Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
أوراق
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 

ابن خلدون.. أبرز مفكري العالم «1-2»
أ.د. عبدالرزاق الزهراني

 

 

يعتبر ابن خلدون من أبرز المفكرين في العالم، وله قامة تضاهي العديد من كبار المفكرين المعاصرين، ولقد اعترف عدد من المنصفين من العلماء الغربيين بمكانة ابن خلدون، وبعلمه ومنهم عالم الاجتماع الأمريكي (جانسون D.P.Johnson في كتابه عن النظرية الاجتماعية أن (الروح العامة، أو الاتجاهات المتعلقة بتحليلات ابن خلدون قريبة بطريقة مدهشة إلى طرق البحث العلمية الحديثة في هذا الحقل، ومضمون فكره يمكن أن يقارن بالنظرية الاجتماعية المعاصرة، وعلى كل حال فقد تم تجاهل عمل ابن خلدون من قبل المنظرين وعلماء الاجتماع الأوروبيين والأمريكيين، وربما يعود بعض السبب في ذلك إلى أن العالم العربي كان في مرحلة انحدار، بينما كانت أوروبا الغربية في مرحلة صعود). Johnson:1988:13.

هذا وقد كان ابن خلدون مجهولاً في كثير من الأقطار الغربية، باستثناء فرنسا حيث تم اكتشاف ومعرفة مقدمته في بداية القرن التاسع عشر (الحصري، 1967: 249) ويعتبر علماء الاجتماع الغربيون أن (أوجست كونت) هو مؤسس علم الاجتماع، والحقيقة والإنصاف يقضيان بنسبة تأسيس علم الاجتماع إلى ابن خلدون لا إلى (أوجست كونت) لأن ابن خلدون هو الذي عرف العلم ووضع حدوده، وبين بعض مناهج البحث فيه، وقام بوضع بعض النظريات الاجتماعية. ومؤسس العلم - أي علم - ليس عليه أن يحيط بجميع تفصيلاته، ويكفي جهده في التأسيس ووضع الملامح والأسس العامة للعلم، وعدم نسبة العلم، أو الاكتشاف، أو الاختراع إلى مؤسسه الحقيقي يعتبر سرقة حضارية وخاصة في الماضي قبل معرفة براءة الاختراع حيث بدأت الأمم الأكثر تقدماً التي لها أصوات مسموعة تدعي السبق لعلمائها ومفكريها، وتنسب بعض الاكتشافات، والاختراعات لهم، ولأن تلك الدول أقدر وأقوى على إسماع صوتها، فإن الناس يأخذون ادعاءاتها كأمر مسلم به، وأرى أنه يجب أن يكون هناك جهة دولية محايدة تفصل في مثل هذه القضايا وفق أسس وقواعد ثابتة.

وتعريف ابن خلدون لعلم الاجتماع يرقى إن لم يفق الكثير من التعريفات المعاصرة فقد عرف علم الاجتماع بأنه دراسة المجتمع البشري في أوضاعه المختلفة، ومعرفة طبيعة وخصائص تلك الأوضاع، ومعرفة القوانين التي تحكم تطورها (Issawi,1963:7) والتعريف السابق يقضي بأخذ البيئة في الاعتبار لأن لها أثرا كبيرا في أوضاع المجتمع المختلفة.

ويرى الدكتور حسن الساعاتي- رحمه الله- أن أوجست كونت ربما اطلع على بعض أفكار ابن خلدون من خلال مراسلاته مع بعض رجالات الدولة العثمانية، ومن خلال أحد تلاميذه المصريين الذين بعثوا إلى فرنسا للدراسة، فقد أهدى كونت بعض كتبه لذلك الطالب، ولا تزال تلك النسخ موجودة في مكتبة جامعة القاهرة إلى اليوم، والدراسات عن ابن خلدون باللغات الأجنبية تفوق ما كتب عنه باللغة العربية، وهناك انفجار معرفي كما يقول الدكتور أبو بكر باقادر حول فكر ابن خلدون في العالم في العقود الثلاثة الأخيرة.

البيئة والمجتمع في فكر ابن خلدون

يعتبر ابن خلدون من أوائل من تحدثوا عن البيئة وتأثيرها في حياة البشر وألوانهم وحضاراتهم، وعند الحديث عن البيئة والمجتمع في فكر ابن خلدون يمكننا أن نتناول ثلاثة محاور.

المحور الأول:

تأثير البيئة في فكر ابن خلدون

للبيئة تأثيرها الواضح على فكر ابن خلدون وتكوينه المعرفي، فقد تنقل وتقلب في العيش بين بلدان كثيرة تختلف في بيئاتها، فمن تونس الخضراء غادر إلى المغرب، والأندلس، وهي بيئات حضرية، وتكثر فيها الأنهار، والمناطق الزراعية، ولذا ازدهرت فيها العلوم والمعارف والحرف، وعاش ابن خلدون في منطقة بسكرة في الجزائر مدة ست سنوات تعرف فيها على البيئة الصحراوية، وعلى حياة البدو، وعاداتهم وقيمهم، وصادق مجموعة من شيوخ القبائل، وعاش في قلعة ابن سلام حوالي أربع سنوات، كان فيها في شبه عزلة، وفي تأمل وتفكير، حيث وضع مقدمته التي فتح الله عليه فيها فتحاً كبيراً، وقد كان لابن خلدون تجلياته، وأفكاره الجديدة في هذه البيئة الهادئة والبعيدة عن الصخب ودنيا السياسة التي عمل فيها ابن خلدون ردحاً من الزمن، وتقلد مناصب عالية، واكتوى بنار السياسة وكاد يفقد حياته بسببها، ولذلك هرب من المغرب إلى قلعة ابن سلام حيث الهدوء والسكينة، والتفكير العميق في معارفه وتجاربه وحياته ومحاولة استخلاص العبر والقواعد وابتكار أفكار جديدة لم يسبقه إليها أحد.

من قلعة ابن سلام عاد إلى تونس، وهناك قابله الحاكم، وأنزله في دار خاصة، لاتزال قائمة إلى اليوم، وأجرى له راتباً، فقام بتنقيح كتابه وتطويره وإهدائه إلى الحاكم، ومن هنا رحل إلى مصر بحجة الحج، واستقر بها ومنها زار الحجاز والشام وأماكن أخرى، ولقد كان لتلك البيئات المختلفة دور كبير في تكوين فكر ابن خلدون، وتطوير نظراته في الحياة والتاريخ والتربية والاقتصاد، واستطاع أن يجري مقارنات دقيقة بين المجتمع البدوي والمجتمع الحضري، وأصبحت هذه الثنائية من أبرز ما يميز فكر ابن خلدون، وهذا يجرنا للحديث عن المحور الثاني في حديثنا عن البيئة والمجتمع في فكر ابن خلدون.

المحور الثاني: مقارنة ابن خلدون بين البيئة الحضرية والبيئة البدوية

لم تكن الظاهرة الحضرية في الفترة التي عاش فيها ابن خلدون قوية ومنتشرة، فمعظم السكان كانوا يعيشون في الأرياف والبوادي، لتوفر وسائل العيش، وخاصة الغذاء والكساء، وكانت نسبة من يعيشون في المدن إلى عهد قريب قليلة ومحدودة، وكانت المراكز الحضرية في كثير من البلدان شبه معدومة، فالجزيرة العربية مثلاً لم يكن بها مدن كبيرة، فرغم وجود الحرمين الشريفين في الحجاز، فإن مكة المكرمة والمدينة المنورة كانتا مثل قريتين كبيرتين من القرى المعاصرة.

ورغم ضعف الظاهرة الحضرية في عصر ابن خلدون فقد تناولها وقدم حولها أفكاراً ناضجة ومتقدمة، وقد استوحى معظم أفكاره من البيئة التي عاش فيها، ومن احتياجات الناس في تلك الفترة، ولذلك فإن أفكاره يجب أن تؤخذ في إطارها، ولا تقاس بما هو موجود اليوم، وقد جادل ابن خلدون في أن المدن أماكن تتخذها الأمم عندما تصل إلى الحد المطلوب من الرفاهية وتوفر الأشياء التي تحتاجها حياة المدينة (اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار), ولعل ابن خلدون ترك عبارته مفتوحة حول احتياجات حياة المدينة لعلمه أن تلك الاحتياجات تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر ومن أمة إلى أخرى، وقد أضاف ابن خلدون إلى وظيفة المدن بأنها مكان للرفاهية، وتوفير أجواء الحياة والعيش الرغيد، وظيفة أخرى تتمثل في أن المدن مكان للأمن والبحث عن الحماية، وخاصة في أوقات الخوف والغارات. وأمن المدن يتحقق ببناء البيوت إلى جوار بعضها، وإحاطتها بسور يحميها من غارات المعتدين وهجماتهم. ومن جهة أخرى يجب عند بناء المدن اختيار الأماكن الحصينة التي تساعد في الدفاع عنها ويصعب وصول المعتدين إليها، مثل بنائها على الأماكن المرتفعة، أو في الأماكن التي تحيط بها العوائق المائية كالبحار والأنهار، وهذه الإستراتيجية في بناء المدن كانت شائعة ومعروفة في فترة ابن خلدون، واستمرت في كثير من البلدان إلى بدايات القرن العشرين، حيث تغيرت الوسائل والأدوات الحربية للهجوم، وتغيرت تبعاً لذلك وسائل الدفاع، وأصبح دور المكان والموقع في تلك العملية قليلاً ومحدوداً.

ويفرق ابن خلدون بين نوعين من المجتمعات هما المجتمع الحضري والمجتمع البدوي. ولا يسمح المقام باستعراض أوجه الشبه والاختلاف بين المجتمعين في جميع الجوانب الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والحرفية، والتعليمية.. ولكننا سوف نتعرض لما أورده من فرق بينهما مما له علاقة بالبيئة، فهو يرى أن بيئة المدينة بما فيها من أسوار واعتماد على الدولة في الجوانب الأمنية، وقلة الحركة فيها، وتلوث هوائها تؤدي إلى وجود مجتمع يتصف بالصفات الآتية، وقد حرصنا أن نورد عبارات ابن خلدون كما هي:

1- المصر الكثير العمران تعظم نفقات أهله، ويختص بالغلاء في أسعاره.

2- يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحايل على تحصيل المعاش من وجه ومن غير وجه، وتجدهم أجرياء على الكذب والغش والفجور في الإيمان.

3- وقوع الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر، لخصب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية، وعدم توقيتهم لتناوله.

4- ثم إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات).

5- ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً، ولا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن والأمصار).

6- إن أهل المدن والأمصار أقل شجاعة وحمية لأنهم ألقوا أنفسهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمر المدافعة إلى الحامية التي تتولى حراستهم، وإلى الأسوار التي تحيط بالمدينة.

إن ما يذكره ابن خلدون عن بيئة المدن يعكس كثيراً من الأوضاع التي يعيشها سكان المدينة المعاصرة التي ارتفعت فيها مستويات التلوث، وانتشرت فيها أمراض الترف مثل: الضغط والسكر وأمراض السمنة، وما تفشى في المدن من أساليب الغش التجاري، وانتشار الجريمة، وقلة ممارسة الرياضة لتوفر وسائل النقل ووسائل الراحة والترف، وكثرة المآكل والمطاعم، وما اشتهرت به المدن المعاصرة من تزايد في درجات الاستهلاك، ومن ثم زيادة في الأسعار.

ومن جهة أخرى قارن ابن خلدون بيئة المدينة ببيئة البادية، لتوضيح الصورة، ولأن البادية والمدينة هي الثنائية التي برزت كثيراً في فكر ابن خلدون، يقول عن البيئة البدوية: (وأما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب، حتى صار لهم ذلك عادة، وربما يظن أنها حيلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالمجملة.. وأما أوعيتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات والعفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن، ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم، فيحسن بذلك كله الهضم ويجود، ويفقد إدخال الطعام على الطعام، فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد من الأمراض، فتقل حاجتهم إلى الطب). يضاف إلى ذلك أن البدو أكثر خشونة، وأكثر اعتماداً على أنفسهم في الدفاع عن ممتلكاتهم وأنفسهم، وقد ذكر ابن خلدون ذلك في أماكن متفرقة من المقدمة.

وإلى جانب حديثه حول حماية المدن من الاعتداءات الخارجية تحدث ابن خلدون عن حماية المدن من الأخطار الداخلية. ولقد تنبه لمشكلة تلوث البيئة باعتباره عدواً وآفة داخلية للمدن في تلك الفترة التي كانت الحياة فيها بسيطة جداً، ولم يستخدم فيها الإنسان الآلة، ولم يستخدم فيها البترول والمنتجات الكيماوية. وفي هذا يقول: (ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض، فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً، أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو مناقع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليه العفن من مجاورتها، فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة، وهذا مشاهد.

والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقية، فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه. ولقد يقال: إن ذلك حادث فيها، ولم تكن كذلك من قبل. وقد نقل البكري في سبب حدوثه أنه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرصاص، فلما فض ختامه صعد منه دخان إلى الجو وانقطع، وكان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه، وأراد بذلك أن الإناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلسمات لوبائه، وأنه ذهب سره بذهابه، فرجع إليها العفن والوباء، وهذه الحكاية من مذاهب العامة ومباحثهم الركيكة. والبكري لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرفه فنقله كما سمعه. والذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميات ركودها، فإذا تخللتها الريح وتفشت وذهبت بها يميناً وشمالاً خف شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات، والبلد إذا كان كثير الساكن وكثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة وتحدث الريح المتخللة للهواء الراكد، ويكون ذلك معيناً له على الحركة والتموج، وإذا خف الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته وتموجه، وبقي ساكناً راكداً وعظم عفنه وكثر ضرره. وبلد قابس هذه كانت عندما كانت افريقية مستجدة العمران كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً، فكان ذلك معيناً على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه، فلم يكن فيها كثير عفن والمرض، وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها، فكثر العفن والمرض، فهذا وجه لا غير، وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت ولم يراع فيها طيب الهواء وكانت أولاً قليلة الساكن فكانت أمراضها كثيرة، فلما كثر ساكنها انتقل حالها عن ذلك).

ومن المعروف اليوم أن ازدحام المدن بالسكان من أهم أسباب تلوثها، للعلاقة الطردية بين عدد السكان والاستهلاك بصوره المختلفة، وتزايد استخدام الآلة، أما في عصر ابن خلدون فإن ظاهرة التحضر كانت ضعيفة جداً، وأعداد من كانوا يسكنون المدن كانت محدودة، ثم إن الإنسان في تلك الفترة كان يعتبر نفسه جزءاً من البيئة، لأن سيطرته عليها وقدرته على التحكم فيها كانت محدودة، ورغم ذلك كله فلا أعتقد أن كثرة سكان المدينة في تلك الفترة تعين كثيراً على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون.

..............يتبع

- أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام - رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة