمريكا) كما يطلق عليه الأمريكيون في غزو الظلام بنور الكهرباء في القرن التاسع عشر، ونشأت تقاليد المسرح والمشاهدة الليلية، أصبح تقليد الذهاب إلى المسرح هو المتعة الإنسانية التي اتخذت مدى من الوقت يقع بحدود الساعتين.
لم يخطر على بال أحد من الفنانين ولم يخطر على بال الفرق المسرحية أن تخرج عن المألوف وتقدم مسرحياتها نهارا في عصر الكهرباء.
ولكن.. ظهرت في بلد عربي بداية مسرح النهار خروجا عن المألوف ليس بسبب تجربة ذات طابع تجديدي، ولكن بسبب انقطاع التيار الكهربائي وبسبب الخوف السائد في العراق، حيث يركن الناس إلى منازلهم قبل حلول الظلام.
هذا البلد الذي يخاف الناس فيه من الذهاب إلى المسارح ليلا هو العراق.
الممثلون وعشاق المسرح والتمثيل في العراق الذين وقفوا حيارى إزاء حالة الانفلات الأمني لا يعرفون كيف يؤدون مسرحياتهم وكيف يكتبونها بعد أن كانوا مكبلين بشروط النظام الشمولي الدكتاتوري.
مأساة مسرح العراق خلال أكثر من ثلاثين عاما من النظام الدكتاتوري الشمولي هو أن الثقافة مطلوب منها أن تتحول إلى إعلام وهي سمة كافة الأنظمة الشمولية الدكتاتورية (عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي - غوبلز وزير إعلام هتلر) لذلك فرض نظام صدام حسين على المسرحيين أن يكرسوا المسرح لصالح الحروب التي شنها الدكتاتور تحت شعار حماية الوطن، فركن المسرحيون أما للهجرة أو للمكوث في منازلهم والتمارض أو القبول بالأمر الواقع. وباءت بالفشل كافة المحاولات الجادة في التكتيك نحو الظهور على خشبة المسرح بشيء من الاحترام. وعندما تم تقديم مسرحية (الجنة تفتح أبوابها متأخرة) على سبيل المثال، عمدت السلطة على تجييرها لصالح تلك الحروب.
المسرحية تحدثت عن أسير بقي في الأسر ثلاثين عاما وعاد إلى زوجته ولم تتعرف عليه، فيدور حوار وصراع لساعتين من الثقافة المسرحية المدهشة والتي تنظر إلى الواقع نظرة واعية وتحليلية مبصرة. وعندما شاهدت الرقابة الحزبية تلك المسرحية طلبوا أن تكون معاناة الزوجين بعد الأسر سببها الحصار الاقتصادي المفروض على العراق وليست الحروب الكارثية، ودون هذا التحوير لم يكن ممكنا عرضها بل قد يقود عدم التحوير إلى إيذاء كاتبها والممثلين.
عندما سقط نظام الدكتاتور في العراق ظن الممثلون العراقيون لأول وهلة أنهم سيعيدون للمسرح العراق ألقه وجماله، إلا أن الفوضى التي حلت على البلاد لأسباب معروفة وضعت المسرحي العراقي في حالة من الخيبة لأن أول سلوك في نهج الحكومة الجديدة هو تهميش وزارة الثقافة وتركها دون ميزانية تساعد على تأسيس ودعم الثقافة العراقية، بل اقتصرت ميزانيتها على رواتب الموظفين وكثيرا ما عمدت الحكومة على عدم دفع تلك الرواتب، في ذلك إشارة واضحة إلى عدم رغبة الحكومة أو الاحتلال في ترسيخ قيم الثقافة العراقية النهج الأساس للهوية العراقية.
كان المسرحيون العراقيون يريدون الانتصار لوطنهم ولمسرحهم وتأريخه لأن هذا المسرح قد تم القضاء عليه أبان الفترة الدكتاتورية وتم إنعاش المسرح التجاري الرخيص الذي لا يؤمه سوى المقاولين للتمتع بنكات رخيصة وعروض تهريجية مثيرة وأغلب حواراته ارتجالية وغير مكتوبة وغير مؤطرة بنص، وهي غير خاضعة للرقابة بعكس أية محاولة جادة للمسرحيين العراقيين التي تخضع لأكثر من رقابة.
ولعل أول استبشار بالخير للمسرح العراقي وللمسرحيين العراقيين هو نهاية المسرح التجاري المبتذل والرخيص الذي سقط بسقوط الدكتاتورية، ولكن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر، فسرعان ما تدهور الوضع الأمني في العراق وصار الناس يخافون مغادرة منازلهم عند حلول الظلام. كان لا بد هنا للمسرحيين أن يقدموا مسرحياتهم نهارا.. مسرح النهار هذا هو شكل من أشكال النضال من أجل البقاء.. هو حالة من حالة التشبث بالأمل وحالة من حالات رفض الموت وحالة من حالات العبث الواعي، إذ من غير الممكن أن يقدم المسرحي مسرحيته في وقت يذهب فيه الناس لأعمالهم في النهار ويفقد المسرح رسم المنظر بالضوء أحد مفردات لغة المسرح التعبيرية. مسرح النهار هو محاولات عدم الهروب من الوطن والبقاء فيه حتى في أكثر الأوقات خطرا على الحياة.
معروف أن الناس تذهب إلى أعمالها نهارا فلا أحد يؤم المسرح في النهار، فالمسرح بعد اختراع الكهرباء على يد توماس أديسون أصبح ليليا، ولم تكن ثمة مسارح نهارية سوى مسارح الطلبة والنشاطات المدرسية، أما مسارح الحرفة فهي مسارح ليلية.. فلمن يا ترى يقدم المسرحيون مسرحياتهم في النهار؟ أنها تقدم إلى (لا أحد). مسرحيات لا تقدم لجمهور بل هي ستارة تفتح وممثلون يؤدون أدوارهم دون جمهور. أنها صرخات وحوارات وصراعات في الفضاء الخالي.. إبداع مسرحي في فراغ. مسرح النهار هذا ودون جمهور هو مسرح يمثل علاقة المحبة بين المسرحي ووطنه.
فالمسرحيون الذين يقدمون مسرحياتهم في النهار إنما يقدمونها للوطن، لجمهور مفترض وجمهور واع له حضور في غيابه، وحضوره يكمن في ذات المسرحي المبدع وهو نوع من الإصرار على الحياة وعلى رفض الموت والخنوع للأمر الواقع، فلقد عرف العراق في تأريخه حب أهله للمسرح، وكانت المسرحيات العراقية إبان الخمسينيات تمثل صورة الواقع من خلال رؤية اجتماعية وسياسية واعية وتمثل مرحلة الستينيات قمة نضوج المسرح العراقي حيث تنوعت الفرق المسرحية وكثر عددها وأزدهر فرع المسرح في معهد الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون وفي الأقسام الأدبية في جامعة بغداد، ولم يقتصر المسرح في العاصمة بغداد بل ازدهر في محافظات العراق كافة وأخذت المسرحيات العراقية مكانتها في مهرجانات المسرح العربية وحازت وحصدت الجوائز، وفرض المسرحيون وجودهم وحصلوا على امتيازات دعم المسارح إلا أن التحول السياسي السلبي الذي حصل في العراق في 17 تموز 1968 قلب مفهوم الثقافة ونظر إليها نظرة إعلامية من خلال تكريس الثقافة لصالح الإيديولوجيا الحزبية مرض الحياة السرطاني ما حدا بما يقرب من ثلاثة آلاف مثقف عراقي بين مسرحي وسينمائي وأديب وصحفي للهجرة وامتلأت بهم مخيمات اللجوء في أوروبا وأمريكا حتى قضوا فترة النشاط والازدهار من أعمارهم في البحث عن البطاقة ومخصصات اللجوء.
أما من بقي من المثقفين ومن المسرحيين داخل العراق فلقد مات بعضهم كمدا وعوزا وفاقة وانتحر البعض وركن البعض للسكون أو اضطر لقبول المساومة على مضض.
يأتي مسرح النهار بمثابة الاحتجاج على الواقع.. احتجاج على حالة الظلام الواقعية والمجازية. يأتي مسرح النهار لجمهور مفترض له حضور متميز ولواقع مفترض هو غير هذا الواقع ولوطن مفترض موحد غير مقسم ولا مجزّأ، لوطن ينعم بالحرية والطمأنينة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لون وشكل المسرحيات التي يقدمها مسرح النهار بلا جمهور، معنى ذلك أن أحد أهم شروط المسرح الحر متوفرة تماما وهي حرية التعبير، فالمسرحي الذي يحاول التجديد وابتداع أشكال جديدة من المسرح ومحاولة التجريب دون حدود وكسر صيغ المألوف يشكل الجمهور بمستوياته المختلفة حائلا دون فرص التجريب المطلق. مسرح النهار الآن يقدم لجمهور مفترض.. جمهور غائب له حضور في وجدان المؤلف والمخرج والممثلين، ما يعطي للمسرحيين ولمسرح النهار فرصة إطلاق العنان لمخيلتهم وتقديم تجارب جديدة قد تفوق الخيال والتصور.. فالحالة هي حالة غير معقولة، أن يمضي المسرحيون وهم دون مرجعية وظيفية، ممثلون شبه عاطلون عن العمل ينهضون بالحركة المسرحية، بل ويخاطرون بحياتهم بسبب الأزمة السياسية القائمة في العراق ويخاطرون بأنفسهم بسبب شروط الأصولية السياسية التي ترفض المسرح والسينما سوى ما ينسجم والإيديولوجيا التي يبشرون بها بقوة السيف. فالمسرحي هو شخص مهدد مثله مثل الحلاق ومثل المعلم والأكاديمي الذين ينظر إليهم كسبب من أسباب خراب المجتمعات المرسومة سلفا بشروط التحجر. فالمسرحي الذي بات يقدم نفسه في وضح النهار قد يصبح هدفا سهلا لفوهة الرشاش والبندقية ومحاولات الخطف.
مسرحيو العراق شهادة جديدة يحملونها تعبر عن رغبة في الإبداع ورغبة في البناء ورغبة في الحياة ورغبة في البقاء على قيد الحياة. من أجل ألا تنطفئ إضاءة النفس المسرحية في وضح النهار حبذا لو وقف المسرحيون العرب ومسرحيو العالم وقفة تفكير جادة لدعم المسرح العراقي حتى يخرج من ظلام الروح إلى ظلام الصالة لتستعيد الكهرباء مكانها في كل جوانب الحياة العراقية.


*مخرج سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved