الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 30th January,2006 العدد : 138

الأثنين 30 ,ذو الحجة 1427

غالب هلسا.. أمير الرواية العربية
نادر عبدالله*
قبل وفاته بأشهر قليلة رأيت غالب هلسا آخر مرة أمام صالة الكندي بدمشق، ينتظر بدء حفل التاسعة مساء، وعلى الرغم من أهمية الفيلم الذي لم أعد أذكر اسمه، كان المنتظرون في الشارع قلائل، بحيث تسنى لي تأمل هذا الرجل -الذي لم أعرفه شخصياً - ملياً، دون أن يحجبه أحد، كان يقف في عرض الشارع، وعلى الرغم من وجود امرأة - بدت لي حبلى - تقف بجواره، كان صامتاً ووحيداً، وربما أن فصل الشتاء، أضفى على هذا الركن الجانبي - حيث توجد السينما - جواً فريداً، إذ بدا المشهد أمامي امتداداً، بل جزءاً من عوالمه الروائية.
كنت ما أزال مسحوراً برواياته، فقد شكلت لي على امتداد أشهر، ما يشبه الكشف المباغت الذي فتح أمامي عذوبات لا توصف، جعلتني في حال انتشاء، لكني وقد ابتعدت قليلاً عن المتعة الخالصة، لذة السرد، الحكاية، الأسلوب، الجسد، اللحظة، التفاصيل التي نسجت، وخلدت، وأسطرت تلك الحيوات للشخصيات، وأصبحتُ في وضع يسمح لي بطرح بعض الملاحظات الأساسية، وأول مسألة تُفجعني عادة أمام الأعمال المهولة، والآسرة، هي افتقارها ليس للعمق، بل للعمق الكافي، العمق الذي يصل إلى ما هو جوهري وكاشف، وفي حالة مثل غالب هلسا يصبح هذا الاكتشاف ملوعاً.
ربما لا يحق لأحد التطاول على هلسا، بإلصاقه بمفردة من هذا النوع، فهذه المفردة عندما تحضر تستثير في المخيلة نصوصاً مكدورة، وغالب هلسا ينأى تماماً عن ذلك، إذاً فإن الأمر يتعلق هنا بتلك الحلقة الأخيرة التي لو تم فتحها، لأعطت كل ما يستلقي خلفها من براعة، وإمكانات لا توصف، بعداً يمكن للبشرية أن تستلهمه، ليغدو من يقينياتها في فهم نوعها، وذاتها.
إنّ هذه الحلقة الأخيرة ليست استنتاجاً يصل إليه الكاتب في نهاية روايته، بل إنّها الرؤية الباطنية الأولى التي لو كانت متوفرة لأخذ النص كله سياقاً آخر، وأذكر أنني قلت لنفسي ليلتها، وقد بدا لي محزوناً بشعره الأشعث، وعينيه الغائبتين، إنّ هذا هو سبب شقائه، وانتهائه إلى أحضان قوى سياسية عدمية، إنّ هذا الرأس الذي يضج بكل هذا الجمال الفادح، والملاحظات الإنسانية التي صنع منها برواياته عوالم للتأمل وتحسس أشياء باهظة، جعله انعدام الاستبصار الضروري الأخير معوزاً للفهم وأسير غنائياته التي تكفي لذبح أرواح عديدة مع روحه، روحه السامية إلى حد مروع.
في قضايا الجسد، كما في قضايا السياسة، يدير غالب هلسا دفة الحياة، يفكك الجسد ويلئمه، فيغدو كل عضو كأنه حي بذاته، وفي السياسة، يموت زمن الأفكار، يجعلها متقادمة، بل مضحكة، لكن الألسن، والأفواه التي نطقتها، يظل شغفها الإنساني مثل صدى أغنية موجعة وحبيبة، تدفق في الأنساغ التوق المستمر للاندغام مع قضايا كبرى، سلطانة تفيده، أميرة، إيهاب، أحمد، إسماعيل، آمنة، حسن، صليبا، جريس وآخرون جعلهم غالب لنا شخصيات أليفة وحميمة، ومعروفة أكثر من أي شخصيات عايشناها في الحياة الواقعية لنا، من خلالها بدت الحياة الإنسانية مترعة بالخصب، والتداعيات التي تجعل الضمير مفتوحاً على مصراعيه.
أما أنا ككاتب تعلمت من جديد أيضاً فن الملاحظة، والتفاصيل، وحكمتها، فالحياة الإنسانية المتعذرة والمغلقة، تنطحت الرواية لتقريبها، وجعلها في مجال التناول، وهذا لا يتم إلا من خلال النسيج على منوال الحياة نفسها، توليد التفاصيل، وبناؤها، عبر الخيال، والمشاعر، والحدس، وكل إمكانات الحواس، والقوى الكامنة الأخرى، لذلك فإن الشغل على التفاصيل أنواع، نوع يُعيد الحياة إلى إرباكها وصخبها، ومللها، ونوع كما عند غالب يفضي إلى التملك والامتلاء، والتجول على حواف الينابيع والأسحار والعذوبة.
بحدسي، وبعد أن تفككت من ورطة انغماسي، وانشداهي، بجو الروايات، تحسست تلك الحلقة الأخيرة المغلقة، على الرغم من كل ما تتركه الروايات، من فداحة المصائر الوجودية التي هي غاية كل فن عظيم، بقيت المشكلة في عدم التمكن من التعليل الجمالي، والسيكولوجي الكافي، لانجذاب الكائنات الإنسانية بعضها بعضاً، فالمرأة - التيمة - سلطانة - تفيدة - آمنة - عزة، وغيرهن، كائنات متناسخة، لا تشكل كل منها خاصة منفردة، لتعدد وتنوع الجمال، والروعة الأنثوية، فبدت المرأة المشتهاة، تجسيداً لعقدة طفولية لشخص واحد، إنّ الملاحظات هنا، بدلاً من أن تكشف تفاصيل وملاحظات تزيد في غنى الحدس، واستلهاماته، نحو تملك خبرات جديدة في احتمالاته، ظلت أخيراً في حدود الشبق، الشبق الكاوي الذي يظلّ يئن طيلة حراك الشخصيات ونظلّ نئن معه.
إنّ الشعور الذي يتركه هلسا بعد الانتهاء من قراءته، هو انفجار مدوّ لجانب ملوع في النفس الإنسانية، أقول جانب، لأن غالب هلسا صاغ كلّ شيء على أساس أنه الجانب الأكثر أهمية، الجانب الصميمي، الجوهري، لا شك أنّ غالباً متأثر بكلية اللبيدو الذي يقف خلف كلّ حراك للشخصية الإنسانية، وخلف كل انكسار أيضاً، لقد كان يعيش رعباً حقيقياً، في رواياته من العنانة، والعجز الجنسي، إن العالم - آنئذ - يضمحل، ويفقد كل تلك الطراوة الكبرى التي تعطيه الحركة، والغنى والألق، من هذا الموقع للعجز الجنسي، كان مدخله للرعب الوجودي برمته، المسألة تبدو فادحة بلا شك، فالجنس هو الأسطورة الوحيدة التي يمارسها الكائن الإنساني، بكل ما تعنيه من إحساسات، وتهويمات، وانتشاءات يصعب ضبطها، وفهمها، وتحديدها، ولكنها مُعاشة بشكل ما، ومتحققة.
إنّ الجنس كونه ممارسة أسطورية للكائن، يبدو وكأنه يشكل الجسر الوحيد للالتئام مع غموض الوجود، وأسطورته، إنّ هذا الالتئام هو إطفاء مؤقت، ومتكرر للرعب الوجودي للكائن، الرعب الكامن في العادية والواقعية، والرتابة، والتهميش، وفقدان الحيوية، وسطوة الزمن.
هل كان غالب، عندما رأيته آخر مرة أمام صالة الكندي بشعره الأشعث وعينيه الغائبتين، يُصارع حالة من هذا النوع ؟! إنني أتساءل الآن، لماذا بدت النتيجة ممرضة في إبداعات غالب هلسا، على الرغم من كل ما يُسمها من عبقرية، وذكاء، وما شكلته من إضافة جدية للمعرفة الإنسانية؟ إنّ المشكلة في زاوية الرؤية.
فالرواية لن تجد الحل للخلاص الإنساني، لكنها ستكون هي الحل، ستغدو ملجأً للكائن، تصل إلى حدود مبادلة حياته بحيوات أخرى، في حالة تعويضية متكررة، تترحم بها أنساغه، وشهواته ونداءاته العميقة، وأيضاً هزائمه، وخيباته.
إنّ الروايات المهمة يمكن أن تقود إلى التفكك، أو التوازن، وأنا لا أدعو بطبيعة الحال إلى أدب تلفيقي معافى، لكن على الكاتب أن يكون متفهماً لزاوية رؤيته، فالرواية ليست وهماً، أو أحابيل خيال، إنها خلق وقوة كما يصف هيغل الدراما.
وهذه القوة يمكن أن تنير النفس، وتستوعبها في خلقها، أو تعميمها وتربكها، ليس هنا مهماً توسيع المتاهة الإنسانية إذا تمّ ذلك ضمن تجريف للنفس يقودها لنفحص خصائصها، ومزاياها، وصميميتها.
إنّ أعمال كولن ولسن، جعلتنا في وقت مبكر نتقمص طقوساً مضحكة، لكنها لصيقة بالنفس في أشد نوازعها غموضاً، ورواية الأم لمكسيم غوركي قادتنا إلى الأحزاب والإيديولوجيا، والرفاق ذات يوم. ورواية الروائيون لغالب هلسا وضعتنا في حالة تأمل محزن لشغف الإنسان وبحثه، وانتصاراته لأفكار أذرتها الريح، لكنه ها هو يتكرر في آخرين، أجيال أخرى، لها نفس التوق، ونفس المشاعر، مع اختلاف الأفكار التي ستذروها الريح أيضاً فيما بعد.
هشام شرابي في الجمر والرماد - اعتبرها رواية - جعلنا نسمو إلى حد لا يعوض مع أنطون سعادة، ونطأ معه، ونتجول برفقته حاملين رايات كبرى، على الرغم من أننا لم نكن نتفق مع فكرته، إنّ رفعته، جسارته، هي التي جرفتنا، مع زمجرته الأبية.
يبقى أن أقول أخيراً إن غالب هلسا، كان من أكثر الكتاب العرب جرأة، ومغامرة، في تنشيط المخيلة، حول مسائل حساسة، ومقموعة.
إنّ رواياته، كانت إعادة ترسيم للوضع البشري، بكل ما يطرحه ذلك، من زوايا رؤية، وقيم جديدة.


* روائي فلسطيني مقيم في دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved