الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 30th June,2003 العدد : 18

الأثنين 30 ,ربيع الآخر 1424

محمد حسن فقي.. البقية الخلاصة!
بقلم/ عبدالله الجفري

مدخل:
في عام 1944م.. كتب الدكتور "منير العجلاني" مقدمة للطبعة الأولى من ديوان نزار قباني "قالت لي السمراء".. وقال في تلك المقدمة:
لا تقرأ هذا الديوان.. فما كتب ليقرأ، ولكنه كتب ليغنى، ويشم، ويضم، وتجد فيه النفس دنيا ملهمة!
وفي عام 1982م أراد "نزار قباني" أن يعرِّف الشعر، وأن يتحدث عنه وعن قرائه العرب.. فكتب يقول:
"إذا كان العالم العربي يعيش في هذه الأيام ذروة تساقطه وانهياراته.. فإلى أي حد يمكن اعتبار الفكر الشعري مسؤولا عن هذه الانهيارات؟!
عندما كان الإنسان العربي عظيماً.. كتب شعراً عظيماً، وعندما صار هابطاً.. كتب شعراً هابطاً!
هذه هي المعادلة الصحيحة"!!
ولكن... هل هذه هي المعادلة حقاً، وصدقاً؟!
***
* ولعلني استخدمت هذا "المدخل" بشواهد عن شعر "نزار قباني" ومن كلماته.
وأعرف أن الشاعر الذي أردت الحديث عنه يختلف تماماً في لونه، وبنائه اللغوي، وصوره، وأغراضه.. عن هذه الركائز في شعر نزار قباني.
ولكني لابد ان أتلفت إلى حاضر الشعر اليوم، وأحاول أن ألخص "التعاقب الزمني" للشعر العربي الحديث.. بدءاً من ذلك الشعر الذي كان يلامس وجدان القارئ العربي، و"تجد فيه النفس دنيا ملهمة" كما قال الدكتور العجلاني!
وهذا التعاقب الزمني.. شهد أيضاً طلوعاً شعرياً، تمثل في مدارس شعرية، وفرسان شعر في العالم العربي.. حتى انتهى بنا إلى هذه المرحلة التي نعيشها، ونعاني فيها، ونصرخ، ونتلفت، ومازلنا نبوح بالشعر، وبالغناء!!
إن الشعر اليوم.. لم ينته دوره، بل تعاظم وتبلور، وصار صوتاً للمعركة، وصوتاً للمقاومة، وصوتاً للألم والمعاناة، وصوتاً لهذه العاطفة العربية التي واصلت أحزانها عبر التاريخ الممتد، والحافل!
لقد اتخذ الشعر اليوم جانب "القضية" وعمق الانتماء.. وان تخاطفته موجات المدارس الشعرية، والمدارس النقدية، وحتى "الصرعات" في محاولات التجديد، أو التحديث!!
وهناك جانب الشعر نفسه: مستواه، ومعانيه، وتوحده مع مشاعر الناس، ونضجهم، وآلامهم.
ولعل الشعر هو "الفارس" بين ألوان الفنون الأخرى.. الذي مازال يصول ولايهدأ، ويشيع وينتشر ويغني!
لكن الشعر كما قال نزار أيضاً ليس نظرية، وليس هناك شاعر يحمل نظريته معه (والشعراء الذين حاولوا ان ينظّروا في الشعر.. خسروا شعرهم، ولم يربحوا النظرية)!!
ولكننا نكتشف الآن تسلل التنظير حتى إلى الشعر، بعد أن أغرقوا الشعر في السياسة وفي الأيديولوجيات والشعارات.. والشعر: شعور طبيعي، وعفوي، وصادق، ونقي!
وبعد الشعر.. نفتش عن "دور" الشعر، ذلك الذي يتحد مع معاناتنا، وأحزاننا، وأحلامنا، وتطلعنا للغد.. ولا بد أن تكون مشاعرنا اليوم ممتزجة مع تجربتنا، ومعاناتنا!!
***
لذلك كله.. تلفتُّ طويلاً نحو "مضمون" شعر هذا الشاعر الذي أردت الحديث عنه اليوم!
إنه الشاعر السعودي الكبير، الأصيل: "محمد حسن فقي"... الذي بلور تجربته الشعرية الطويلة، وصاغ منها: القضية، ودور الشعر، وصدق البوح أو التعبير، وتوحده مع المعاناة الحقيقية لعصره!
ويقف "محمد حسن فقي" في دفء هذا الضوء الذي يشير إلى الحصيلة في معنى هذه العبارة:
"بقية الناس"!!
إنه يبدو برؤيته، وبرؤاه الشعرية وبفلسفته، وبصموده، وبقضيته، ودور الشعر في شعره: إنساناً مميزاً من هؤلاء الذين نسميهم: "بقية الناس"!
البقية/الخلاصة.. من جيل عظيم ورائد، صنع هذا الحاضر يوم كان مخايلَ للمستقبل!
يوم كانت الثقافة، وإبداع الكلمة، واقتحام الضمير الإنساني: علامات تدل على انطلاقة إنسان الجزيرة العربية من عصور ارتبطت بالتقوقع، وظلال الجهل.. وتاقت إلى المناغمة مع أمجادها الدينية، والتاريخية، والقومية!
البقية/الخلاصة.. من جيل أعطى، ولم يَمُنَّ.. وأبدع، ولم يتجاسر على الكبر والاستعلاء.. وعلم، ولم يتنفج بالادعاء والزهو!!
***
* في البدء.. لا بد لنا ان نطرح هذا السؤال:
ما هي أبعاد العلاقة بين شعر "محمد حسن فقي" وبيئته العربية الإسلامية؟!
إننا نجد في شعره: القضية، والدور.
ونجد في شعره: المستوى المميز، والتوحد مع عصره ومعاناته!
ونجد في شعره: هذه الحميمية التي أوجدت التداخل بين الإيمان الراسخ، والحزن العميق!
* بمعنى: أن الشاعر لم يكن في شعره ذاتياً محضاً، يبلور تجربة شخصية، وإن كانت بعض الصور في قصائده تشير إلى تجربته الخاصة.. لكنه يعبر عن "الإنسان" الذي يمتزج بتجربة الجيل، والبيئة، والمعاناة، ووحدة الهموم والأشجان!
إنه يصور معاناة مفهوم الحرية المطروح نضالياً، والمطروح نفسياً، والمطروح عاطفياً!
وهو مفهوم يتعمق بذلك التداخل.. بين الإيمان، والحزن:
لو فكر الناس فيما يحلمون به
لما بدت لهم الظلماء كالوَضَحِ
لقد لَهَوْتُ صبياً، ثم أحزنني
مرُّ التجارب.. حتى صرتُ كالشَّبَحِ!
إن "محمد حسن فقي" لم يُكرِّس الحزن في شعره، كما يبدو لقارئ الشعر قراءة عابرة، بل إن الحزن هو الذي كرس بوح، ومشاعر، ومعاناة هذا الشاعر.. فانطقه هذه الصور والمعاني، واستوعب لغته وقاموسه:
نعيشُ حياةً.. ما نرى غَيْرَ هَزْلِها
فإنْ هي جدَّتْ.. أرجعت بالمرازىءِ!
وقد يحاول النقاد الحداثيون، أو الحديثون، أن يقيموا الحواجز بالنقد بين هذا الشعر المصوغ في قالب الكلاسيكية المحضة، وبين التجديد أو التحديث.. وبذلك فإنهم يتمردون على تلك القاعدة القائلة:
* "إن القصيدة عالم مُكتَفٍ بنفسه، يحتاج إلى ان يطرق بابه قارئ قوي رقيق معاً.. حتى يؤذن له بالدخول" كما قال الدكتور "مصطفى ناصف" في كتابه: قراءة ثانية لشعرنا القديم!
ولا بد أن في ضمائر هذا التمرد.. اعتسافاً لطبيعة الأدب، ولطبيعة التطور أو التجديد أيضاً!!
ورغم تدفق الشاعر، أو سيولة إنتاجه كما يصفه البعض! فإننا نلحظ عدم سقوطه في تكرار جملة، أو صورة!
ولا بد أن تكون له "مفردات" خاصة به، مثل كل شاعر أو كاتب.. لكنه يسوِّغ هذه المفردات، ولا يكررها بفجاجة.
وقد تخالجنا الحيرة كقراءِ ونقاد نقف أمام أعمال شعرية كاملة لشاعر أصيل هو: السيد "محمد حسن فقي" بلغت ستة أجزاء!
ويتمحور السؤال أمام هذه الأجزاء الستة:
* لماذا إصدار الأجزاء الستة دفعة واحدة؟!
لو توفرت للشاعر فرصة لإصدار: جزء واحد كل عام؟!
لكن الظروف التي قد نعرفها جميعاً، والتي واكبت عزمة الشاعر على إصدار هذه الأعمال، ثم أخرت الإصدار، ولا نقول عرقلت الإصدار سنوات... هي التي اضطرته الآن ليدع بها مجموعة كاملة للبيع!
إن الذين يقبلون اليوم على شراء ديوان شعر واحد: قلة لا تكاد تبين.. في زحام الذين يتدافعون نحو شراء المجلات المصورة الملونة، والصفحات الرياضية!!
* ولكن.. أين هي الحقيقة؟!
تُحَيِّرُني الحقيقة.. وهي وَهْمٌ
تخبَّطَ فيه إحساسي، وعقلي
لقد جرَّبتُها.. فلقيتُ أنّي
أكاد أرى بها عِلْمي.. كَجهلي!!
فقد يغدو الترفُّع عند جيلٍ
لدى جيلٍ سواه.. من التدلِّي!!
شقيتُ.. فما أرى في الناس إلاّ
نقائضَ لا تُريحُ ضميرَ مِثلي!!
***
* والشاعر "محمد حسن فقي" في شعره، يريد أن يحقق فكرة الارتباط بظلال الزمن.. أو أن الناس صاروا ينغمسون في الظلال، ويُسقطون الزمن!
إن الإنسان لا يطيق الظلال.. ولكنه قد يتوقف عند شيء باق، أصيل، وعميق.. مما تخرج به عادة، فيما يسمى: تجربة الحياة!
ولذلك.. عانى الشاعر "محمد حسن فقي" من إشكالية عصره، وهي: "القدرة المتجهمة"!
ولعله مارسها مع الناس.. كأنه يريد أن يمحو الجهامة والعبوس، ويستبدل بهما ابتسامة.. فلا يجد غير دمعة!
ويبدو الشاعر "محمد حسن فقي" في بعض حالاته، وكأنه يعتزل الناس!!
وتجرأت مرة، وسألته:
* لماذا تعمد إلى هذه العزلة؟!
فأجاب: لعل الشاعر يتفوق في "التأمل" وبه.. وعلى تلك "القدرة المتجهمة" التي ترمينا بها الحياة!
ولكن كما قيل فإن نصف الحب: ابتسامة!!
وأحسب أن هموم الإنسان.. تعتدي اليوم على نصف الحب هذا؟!
***
* إننا لا نغالي.. إذا قلنا: إن شاعراً في الجزيرة العربية هو "محمد حسن فقي" يعتبر ممن تبقى من الشعراء الكبار الذين يتمسكون بشكل القصيدة العربية المكتملة في مراحلها العديدة.
ويمكننا أن نعتبره خاتمة المدرسة التي أفلت، بعد: شوقي، وحافظ، ومطران، وبدوي الجبل، وعمر أبوريشة، والجواهري، والرصافي!
لقد أعطى للقصيدة: هذا الاستشراف لكيان القصيدة العربية.
وشعره ينطبق عليه هذا الاستخلاص الذي أورده الكاتب العالمي "هربرت ريد" حين قال عن القصيدة الطويلة التي تختلف عن شكل وبناء القصيدة العربية:
* "قليل من النقاد من التفت إلى العلاقة بين الطول في الأعمال الفنية، وبين التعقيد والعظمة.. ونصل بذلك إلى قاعدة عامة، وهي: أن السطر الأول من الشعر، أو المقطع الواحد.. تتهيأ له فرصة أوسع لأن يكون عظيماً.. إذ هو جاء في عمل شعري طويل"!
إن "محمد حسن فقي" يهتم بالبناء الشعري.. مرتبطاً بالمأثور اللغوي القديم، وملتزماً بصور التعبير التقليدية.. ولكنه يبدو أكثر براعة ودقة في تصويره!
إن الشاعر الكبير "الفقي" لطول تجاربه وقساوة الكثير منها انساق خلف ملاحاة أنماط كثيرة من البشر.. ولذلك فقد كونت تجربته الإنسانية لديه شعوراً بالمرارة، والأسى، والحزن!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved