الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 30th January,2006 العدد : 138

الأثنين 30 ,ذو الحجة 1427

نوافذ ولصوص
سعيد الأحمد
تجلس أمام التلفاز.. ترهف السمع إلى النشرة الإخبارية.. الوجل والخوف والترقب والجزع.. يتقاذفونها كرة بين أيديهم.. الغصة تخنقها.. تحاول أن تخفف من وطأتها.. فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وتحتسي حسيات من الماء البارد لعلها تطفئ ركنا من أركانها التي تضطرم فيها حرائق الألم.. عيناها أوشكتا أن تبيضا من الحزن.. لا يرقأ لها دمع.. ولا يهدأ لها بال. انتشر الجفاف في أرجائها.. لم يبق فيها شيء رطب سوى الذكريات.. لا أحد يعلم ما يعتلج في نفسها إلا الله.. تفتح المصحف لعل كلام الله ينزل بردا وسلاما على جرحها الساخن النازف.. ولكن أصابعها تهرب منها في كل مرة، وتتجه إلى سورة يوسف.. تتلوها.. فيتحشرج صوتها.. تقطع التلاوة عشرات المرات.. إلى أن تصل إني قوله تعالى {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}، عندها تغلق المصحف وتنخرط في بكاء مرير.. وتنادي ولدها (مفلح) الغائب منذ سنة تناجيه.. تسأله عن حاله.. تعاتبه: كيف هنت عليك يا حبيبي؟.. كيف صبرت على فراقي عاما كاملا وأنت الذي لم تفارقني يوما واحدا منذ ولدتك؟ أحي أنت فأنتظرك؟ أم ميت فأبكيك حتى تسيل عيناي على خدي؟ ألا تعلم كم أشتاق إليك؟ ألا تعلم كم أحبك يا ولدي؟ ألا ترحم أمك المسكينة التي أظلمت حياتها بعد كسوف شمسك؟ ألا ترحم كبر سني ووهن عظمي وعجزي عن تحمل فراقك؟ ألا ترحم أخاك الذي نغصت حياته وضاقت عليه الأرض بما رحبت؟ ما فتئ يبحث عنك منذ اختفيت؟ أين أنت؟ أين أنت؟ ولكن مفلح لا يجيبها.. يهدها التعب.. فتنام.. تستجير من رمضاء واقعها بنار كوابيسها.. وتستقيظ بعد ساعة لتجلس أمام التلفاز.
تنتظر النشرة الإخبارية التالية.. لعلهم يذكرون اسمه.. لعلها تعلم أحي هو أم ميت؟ أين هو؟ ما هو مصيره..؟ يمتد أمامها فضاء رمادي قاتم من التساؤل.. أصبح التساؤل جوعا دائما. تُفتح تحتها هاوية حزن سحيق.. ما تزال تهوي فيها منذ عام دون أن تصل إلى قرارها.. تتمتم: الأمل سراب كاذب والغد كابوس سرمدي.. تغلق التلفاز.. وتلقي بنفسها بين مخالب الظنون وأنياب الهم.
سنوات عمرها الخمسون.. طحنتها رحى الحياة.. زهرة شبابها جفت قبل أن ترى الربيع.. حين مات عنها زوجها وهي في ميعة الصبا.. وتركها أرملة وحيدة مع طفلين لم يتجاوز أكبرهما الخامسة من عمره.
لم يكن شيء يخفف وطأة عذاباتها الماضية سوى ولديها (مفلح) و(صالح).. حصاد سنوات الصبر.
دخل ولدها (الضابط) صالح إلى البيت مرتديا بزته العسكرية.. كان في عجلة من أمره.. متوترا.. قلقا.. بحث في أدراج مكتبه عن شيء ما وضعه في جيبه.. لم يسلم على أمه أو يمازحها كعادته.. وجلت حين رأت حالته الغريبة.. هم بأن يخرج من البيت فاندفعت تجاهه وتشبثت به.. توسلت إليه: يا ولدي لا تخرج.. ابق معي اليوم.. أخشى أن لا تعود.. يكفيني مصابي بأخيك.. ليس لي أحد في الدنيا سواك.
قال لها: لا أستطيع يا حبيتي تلقيت الأوامر بالذهاب الآن.. سأرجع بعد ساعتين.. لن أتأخر..
فكرت في حيلة تبقيه إلى جانبها.. تظاهرت بالمرض.. وضعت يديها على صدرها وأخذت تصرخ: قلبي.. يؤلمني.. ألم شديد لا أستطيع تحمله.. آه.. اطلب لي الطبيب. ربت عل رأسها قبل يديها وقال: شفاك الله يا أمي، والله لو لم يكن لدي مهمة عاجلة لما تركتك أبدا.. سامحيني.. نهض.. فتح باب البيت ليخرج.. ولكنه تراجع خطوات قليلة باتجاهها قال: ادع الله لي يا أمي. ثم انصرف حاولت اللحاق به ولكنه نزل مسرعا.. كان يتكلم بجهازه اللاسلكي.. لم تع من كلامه إلا كلمات قليلة.. (ثلاثة محاصرون في بيت مهجور.. في الشارع المجاور..) أغلقت باب البيت وعادت إلى التلفاز تنتظر نشرة الأخبار.. بعد قليل هز الشارع دوي انفجار هائل.. وأزير رصاص كثيف.. يصفعها الهواء الساخن وذرات التراب.. والدخان المتصاعد من حريق في الشارع المجاور.. تنتشر في الفضاء رائحة شواء قوية.. ساقاها يرتجفان.. لا تشعر أنها تركض باتجاه أفقي.. بل تهبط.. في فضاء مظلم.. تضيع في زوبعة المكان.. أبواق سيارات الشرطة.. الضجيج والصراخ وسيارات مهشمة.. ألسنة اللهب تلتهم بيتا قديما.. سيارات الإسعاف والمطافئ تنتشر قربها.. تنصهر معالم الشارع في حرارة الصيف وحرارة الحريق.. لا تبصر المارة.. ورجال الشرطة.. تقتحم ذهنها المشروخ صور قديمة تنطلق من كهوف ذاكرتها كالسهام.. صورة مفلح وصالح.. يقفان أمام كاميرا المصور في أول استوديو افتتح في البلدة قبل ثلاثين عاما.. يرتديان ثيابا بيضاء جديدة وأحذية لامعة.. الشعر المرجل المدهون بزيت النارجين.. العيون المستديرة البريئة.. الابتسامة الحلوة.. و(حوش) البيت القديم الترابي.. حيث مفلح وصالح يلعبان.. والكون يصغي إلى ضحكاتهما وكلماتهما.. يجوعان.. فتعد لهما الطعام.. تنتظرهما.. يتسابقان للوصول إلى صدرها.. ذراعاها مشرعان وقلبها ينتظرهما بلهفة ليستقرا فيه.. تحتضنهما.. تقبلهما.. فتذيب حلاوة تلك اللحظات مرارة الأيام..
ثمة.. نداءات تنبعث من مكبرات الصوت في سيارات الأمن ولكنها لا تسمعها (يا خالة ابتعدي عن المكان).. (يا أمي لا تقتربي).. الناس يراقبون بذهول المرأة المسنة التي مازالت تركض حاسرة الرأس حافية القدمين.. حتى وصلت إلى بؤرة الشارع.. حيث يرقد مفلح وصالح.. على الأرض مضرجين بالدماء.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved