Culture Magazine Monday  30/04/2007 G Issue 197
فضاءات
الأثنين 13 ,ربيع الثاني 1428   العدد  197
 

مساقات
(فِتْنَة):البنية العميقة! (2-5)
د. عبد الله الفـَيْفي

 

 

تحدّثتُ في المساق السابق عن رواية (فِتْنَة)، للكاتبة أميرة القحطاني (بيروت: دار العلم للملايين، مارس 2007م)، مشيرًا إلى أن الكاتبة قد اعتمدتْ في السرد طريقة في التداعي واستدعاء الذكريات، خلال رحلة بطلتها القلقة لأداء الحجّ، ومنها تذكّر أبيها، وزياراتها للدِّيْرَة في منطقة الجنوب. حافلاً النص بإسقاطات سياسية واجتماعية مختلفة، لا تخلو من مبالغات.

وفي طريقة الكاتبة ما يذكّر القارئ بأسلوب غابرييل غارسيا ماركيز في مثل روايته (خريف البطريرك)، القائمة على المراوحة بين اللحظة الراهنة واسترجاع الماضي، في أحلام يَقَظَةٍ تترى. وهي تداعيات مربكة أحيانًا لمتابعة القارئ في (فِتْنَة)، كأن تقفز فجأة مثلاً من مكّة إلى فندق في باريس، لاستحضار ذكرى سَفْرَتها إلى هناك (ص105). ومع ذلك فقد كانت الكاتبة بارعة في معظم الأحيان في هذه اللعبة السردية، بما أكسب النصّ كثيرًا من التشويق وكَسْر رتابة الأحداث.

وقد أوضحنا الخلفية الإلهامية لأميرة القحطاني في كتابة عملها، والمستمدّة من رواية (النورس جوناثان ليفنغستون)، لريتشارد باخ، التي أشارت إليها في روايتها، وأهدت العمل إلى البطل: جوناثان ليفنغستون. ولذلك كانت روح البطلة تنطلق خلف الأسئلة، التي لا تعرف حدودًا ولا قيودًا:

(ألم يستفسر سيدنا إبراهيم عليه السلام؟ ألم يخاطب اللهَ طالبًا الدليل؟ ألم يقل: (ليَطْمَئِنَّ قلبي)؟ ألم تأته الإجابة؟ أين نحن من هذا؟ لماذا يُطلب منا الاستغفار عندما نسأل؟... (ص96- 97).

وتلك هي البنية العميقة التي تتأسس عليها رواية (فِتْنَة)، أي: بنية التساؤل والنقد، حتى ليصح القول إن السؤال هو بطل هذا العمل الحقيقي. ومع أن النصّ يثير الكثير من تلك الأسئلة، الوجودية، والميتافيزيقية، إلا أنه -للحق- لا يوغل في ركوب موجة التحرّش المعتادة بالديني أو القِيَمي أو السياسي، ونحوها من (المنشطات) الإعلامية المثيرة للرأي العام، التي تُفتعل لدى كثير من الكتاب لكي يكون العمل أكثر مبيعًا وأوسع أضواء. وهو اتجاه ساد كثيرًا من الأعمال الروائية العربية، دونما فكرٍ مؤهِّل، في كثير من الحالات، ولا قضايا فنّيّة، ولا نقد بنّاء، لكنه ضِدٌّ ضِدَّ ضِدٍّ، في صراع النقائض الثقافية العربية، وهو ما لا يخدم - في النهاية- الكاتب -حتى على صعيد الأضواء وسرابها، إلا مؤقتًا- كما لا يُصلح مجتمعًا، ولا يبني سويّة أدبيّة.

وهذه مزيّة تُحسب لرواية (فِتْنَة) على صعيدها الفكريّ، حين تتطرق لأكثر الأسئلة صعوبة، وأشدّها جَدَلاً، في عقلانية واعتدال نسبي.

وعلى الرغم من الأبعاد الأيديولوجية التي تكمن وراء خطاب النصّ، ولاسيما ما يتعلّق منها بالبُعد النسويّ الذي قد يصل أحيانًا إلى درجة إظهار العداء للرجل، فإن ذلك يُمكن تفهّمه من قِبَل القارئ من خلال الحالة النفسيّة التي مَرَّتْ بها البطلة، من ترك الأب إياها صغيرة، بعد تطليقه أُمَّها ليتزوّج أخرى، إلى تسلّط الأخ عليها وقسوته. حتى لقد استحالت شخصية فِتْنَة إلى شخصية ساديّة، مريضة، نفسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا. ترسم لأبيها صورة متناقضة، فهي تصفه بأنه كان رقيقًا لطيفًا يحترم ابنته، (ص11)، ومع ذلك فهو -لديها: (صِلْف)، قد تحقد عليه، ولا تعرف سبب بكائها على موته (ص15). وهذا ما كان يشحن لغة فِتْنَة -في موقفها من أبيها، واستثقالها أخاها- فظاظة تعبيرية، فيها غير قليل مما ينبو عنه الذوق الاجتماعي في التعامل مع الأب والأخ ومخاطبتهما، وفيها قَدْر من الشراسة اللغوية، وسوداوية الأحكام النهائية والشمولية، التي لا تستثني، كموقفها من فكرة (تعدّد الزوجات) التي تبعث فيها -كما قالت- التقيُّؤ! (ص73). وذلك كله كان يفضي إلى اضطراب في خطاب النصّ، بما لا يكوّن لدى القارئ شخصية روائية متّسقة، بلهَ متماسكة، من الناحية النفسية. إلا أنه اضطراب يطابق ما أرادت الكاتبة أن تحمّل تبعته على المجتمع، من حيث كانت فِتْنَة ضحية عَسْف ذلك المجتمع، وتشوّهاتها الداخليّة جاءت نتيجة ظلمه وانحيازه.

وهكذا تبدو فِتْنَة شخصية مريضة مشوّهة، ضحية تربية أسرية واجتماعية وثقافية، حتى ليصل بها الأمر إلى القول: (شريط سينمائي يَمُرُّ أمامي كل ليلة، وكل ليلة أتمنى أن يكون بيدي مسدس أطلقه اتجاه كل من ضايقني وكل من جرحني ونسي.(ص39). وتنقل معاناتها النفسية تلك في أبلغ تعبير في قولها: (الله الذي أَذْهَبُ وأَذْهَبُ وأَذْهَبُ ثم أعود لأُلقي بنفسي بين يديه في آخر المطاف وأطلب منه أن يحميني من ذلك الوحش.. الوحش الذي يأتي كل ليلة ليُهاجمني ولا أُخْبِرُ به أحدًا. هذا (العالم) العملاق الذي يحمل كل هؤلاء البشر والذي هو أكبر من أن أستوعبه بعينيَّ وعقلي وأكبر من أن أدفعه للخلف، كل ليلة يركض خلفي يريد نَهْشي بأسنانه الحادّة. وكل ليلة أختبئ خلف أُمّي فأجدها أصغر من أن تحميني، فأذهب بحثًا عن أبي، ولا أجده، فأحفر حفرةً صغيرة بأظافري المتقصِّفة، أدفن بها وجهي كل ليلة إلى أن تُشرق الشمس.. وكل ليلة أكتشف أن الشمس لا تشرق أبدًا.(ص118). وتقف وراء (ذلك الوحش) ذكريات الأب القاسي على أولاده كما صوّرته في صفحة 32 من الرواية، في تعامله مع أخيها وأمّها.

لهذا، فقد أورثت البطلةَ تلك التجربةُ حالةً ملتبسة، فهي تكره الذكورة وتعشقها في آن؛ إذ ترى فيها ملامح ذلك الوحش - الأب. ومن ثمّ جاء إعجابها مثلاً بشخصية الشاعر راكان بن حثلين من هذا الباب، حينما يقول لمحبوبته:

روحي وأنا راكان زبن الونيةْ

ما يشرب العقبات كود الهداني!

فتقول عنه فِتْنَة: (والله إنه شيخ وبطل ورجّال)! وإن علّلَت ذلك بقولها: (ما قال زوجتي وحقّتي وأبيها، قال: (روحي وأنا راكان زبن الونية).. تركها للي اختارت والله إنه رجّال ولد رجّال.(ص65).

وظاهر الأمر أن في قولها تعليلاً منطقيًّا للإعجاب بموقف الشاعر من حبيبته التي تخلّت عنه ورضيت الزواج بغيره، إلا أن باطنه ومنبع الإعجاب الحقيقي فيه هو المشهد الذي أيقظ في نفس فِتْنَة صورة الأب، (المكروهة المعشوقة)، في تعامله الفظّ مع المرأة، وتنصّله منها، بل مفاخرته بذلك، بوصفه علامة القوّة والرجولة، من خلال ذلك البيت الذي يبدو بمثابة طردٍ للمحبوبة من حياته وتعلّقه وتفكيره، ولسان حاله: (روحي في ستين داهية.. وأنا راكان!)

وكذلك القول في إعجاب البطلة بكثير من الرموز الذكوريّة، الفحوليّة، سواء تلبّست شخصيّاتهم بالأدب، أو بالفنّ، أو بالثورة السياسية، كإرنستوتشي جيفارا، وجمال عبدالناصر. (ص128). فكلّ أولئك كانوا يستأثرون بإعجاب البطلة، مع غياب تامٍّ لأي رمزٍ أنثويّ يبعث على الإعجاب في النص، من حيث قد ظلّت الأنثى في مخيّلة فِتْنَة تلك الأُمّ الطيّبة الضعيفة، المغلوبة على أمرها. وفي هذا تناقض نفسي صارخ بين ما تعلنه المرأة -البطلة- كحال المرأة غالبًا -من ثورة على الذكورة- تعبّر عنه حين تقول مثلا: (أمّا ألعابي فهي ليست كثيرة... وكنت أحرص على وجود دُمَى العناكب الصغيرة الملوّنة. أُحبّها تُذَكِّرني بقوة الأنثى عندما تقتل زوجها وتلتهمه بعد الانتهاء منه. يا لها من بطلة! و.... لا لا لا تأخذوا هذه الفكرة الخاطئة عني، فأنا لا أُحَبِّذ قتل الرجال، أنا فقط أتلذَّذ بتعذيبهم)، (ص130)- وبين تهافتها بوَلَهٍ على أقانيم الرجال، عربية وغير عربيّة، في تناقض ظاهر! حتى إنها لتجد للرجل رائحة تميّزها -بزعمها- عن بُعد مسافات شاسعة، وبخاصة (رائحة الرجل السعودي) التي تعشقها!

وفي المساق الآتي مقاربات أخرى لملامح البنية النفسية في رواية (فِتْنَة).

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة