Culture Magazine Monday  30/04/2007 G Issue 197
فضاءات
الأثنين 13 ,ربيع الثاني 1428   العدد  197
 

الاقتباسات المطلعية في رواية (جاهلية) (1-3)
سعد البازعي

 

 

في رواية (جاهلية) لليلى الجهني يواجه القارئ ظاهرة تستفز التساؤل وعلى نحو لا يخلو من حدة، ففي مطالع الفصول نطالع اقتباسات متعددة المصادر والمضامين تضطر القارئ إلى الانشغال بها بحثاً عن تفسير لوجود تلك الاقتباسات من ناحية، أي للمبرر التكنيكي لوجودها، ولدلالاتها أو ارتباطاتها بالحكاية التي تتألف الرواية منها، من ناحية أخرى.. سيتسائل القارئ مثلاً: ما الذي تعنيه تلك الاقتباسات؟ ولماذا جاءت على هذا النحو؟ ولماذا المصادر المقتبسة تحديداً وليس غيرها؟ إلى غير ذلك من أسئلة من شأنها شحن عملية القراءة بتوتر يتواصل حتى نهاية العمل، فهي اقتباسات مطلعية تكاد تغطي كامل الرواية.

حين وجدت نفسي في خضم التوتر المشار إليه بدأت بطبيعة الحال أبحث عن إجابات مريحة أو مخففة لما شعرت به. ووجدتني، مثل قارئ مثقل الذهن بنصوص أدبية سابقة، منها ما هو سردي ومنها ما هو غير ذلك، أستعيد نماذج أخرى استثارت أسئلة مشابهة.. تذكرت روايات تعتمد على نصوص موازية للمتن الروائي، أو العنصر السردي الرئيس، ولكن ما تذكرت منها كان يوظف الهوامش أو الاقتباسات المموضعة في أماكن داخل النص وليس الاقتباسات المطلعية، ثم تذكرت أعمالاً شعرية توظف الاقتباسات المشار إليها على نحو يستدعي المقارنة، غير أني في كل ذلك لم أستطع أن أتذكر نصاً يوظف تلك الاقتباسات بالقدر نفسه من الكثافة ويمنحها ما تمنحها إياه رواية (جاهلية).

الاقتباسات المشار إليها تعرف بالمصطلح الأجنبي (إيبيغراف) epigraph وهي ليست جديدة، لكنها في الأساس تشير إلى ظاهرة مرتبطة بالنحت والعمارة، فالإيبيغرف نقش على كتابة، نقش مصور (غراف graph) مطبوع أو محفور على عمل آخر، كما يشير اللفظ المبدئي أو الأولي (epi-).

وقد يكون من أوائل من طوروا استخدام تلك التقنية في الكتابة الأدبية باللغة الإنجليزية على الأقل الشاعر الأمريكي ت. س. إليوت الذي صدر عدداً من أعماله الشعرية ذات الطابع السردي باقتباسات مطلعية تؤدي أدواراً مهمة في النصوص التي أدمجت بها، وعلى نحو يختلف عن الاقتباسات التي شاعت في فترات سابقة قصد منها تقديم العمل أو تهيئة القارئ لما سيقرأ.

ومن أشهر تلك الاقتباسات ما نجد في قصيدتي إليوت (أغنية حب ج. ألفرد بروفروك) (1915) و(الأرض اليباب) (1922) حيث يلعب الاقتباس المطلعي دوراً حيوياً بالنسبة للنص يمارس من خلاله نوعاً من الهيمنة الدلالية.

ويتبين للقارئ أن إليوت في قصيدتيه المشار إليهما يقصد إلى توجيه الدلالة وجهة معينة بخلق نوع من التناص المتعمد مع نصوص أخرى تنتمي إلى حقل دلالي مشابه، أو تحمل تجانساً بيناً بينها وبين النص الذي يكتبه الشاعر على الرغم من المسافة الزمنية فيما بينها. فإليوت يقتبس من دانتي تارة ومن الأساطير اليونانية تارة أخرى وهكذا، وهي في مجملها نصوص تتصل بالمتن الشعري السردي في دلالاتها وفي نوعها، أي في انتمائها إلى الحقل الأدبي. لكن إليوت لم يهدف إلى خلق وهم الصدقية في نصوصه الخيالية أو المتخيلة بمزج المتن الشعري التخيلي مع اقتباسات ذات بعد واقعي توثيقي. هذا اللون الأخير من الاقتباسات هو ما نجد في أدب ما بعد الحداثة حيث تؤدي الاقتباسات المطلعية إلى جانب الهوامش وعناصر أخرى، وذلك في الأعمال السردية بشكل خاص، دوراً مختلفاً يتمثل في إزالة ما يعرف في المسرح بالجدار الرابع على النحو الذي يخلط حابل السرد بنابل الواقع الإمبيريقي الموثق فتختلط الأمور ليغدو ما هو متخيل قريباً من الحقيقة وما هو حقيقي أقرب إلى المتخيل.

من الروايات التي تسترعي الانتباه في هذا السياق رواية للكاتب الألماني و.ج. زيبالد (أو سيبالد) بعنوان (ستيرلتز) تختلط فيها السيرة الذاتية الموثقة بالحكاية المتخيلة، ويصل الأمر إلى حد استعمال صور ووقائع تكاد تلغي الفوارق بين المتخيل والمتحقق على أرض الواقع، فالشخصية الرئيسية، شخصية اوسترلتز توثق بصور له وبصور للأماكن التي عاش فيها إلى الحد الذي يصعب فيه التمييز بين ما حدث تاريخياً، ومنه أحداث تاريخية ذمن شأنها تحيول العمل إلى عمل تأريخي، وما هو متخيل يحيل العمل إلى رواية بدلاً من أن يكون تأريخاً.

هذا النوع من التوثيق للمتخيل هو ما نجد في بعض الروايات العربية، مثل بعض روايات التونسي محمود المسعدي والمصري صنع الله إبراهيم.

يخطر في البال هنا أعمال مثل (حدثنا أبوهريرة) للمسعدي و(بيروت.. بيروت) و(أمريكانلي) لصنع الله إبراهيم.. في رواية إبراهيم يوثق الكاتب لأحداث الحرب الأهلية اللبنانية في سياق تمتزج فيه الحكاية المتخيلة بالسيرة الذاتية حتى يصعب التمييز، وفي الرواية الثانية نقرأ ما يشبه السيرة الذاتية الموثقة بهوامش تمتد على طول العمل الروائي تقريباً وفيها حشد من المعلومات المتعلقة بالتاريخ وبالجغرافيا وبالعلوم، إلى غير ذلك من مصادر تحمل طابعاً موسوعياً، غير أن وجود المعلومات في الهامش في هذه الرواية الأخيرة يضعها في موقع ثانوي قياساً إلى المتن الروائي، وفي تقديري أن هذا هو ما تختلف فيه رواية (جاهلية) موضوع حديثي هنا.

لقد سقت الأمثلة السابقة لكي أرسم سياقاً يمكن من خلاله إدراك الأبعاد التقنية والدلالية لما تفعله الكاتبة ليلى الجهني، فهي وإن لم تخرج بجديد بالضرورة - علماً بأنها جديدة قياساً إلى كثير من النتاج الروائي في السعودية بشكل خاص - فإنها تستثمر تقنية تنتسب إلى شجرة روائية أو قصصية موجودة أرى أن من المفيد استحضارها، لاسيما أنها توظف تلك التقنية بمهارة لافتة.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة